قال الأمير عبد الله: «تمهل»، وصفق، فجاء الحاجب، فقال له: «لا تدع أحدا يقرب من مجلسنا.»
قال الحاجب: «سمعا وطاعة يا سيدي» وخرج وأغلق الباب خلفه.
فقال الأمير عبد الله لسعيد: «تكلم.»
فأرسل سعيد نظرة في عيني الأمير عبد الله نفذت إلى داخل أحشائه، فأحس أنه طوع إرادته. فقال سعيد: «لا ينبغي للأمير عبد الله أن يخرج عن رشده ويطعن على أخيه ولي العهد الحكم ويرد طلبه، إلا وهو على يقين مما يؤدي إليه ذلك من العواقب الخطرة، فعليك أن تتبصر في العواقب ثم تقول ما تريد، وقد ظهر لي من تلاوة هذا الكتاب أن ولي العهد كتب إليك كتابا مثله يطلب فيه عابدة فرددت طلبه، فأعاد الطلب مشفوعا بالتهديد والوعيد، فعليك إذا أزمعت الرفض أن تثبت فيه مهما كلفك ذلك، وإلا فأذعن وأطع، وكأنك لم تر عابدة ولا أتت إلى قصرك.»
فقطعت عابدة كلام سعيد قائلة: «اسمح لي يا سيدي أن أنبهك إلى أمر لعله لم يغب عن فطنتك. إني لا أري من الحكمة أن تحمل الأمير عبد الله على مخاصمة أخيه وهو صاحب القول اليوم، ولا أراه يستطيع أن يرد طلبه، ولا أحب أن أكون سبب هذا الخصام، فالأفضل أن أخرج أنا من هذا المكان أولا، فيكون عذره أني غير موجودة هنا، وأخشى إذا رد مولانا الأمير طلب أخيه وأنا باقية هنا أن يعمد إلى أخذي بالقوة، وأنا أعترف لك أني لا أريد بديلا عن سيدي الأمير عبد الله، فلا أبرح هذا المكان إلا قتيلة.»
فأعظم الأمير عبد الله تعلق عابدة به مع ما يتخلل قولها من العتاب الرقيق، وأخذته الحمية فقال: «قلت لك يا عابدة إنك في رعايتي، ولا يستطيع أحد أن يأخذك قهرا.»
فقال سعيد: «إذا كان مولاي الأمير عبد الله عازما على الرفض فليفعل، ولعله إذا تبصر في عاقبة ذلك يكون قد حقق ما فيه نفعه ونفع المسلمين.»
فأطرق الأمير عبد الله برهة وهو يفكر في مغزى كلام سعيد، فتصدى الفقيه ابن عبد البر للكلام قائلا: «أرجو أن يكون مولاي الأمير قد أدرك مغزى هذا القول، وأنا أزيده بيانا.» قال ذلك وزحف حتى التصقت ركبته بركبة الأمير عبد الله وقال بصوت منخفض: «أتذكر يا مولاي ما قلته لك بالأمس عن ولاية العهد وما يقوله الناس عن أمير المؤمنين ، وإسناده إياها إلى الحكم دون سواه؟ قلت لك يا مولاي إن الحكم لا يراه الناس كفئا لهذا المنصب لأسباب ذكرتها لك. وهم غير راضين عنه، لكنهم لا يجسرون على الكلام إن لم يجدوا من يطالب بها سواه، وهم يرون الأمير عبد الله أولى بها من الجميع، فإذا طلبها وجد أنصارا كثيرين، فإذا وافقتني وقمت بهذا الأمر، فما عليك إلا أن تقول.»
الفصل الثامن والعشرون
الجواب الثاني
Unknown page