Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
استخدام الصور والتصميمات والكلمات والموسيقى في نقل الخواطر والأفكار هو بالتأكيد أحد أكثر سلوكيات البشر تفردا. ورغم أن العديد من أنواع الحيوانات تستطيع التواصل بمجموعة متوارثة من الأصوات الملفوظة ولغة الجسد، لا يملك سوى البشر وحدهم حرية ابتكار آلاف لا تحصى من الرموز المرئية والصوتية من أجل التواصل. والبشر وحدهم لديهم القدرة على نقل هذه الرموز المبتكرة إلى نسلهم - وإلى أفراد آخرين في المجموعة - بالكامل من خلال عمليات التدريس والتعليم والمحاكاة.
على النقيض من بعض التقنيات الأخرى القديمة للغاية التي انفرد بها أشباه البشر، والتي استكشفناها في الفصول السابقة، يكاد يكون من المستحيل تحديد العمر الحقيقي لاستخدام الرموز الصوتية والمرئية لنقل الخواطر والأفكار. ويرجع ذلك بصفة رئيسية إلى أن كل الأدلة التي تشير إلى استخدام اللغة - مثل الرسومات الرمزية - أصلها حديث نسبيا، على عكس التطور الخاص بالحركة على قدمين وفقدان الأنياب؛ فببساطة لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل تواصلوا بما قد نعتبره لغة منطوقة حقيقية، ولا يوجد في أفضل الأحوال سوى أدلة هزيلة على أن البشر الناشئين كانوا قادرين على هذا السلوك البشري الفريد.
رغم أنه يبدو من المنطقي أن نفترض أن الأشكال الحديثة من لغة البشر لم تظهر على حين غرة من العدم في صورتها التامة منذ 50 ألف سنة، فإن الفكرة التي مفادها استخدام أشباه البشر الأوائل أو البشر الناشئين لأشكال أكثر بدائية من اللغة هي محض تكهنات في هذه المرحلة؛ فلم يبدأ ظهور أدلة كثيرة على التواصل بالرموز - في شكل رسومات في مواقع كهوف العصر الحجري القديم - حتى ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في سجل الحفريات، لكن هل من الدقة أن نقول إن التواصل بالرموز يعد تقنية من التقنيات؟
أدوات للتفكير
نستخدم كلمة «تقنية» عامة في الخطاب الحديث لوصف آلة معقدة مثل سفينة الفضاء والأجهزة الإلكترونية، وكذلك العمليات المعقدة مثل شبكات الكمبيوتر وأنظمة التشغيل الآلي، لكنني في هذا الكتاب استخدمت كلمة «تقنية» بمعناها الأعم والأشمل الذي يعني: «التعديل المتعمد لأي شيء أو مادة طبيعية بعناية وتأن لتحقيق هدف محدد أو خدمة غرض بعينه.» بهذا المعنى الأوسع، حين يقطع أحد قردة الشمبانزي غصنا من أجل استخدامه في التقاط النمل الأبيض من عش، فهو بذلك يستخدم تقنية، تماما مثلما كان أشباه البشر الأوائل يستخدمون تقنية حين ينزعون فرعا من شجرة ويسنونه ليصنعوا منه رمحا، لكن حتى في هذه الأمثلة يشير مفهوم «التقنية» حصرا إلى صناعة أشياء مادية واستخدامها.
غير أننا إذا وصفنا التقنية بأنها «تعديل أي مادة طبيعية بعناية وتأن لتحقيق هدف محدد»، فلا بد أن نضيف كأمثلة على التقنيات استخدام الأصباغ لرسم تصميمات وصور على جدران الكهوف، واستخدام أدوات حجرية لنحت تصاميم على أسطح العظام، خاصة حين تكون هذه السلوكيات موجودة كتقاليد ثقافية يتشاركها أفراد جماعة اجتماعية. ورغم أن تلك التقنيات ربما لا تستخدم من أجل أي غرض مادي - مثل صيد الحيوانات أو صناعة الملابس أو بناء المساكن - فهي تستخدم بالتأكيد بعناية وتأن لتحقيق غرض محدد؛ ألا وهو نقل الخواطر والأفكار البشرية.
إذا وسعنا نطاق المعنى المقصود ب «التقنية» أكثر قليلا، فسيمكننا أن ننظر إلى التعديل المتعمد والواعي للصوت البشري باعتباره أحد أشكال التقنيات؛ لأن الصوت البشري ظاهرة طبيعية عدلناها عن عمد لإصدار أصوات محددة تمثل الأفكار البشرية رمزيا. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تطور أشكال الموسيقى والرقص والغناء التي ربما كان لها أشكال بدائية، في البداية، بين أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئين.
باختصار، كل أشكال استخدام الرموز المكتسب منها والمنقول ثقافيا هي في واقع الأمر أدوات للتفكير، ابتكرت بعناية وتأن واستخدمت عمدا بغرض نقل المعرفة المشتركة لدى مجتمع بشري محدد لأي من أفراده الأحياء. هذا صحيح، سواء كانت الأدوات تستخدم لابتكار رموز مرئية - مثل الرسومات أو التصاميم أو الأيقونات أو الكلمات المكتوبة - أو تستخدم في ابتكار رموز مسموعة، مثل الكلمات المنطوقة أو الأغنيات أو الموسيقى. باختصار، كانت تقنية استخدام الرموز هي التي حررت البشر من قيود التواصل المبرمج مسبقا.
ازدهار التواصل الرمزي
لا بد أن نشير إلى أن حيوانات بدائية مثل الحشرات الاجتماعية طورت طرقا بارعة لتبادل المعلومات بعضها مع بعض؛ فالنمل يبلغ عن وجود الطعام والخطر بإطلاق هرمونات من أجساده فيكتشفها نمل آخر في الحال. كذلك يبلغ النحل عن موقع الزهور المتفتحة في بيئته بالاستغراق في رقصات اهتزازية معينة على جدران خلاياه ليصف هذه المصادر للرحيق واللقاح واتجاهها والمسافة بالتحديد التي تفصلها عن الخلية. وكل أنواع الحيوانات - من الحشرات حتى القردة - تصدر طائفة هائلة من الأصوات لإبلاغ أفراد آخرين من نوعهم بالمعلومات.
Unknown page