Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
انطلقت هذه المركبة، وتسمى «بايونير 3»، في أوائل شهر ديسمبر. كان صاروخها التعزيزي يتضمن الصاروخ «جوبيتر» بوصفه صاروخ المرحلة الأولى، فضلا عن مجموعة من صواريخ الوقود الصلب في المراحل العليا، وانطلقت جميعها في نجاح؛ بيد أن الصاروخ «جوبيتر» ارتفع بزاوية حادة للغاية وتوقف محركه قبل الوقت المقرر لذلك بثوان معدودة. مرة أخرى، لم يتجاوز نقص السرعة الناتج عدة أميال في الساعة، ومع ذلك كان هذا كافيا لإحداث فرق في عملية الإطلاق. كرر الصاروخ «بايونير 3» هذا السيناريو من النجاح الوشيك الذي حققته القوات الجوية، محققا ارتفاع 63580 ميلا. قدم الصاروخ «بايونير 3» إسهاما مهما في مجال علم الفضاء، من خلال اكتشاف حزام فان ألين ثان أو منطقة يعلق فيها الإشعاع، تحوط الحزام الأول. لكن، لم يتمكن «بايونير 3» أيضا من الاقتراب من القمر.
مع ذلك، بينما أخفقت الولايات المتحدة في إجراء عملية إطلاق كاملة بفارق عدة بوصات، كان كوروليف لا يكاد يجهز منصة الإطلاق. كان كوروليف قد أجرى محاولة الإطلاق الأولى في 23 سبتمبر 1958، بيد أن الصاروخ التعزيزي تفكك بعد اثنتين وتسعين ثانية فقط من إطلاقه. ولم يكن القمر في الوضع الأفضل لإطلاق صاروخ إليه إلا في بضعة أيام قليلة من كل شهر، وتزامنت محاولة كوروليف الثانية، في شهر أكتوبر، مع إطلاق «بايونير 1». لوهلة قصيرة، بدا الأمر كما لو أن سباق الصعود إلى القمر سيصير سباقا حقيقيا؛ حيث كانت صواريخ كلتا الدولتين تتنافس مثل سيارات «فورميلا ون» في سباق الجائزة الكبرى.
عندما سمع كوروليف بإجراء عملية إطلاق أمريكية ناجحة، طلب من طاقم عمله نفض النوم عن أعينهم ونسيان التعب، واحتساء كميات من الشاي الثقيل، ومواصلة العمل، وختم حديثه إليهم قائلا: «لا تقلقوا من انطلاق صاروخ الأمريكيين في رحلته إلى القمر؛ سنصعد إلى القمر قبل أن يصل إليه الأمريكيون بعدة ساعات.» لكن مرة أخرى، بعد مرور 104 ثوان على انطلاق الصاروخ من المنصة، انفجر صاروخه التعزيزي وسقط على الأرض كما لو كان عرضا للألعاب النارية.
بدا واضحا أن إضافة صاروخ المرحلة العليا إلى الصاروخ «آر-7» الأساسي قد جعلته غير صالح للتحليق. أرسل كوروليف فريق إنقاذ إلى سهول الاستبس في كازاخستان، لاسترجاع حطام الصاروخ. كانت أجزاء الحطام قد سقطت في منطقة واسعة على مسافة من موقع الإطلاق، وقال أحد أعضاء فريق الإنقاذ متذكرا هذا الحادث: «ليلا كنا نتجمد من البرد في الخيام. كانت حصص الطعام الجاف ضئيلة. لم يكن الماء متوافرا دوما؛ إذ كان يتعين في بعض الأحيان نقل الماء بعد استخراجه من الآبار في شاحنات لمسافة بضعة كيلومترات. كل من كان في كازاخستان يعلم مدى صعوبة استكشاف الطريق أو الأشياء من حولك»، وسط مناطقها السهلية المنبسطة الخالية من الأشجار. بيد أن قائد الفريق كان قد أحضر بندقية ونجح في اصطياد طائر حجل لتناوله كطعام، وكذلك نجح في إصابة غزالة عندما كان قطيع كبير من الغزلان يعبر منطقة الاستبس.
النماذج الأولى من صواريخ التعزيز الفضائية: الصاروخ «لونا» السوفييتي، والصاروخ «جوبيتر-سي» الأمريكي، والصاروخ «فانجارد»، والصاروخ «ثور إيبل»، والصاروخ «جونو 2» (دان جوتييه).
في موسكو، أصدر كوروليف تعليماته إلى كبير مصممي الصواريخ الباليستية، «إسفيت» لافروف، لتحديد المشكلة وحلها. أرجع لافروف مصدر المشكلة إلى اهتزازات قوية في خطوط الأكسجين السائل؛ وهو ما أدى إلى تحطم الصواريخ وتفككها. كانت هذه الاهتزازات قد ظهرت خلال اختبارات إطلاق الصواريخ الأولى، ورتب لافروف لاجتماع عدد من كبار العلماء، وفيهم كلديش نفسه، لعرض آرائهم كمستشارين. بعد إجراء التجارب ووضع نموذج رياضي، خلص فريق لافروف إلى أن بإمكانهم منع الاهتزازات من خلال تركيب أجهزة تخميد في خطوط الأكسجين. وبنهاية عام 1958، كان صاروخ التعزيز المعدل جاهزا.
إن المحاولات الفاشلة لإجراء عمليات إطلاق ناجحة، مع اقتراب أمريكا من تحقيق نجاح كامل في عمليات الإطلاق، وضعت كوروليف تحت ضغوط هائلة، لكنه لم يهمل التفاصيل ولم يتعجل. ذات يوم، بينما كان يزور الورشة حيث كان العمال يؤمنون وضع المركبة الفضائية في هيكل التركيب، سمع صوت مطرقة؛ كان أحد أفراد طاقم العمل قد رأى مصادفة بعض المسامير اللولبية عالقة في هيكل التركيب، وكان يحاول فكها قليلا عن طريق دقها بمفتاح ربط ثقيل. صاح كوروليف ثائرا: «ماذا تفعل بحق السماء! لماذا تدقها؟ هذه مركبة فضائية!» حاول العامل أن يوضح أنه كان يدق على هيكل التركيب، لا الصاروخ نفسه، بيد أن كوروليف رفض الاستماع إليه. لم يهدأ كوروليف إلا عندما تعهد الرجل بألا يكرر فعلته أبدا. وفي خضم صدمته من أن شخصا يتصرف على هذا النحو غير المسئول، خرج كوروليف وكان لا يزال يتمتم قائلا: «هذه مركبة فضائية .»
جاء كوروليف إلى موقع إطلاق تيوراتام قبل أعياد الكريسماس مباشرة، مصطحبا معه كلديش. كان طقس الشتاء قارص البرودة؛ إذ انخفضت درجات الحرارة إلى عشرين درجة تحت الصفر. كانت أنابيب التدفئة قد انكسرت في أحد أماكن المبيت، وكانت المواقد المؤقتة قد أطلقت دخانا كثيرا حتى إن العاملين في الموقع كانوا يتنفسون بصعوبة. كان العمال في موقع الإطلاق يرتدون معاطف وأحذية طويلة مغطاة بالفراء، غير أن كل ذلك لم يوفر إلا قليلا من التدفئة وسط الرياح العاتية القارصة البرودة. ظهرت مشكلات في أجهزة اللاسلكي؛ وهو ما أدى إلى تأخير عملية الإطلاق.
كان الأمل يراود العاملين في الحصول على بعض التدفئة باحتساء الكحول، بيد أن لجنة حكومية كانت في طريقها إلى الوصول، ولم يكن كوروليف يسمح بذلك. بعد انصراف أعضاء اللجنة، اقترب من كوروليف أحد مسئولي العمليات اللوجيستية ولاح في عينيه سؤال صامت، فأجاب كوروليف صائحا في غضب: «اللعنة عليها، وزعها.» ثم سرعان ما اصطف العاملون في صف طويل عند أحد منافذ التوزيع، ومع كل منهم إناء شاي لملئه بالمشروب الكحولي.
حلت عطلة رأس السنة، لكن كوروليف عاد إلى المنصة مرة أخرى. كان الوقت صباحا، وكانت الرياح قد هدأت، وصار الطقس أصفى قليلا. كان الوضع قبل عملية الإطلاق مفعما بالتوتر في اليوم التالي، لكن كوروليف شعر بالألفة والارتياح في هذه الأجواء. استمع كوروليف مبتهجا إلى الأصوات المألوفة لهسيس الغاز داخل الأنابيب، وهدير المحركات الكهربية، والمولدات الدائرة، والأصوات المرتفعة الصادرة عن الصمامات الآخذة في الانغلاق. حدث نفسه قائلا: «يا إلهي! كل شيء في موضعه، وفي توقيته، وكل من في المكان رائعون.»
Unknown page