149

Bila Quyud

بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية

Genres

24

لكن على الرغم من إعلانات الاستقلال والسيادة الوطنية لم تكن الدول القومية في العصر الحالي مستقلة تماما؛ فقد خلقت التجارة العالمية، التي ازدهرت سريعا خلال القرن التاسع عشر، تكاملا اقتصاديا حيويا بين دول العالم منذ فترة طويلة. ومن حقائق الحياة أنه بحلول فجر القرن العشرين، كان قد أنشئ بالفعل اقتصاد عالمي لا يمكن لأي دولة قومية أو منطقة اقتصادية واحدة أن تزدهر فيه بحق دون الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع العديد من الدول الأخرى.

اتضح الواقع الصارخ لهذه الحقيقة على نحو مذهل، في يونيو عام 1930م، عندما أقر الكونجرس قانون تعريفة سموت-هاولي الجمركية في محاولة مضللة لحماية الصناعة والزراعة الأمريكية من المنافسة الأجنبية خلال التدهور الاقتصادي الذي بدأ عام 1929م، لكن عندما ردت دول أخرى بالمثل - وخاصة كندا، أهم شريك تجاري لأمريكا - برفع تعريفاتها الجمركية على السلع الأمريكية، دخل نظام التجارة العالمية بأكمله في تدهور سريع؛ إذ انخفضت واردات الولايات المتحدة من أوروبا من 1,3 مليار دولار إلى 390 مليون دولار بين عامي 1929 و1932م، في حين تقلصت الصادرات الأمريكية إلى أوروبا من 2,3 مليار دولار إلى 784 مليون دولار خلال السنوات الثلاث نفسها. الواقع أن التجارة العالمية ككل تراجعت بمقدار الثلثين بين عامي 1929 و1934م؛ مما أدى إلى إغراق جميع دول العالم الصناعية في حالة الركود الاقتصادي الذي ساد في الكساد الكبير.

ظهور الدولة القومية بصفتها الشكل الغالب للمجتمع البشري كان أعظم اندماج اجتماعي فريد من نوعه في تاريخ البشرية؛ فلم يسبق أن اعتبر ملايين من الناس أنفسهم إخوة ينتمون إلى الجماعة الإثنية نفسها، وهم يعيشون في آلاف المجتمعات الجغرافية المتمايزة. من الجدير بالذكر أنه في الوقت نفسه الذي زاد فيه عدد سكان العالم من أقل من مليون نسمة إلى سبعة مليارات نسمة وأكثر، ظل عدد المجتمعات البشرية المستقلة يتقلص بالفعل.

لا يوجد سبب لافتراض أن هذا التاريخ الطويل من الاندماج الاجتماعي قد بلغ نهايته، أو أن البشر سيظلون مقسمين دائما إلى مائتي دولة مستقلة؛ فكثيرا ما أدى التقدم الكبير في تقنيات التفاعل إلى اندماج اجتماعي أنشأ جماعات بشرية أكبر بكثير من تلك التي كانت موجودة من قبل. وبما أن اختراع تقنية المعلومات قد أوجد الآن أشكالا جديدة وأقوى من النقل والاتصالات، فمن المنطقي أن نتوقع اقتراب البشرية من عملية كبرى أخرى من الاندماج الاجتماعي في المستقبل غير البعيد. في الواقع، أرسي بالفعل أساس أول حضارة عالمية بحق للبشرية، وإذا أنعمنا النظر يمكننا أن نرى بالفعل الخطوط العريضة المؤقتة لعالم مستقبلي يتشكل خارج حدود دول العالم القومية.

ولادة الحضارة العالمية

إن بذور الحضارة العالمية متعددة، وبعضها قديم جدا؛ فقد بدأت قديما منذ زمن يسوع الناصري على الأقل، الذي بشر بأن كل البشر يتساوون في نظر الله، وأنه بقبول يهوه باعتباره الإله الحقيقي الوحيد يستطيع أي شخص، بصرف النظر عن ثقافته الأصلية، أن ينضم إلى جماعة المؤمنين. وبعد ألفي عام بلغ عدد أتباع يسوع أكثر من ملياري شخص، وصاروا يشكلون أكبر جماعة دينية على وجه الأرض.

وقد مارس الرومان نموذجهم العلماني الخاص من التقبل الثقافي والمساواة الإنسانية، فمنحوا امتيازات المواطنة الرومانية للحلفاء المفضلين، وشيدوا الطرق والحمامات العامة وشبكات المياه العذبة المعقدة، ليس فقط من أجل راحتهم وسلامتهم، ولكن أيضا لرفاهية شعوبهم، وملئوا مخازن غلال مستعمراتهم لحماية رعاياهم من الجوع، وأقاموا المدرجات والمسارح الكبرى للترفيه عن الجميع، وكانوا في أغلب الأحيان يمنحون الشعوب التي يغزونها حرية ممارسة طقوسهم الثقافية وعبادة آلهتهم. في الواقع، كان تسامح الرومان تجاه التقاليد الثقافية الأخرى، جنبا إلى جنب مع شعورهم بالمسئولية عن رفاهية كل شخص يعيش تحت سيطرتهم، هو المسئول إلى حد كبير عن استقرار المجتمع الروماني واستمرار الحكم الروماني طوال سنوات العالم القديم.

في القرون التي أعقبت سقوط روما انتشرت أديان الهندوسية والزرادشتية والمسيحية والبوذية والكونفوشيوسية والإسلام انتشارا واسعا بين ثقافات متنوعة وعبر مناطق جغرافية مترامية. وقد قامت جميع هذه المعتقدات على مبدأ الإدماج الثقافي، وكانت فلسفاتها الشمولية هي التي مكنتها من استيعاب الشعوب الجديدة والأعراق الجديدة، وتجاوز الحدود الثقافية، والصيرورة إلى أديان عالمية بحق.

يجب ألا ننسى أن هذه الديانات الشمولية العظيمة نشأت وازدهرت في وقت لم يكن يمارس فيه الكتابة سوى عدد قليل من أفراد النخبة، عندما كان امتطاء الخيل هو أسرع وسيلة للنقل، حين كانت الطرق بين المدن قليلة ومتباعدة، وعندما كانت السفينة الشراعية عبارة عن سفينة خشبية صغيرة من المرجح أن تدفعها المجاديف مع الرياح. وهذا وحده شهادة على قوة فلسفاتها وجاذبية مؤسسيها، الذين بشروا جميعا بعقيدة الاندماج المتعدد الثقافات. ويوحي النجاح الكبير لهذه الديانات القديمة بأنه سيكون هناك عملية اندماج ثقافي مماثلة على الأرجح مصيرا نهائيا لجنسنا.

Unknown page