مجلس الرشيد
أما إسماعيل، فإنه انتظر حتى فرغ الخليفة من ذلك الوفد فعاد إلى التفكير فيما جاء من أجله، وأحب أن يخاطبه على انفراد قبل أن يأتي أحد من بني هاشم أو سواهم فيحول بينه وبين ما يريد. وهو يرى الإسراع في مهمته قبل ذهاب الفرصة، فلما ذهب الوفد عاد صاحب الستارة ودعاه للدخول على الرشيد؛ إذ لا حجاب عليه، وقال: «لما علم مولانا أمير المؤمنين بمجيئك أمرني أن أدخلك عليه.»
قال: «وأحب ألا تدخل علينا أحدا ريثما أفرغ من حديثي معه.»
فوسع له الستارة ما بين شطريها، فأطل إسماعيل على الرشيد، فرآه جالسا على سرير من الذهب الإبريز مرصع بالجواهر
1
فوق سدة في صدر المجلس منصوبة بين أسطوانتين من أساطين الإيوان ، مجللتين بالوشي المنسوج بالذهب، وقد وقف عند كل منهما وصفاء في أيديهم المذبات أو المناديل، ووراء السدة من الجانبين شاكريان بيد كل منهما سيف مسلول. والسدة عبارة عن مظلة قائمة على عمد من الأبنوس المطعم بالعاج، سقفها من الديباج الأسود المزركش بالذهب برسوم جميلة، وفي حاشيته من الأمام والجانبين أهلة من الذهب مدلاة في كل هلال منها أترجة ذهب مسبك، يتدلى من كل أترجة درر كبار بينها الياقوت الأحمر والأصفر والأزرق على نظام بديع يبهر النظر. والرشيد جالس على السرير في السدة تحت المظلة، وعليه ثياب يلبسها عند استقبال قادم من كبار الملوك أو نوابهم، إذا أراد إرهابهم بعز الإسلام، وجلال الدولة، وأبهة الخلافة. وقد لبسها في ذلك اليوم لاستقبال الوفد الهندي، فكان على رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة سوداء من الخز الموشى، وبين ثناياها عقود من الجوهر بشكل مسبحات تملأ الأخلية بين تعاريج العمامة، وفي مقدمتها فوق الجبهة شبه طرة من الذهب المرصع بالجوهر والياقوت والزمرد يبرز منها كعرف الطاووس من أسلاك الذهب، وقد نظمت بها لآلئ بينها ثلاث كبيض الحمام عند قاعدة العرف. وكان على الرشيد جبة سوداء فوقها بردة النبي
صلى الله عليه وسلم . فهل يسع المقبل على تلك السدة غير التهيب؟ أما إسماعيل فكان قد تعود ذلك، وهو عاقل حكيم لا تأخذه المظاهر المبهرجة، وكان مع ذلك في شاغل من إعمال الفكرة في حال الخلافة وما يخشاه عليها من التدهور، وهو يعلم شدة انفعال الرشيد وتسرعه إذا غضب.
فلما أطل من بين شطري الستارة قال بأعلى صوته: «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
فتحرك الرشيد كأنه يتحفز للقيام إجلالا لإسماعيل، وابتسم له وهو يقول: «وعليك السلام يا عماه. مرحبا بك.»
فدخل وأسرع في خطواته ليمنع الخليفة من الوقوف له. أما الرشيد فنهض من مقعده قليلا، ومد يده وصافح إسماعيل وقال: «لقد أتيت أهلا يا عماه. أمثلك يستأذن في الدخول؟!»
Unknown page