Buasa Fi Cusur Islam
البؤساء في عصور الإسلام
Genres
الوهم والبؤس
خلق الله الإنسان من ضعف؛ فكان الوهم أول قرين له، والوهم من حيث تكوينه في الإنسان دواء الإهمال المخيف، بل هو العلقة الوحيدة التي تعلق بكل نفس جامحة إذا استولى عليها الضعف وخور العزيمة. بل هو الغاية التي يبني عليها البائس يقينه، ويشيد دعائم أركانه. بل هو الدعوى التي يؤيد بها برهانه، وتجري عليها نواميسه؛ ليوطد بواسطتها أحكام تخيلاته وتصوراته وما يعنو له من علوم مخيلته، ويستنتج منها عاداته وأطواره، وكأنه بتلك الأوهام يحيا، وبها يسمع ويرى، وعليها يموت وتنقضي أيامه.
والأوهام عبارة عن آمال كبيرة تتغلب على العجز والضعف والقوة، وهيهات أن تخلو منها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب. وربما تقف هذه الأوهام في سبيل بعض البائسين في حين من الأحيان؛ فتكون لهم حجابا من الأمل الغرار. وبهذا الوهم الكاذب ترتفع عنهم البلوى، وتنتهي، بل يهون نكد الدنيا، وتندثر جريمة الانتحار من مخيلتهم.
وقد يحدث من الوهم موت عاجل يقتل المتوهم مهما كان رقيق الإحساس، شريف العواطف، أو شجاع القلب، عظيم الجسم. وربما يكون حياة من نكد وبيل، يخلص من الموت كل منغص حزين، وكأن هذا الوهم يمثل للبائس وهو متأهب للانتحار، متقدم للإجهاز على نفسه زينة الحياة الدنيا، ويحبب إليه السعادة والغنى؛ فيتوقف عن إتمام الجريمة، ويبتسم للسعادة، ويستريح بهذه الآمال التي قادها إليه الوهم وهو على هاوية الهلاك؛ فيرجع عن عزمه، ويتوب عن غيه.
وهكذا بني الوهم من قديم الأزل على شرائع الأمم وأعناق البشر في نواميس الوجود، وبرهانا على ذلك غير الدهر وحوادث التاريخ.
والوهم ينقسم إلى قسمين؛ «الأول»: يفني الأمم ويؤدي إلى العدم، حيث تنتهي الحياة على أي حال من الأحوال، «والثاني»: يعود أملا يبعث بنفوس البائسين إلى الجهاد في معترك الحياة؛ ليحصل كل آمل على مناه، ويحظى بالغاية التي يرجوها. وكل أمة فشا فيها داء الوهم أصبحت مزعزعة الأركان، وصار التعلل لها غرضا من الأغراض الدنيوية تغدو وتروح؛ حيث تقودها الأوهام فتسير على غير هدى، وتنقاد في جميع أحوالها بأزمة الوهم الكاذب الغرار.
ولو تمعن العاقل في أطوار هذا الوهم لوجد أن ليس مع السلوان عيش، ولا مع القنوط عمل، ولا مع اليأس حياة، وليس أجلب للشر من وهم يخرج بالنفوس عن أطوارها، أو يأس يقفل باب الرجاء في وجه صاحبه؛ فيمثل له خيال الموت في أجمل صورة، ويصور له الدنيا بأشنع شكل وأقبح هيئة؛ فينتحر تخلصا من شقائه الذي هو فيه ليستريح من بؤس هذا العالم ومتاعبه. «البؤس» كلمة تدل على الشقاء، وهو شكل غير محسوس ولا ملموس، ومعناه الإملاق والعدم والفاقة والضنك والفقر. «والبؤس» أصل تعاسة الإنسان وسبب شقائه ومحنته وبلائه. والبؤس في عرفهم باب كل ويل، وسياج الكرب والقهر والغم؛ إن حل في مخلوق جلب إليه سوء الطالع، وجعله في تعب مستمر غير مرتاح الضمير، ونغص عليه حياته، وفتح له طريق الموت، وصيره على هلاك نفسه قادرا جريئا لا يخاف ولا يفزع.
ولقد خلق الله الموت للحياة ضدا لفني العالم، كما شاءت قدرته العلية في عصر محدود ودهر معدود، وكما خلق جل شأنه الموت للحياة ضدا، خلق الذكاء للشقاء حليفا؛ ولذلك لا تجد ذكيا إلا والشقاء يحدوه، وفي الحديث الشريف: «ذكاء المرء محسوب عليه.» وكما خلق الله الذكاء للشقاء حليفا، خلق الحسد للفضل قرينا؛ ولذلك لم تجد في الناس فاضلا إلا والحساد يحومون حوله، وقال الشاعر:
إني حسدت فزاد الله في حسدي
لا عاش في الدهر يوما غير محسود
Unknown page