Bertrand Russell Muqaddima Qasira
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
1
بعد رحلة العودة من شكل من أشكال مذهب الظواهر أو ما يشبهه، أعاد راسل التفكير في المشكلات التي أصبح يرى أنها لم تكن محل معالجة مناسبة في ظل افتراضاته المبنية على مذهب الظواهر. ونتج عن ذلك كتاب «ما وراء المعنى والحقيقة» (1940) حيث يناقش فيه ثانية علاقة التجربة بالمعرفة المشروطة، وكتاب «المعرفة الإنشائية» (1948) ويعود فيه - من ضمن أمور أخرى - إلى موضوع تركه دون أن يناقشه مناقشة مناسبة في الكتابات السابقة؛ وهو الموضوع المهم المتعلق بالاستنتاج غير البرهاني (غير الاستدلالي)، من النوع الذي يفترض عموما أنه يستخدم في العلوم.
تستحق كل مرحلة من هذه المراحل على مدى تطور فكر راسل مناقشة مستفيضة، ويمكن الاطلاع عليها في الأعمال المذكورة في قسم القراءات الإضافية في نهاية الكتاب. وفي الأقسام التالية أقدم سردا موجزا لهذه المراحل.
رفض المثالية
تتخذ المثالية عددا من الصور المتباينة، ولكن عقيدتها الأساسية مفادها أن الواقع في جوهره له طابع ذهني. ولعل مصطلح «الفكرية» من الممكن أن يكون تسمية أفضل من المثالية، فمصطلح «المثالية» من المصطلحات الفنية في الفلسفة، وليس له علاقة بالمعاني العادية لكلمة «مثالي». والمثالية - في إحدى صورها، وفي رأي بيشوب بيركلي - هي الفرضية القائلة بأن الواقع يتألف جوهريا من مجموعة من العقول وأفكارها. وأحد هذه العقول غير متناه، وتنشأ منه معظم الأفكار؛ ويعتبره بيشوب هو الذات الإلهية. وفي آراء لاحقة من النوع الذي يعتنقه تي إتش جرين وإف إتش برادلي - وكلاهما تأثر تأثرا كبيرا بالمثالية الألمانية - تكون الفرضية هي أن الكون يتألف جوهريا من عقل واحد يستشعر نفسه، إذا جاز التعبير. وهما يؤكدان أن خبرتنا المحدودة والجزئية والفردية، والتي تخبرنا أن العالم يتألف من مجموعة متعددة من الكيانات ذات الوجود المنفرد - والكثير منها، إن لم يكن معظمها، مادية أكثر منها ذهنية - متناقضة، أو على أقل تقدير مضللة. وتعددية الأشياء هذه ليست إلا «مظهرا»، يخفي الطبيعة الحقيقية للواقع بدلا من أن يصورها. ويشي هذا بفكرة مهمة ملازمة للمثالية ، تعلم راسل أن يتقبلها؛ وهي أنه نظرا لأن التعددية عبارة عن مظهر مضلل، فإن الحقيقة هي أن كل شيء متصل بكل الأشياء الأخرى في الكون؛ ولذلك فإن الكون عبارة عن شيء واحد، وكل شيء هو عبارة عن كيان واحد. وهذا الرأي يعرف بمذهب «الأحادية».
حين رفض مور وراسل المثالية في عام 1898 (وكان نشر مقال مور في ذلك العام، وعنوانه «طبيعة الرأي»، علامة على ذلك الرفض) اعترض كل منهما على الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها المثالية، وهي أن التجربة ومكوناتها تعتمد بعضها على بعض اعتمادا متبادلا ومعقدا، وأن كل شيء عبارة عن كيان واحد. وبهذه الطريقة التزما بمذهب «الواقعية»، وهي الفرضية التي تقول بأن مكونات الخبرة منعزلة عن الخبرة ذاتها، والتزما بمذهب «التعددية»، وهي الفرضية القائلة بأنه يوجد الكثير من الأشياء المستقلة المنفردة في العالم.
كان راسل يرى أن المثالية والفكرة الملازمة لها - الأحادية - تنشآن من نظرة «للروابط» تفسح، فور دحضها، المجال للواقعية التعددية. والروابط تعبر عنها تعبيرات مثل «أ تقع على يسار ب»، و«أ موجودة قبل ب»، و«أ تحب ب». كان راسل يرى من وجهة النظر المثالية أن كل الروابط «داخلية»، بمعنى أنها عبارة عن صفات للأطراف التي تصل بينها، وتظهر - في وصفها الكامل - كصفات للكل الذي تؤلفه بما فيها من أطراف. يكون هذا أحيانا قابلا للتنفيذ؛ ففي «أ تحب ب» فكرة محبة «أ» ل «ب» عبارة عن صفة ل «أ» - بمعنى أنها عبارة عن حقيقة عن طبيعة «أ» - والحقيقة المعقدة التي تدل عليها «أ تحب ب» تحمل صفة المحبة التي يتلقاها «ب» من «أ». ولكن إذا كانت كل الروابط داخلية، يترتب على ذلك فورا أن الكون يتألف مما يطلق عليه الفيلسوف المثالي هارولد جواكيم «الكل ذو المعنى»؛ لأنه يعني أنه من طبيعة أي شيء أن يكون متصلا بكل شيء آخر؛ وبناء على ذلك، فإن أي وصف كامل لأي شيء سيطلعنا على كل شيء عن الكون بالكامل، وبالعكس. يعبر برادلي عن هذه الجزئية كما يلي: «الواقع واحد. ويجب أن يكون مفردا لأن التعددية - في حالة الإقرار بأنها حقيقية - تناقض نفسها؛ فالتعددية تفترض ضمنا وجود الروابط، وهي تفرض دائما كرها وجود وحدة عليا، وذلك من خلال روابطها» (المظهر والواقع، ص519).
رد راسل معترضا على هذا الرأي بقوله إن أتباع مذهب المثالية يرتكبون خطأ جوهريا، وهو أنهم يفترضون أن كل القضايا تتخذ صيغة الموضوع والمحمول. فلنأخذ عبارة «الكرة مستديرة». يمكن استخدام هذه العبارة للتعبير عن قضية تسند فيها صفة الاستدارة إلى كرة معينة («تسند» معناها: تنطبق على، تقال عن). ففي رأي راسل، أخطأ أتباع مذهب المثالية حين ظنوا أن كل القضايا - حتى الارتباطية - تتخذ شكل الموضوع والمحمول؛ مما يعني أن كل قضية يجب أن تؤلف في التحليل النهائي إسنادا عن الواقع ككل، وأن الروابط في حد ذاتها غير واقعية. على سبيل المثال: من وجهة النظر المثالية، ينبغي فهم القضية «أ موجودة إلى اليسار من ب» على أنها تقول: «الواقع يتصف بصفة أن أ تبدو إلى اليسار من ب» (أو نحو ذلك).
ولكن إذا رأى المرء أن الكثير من القضايا ارتباطي في الشكل على نحو يتعذر فصمه، فإن المرء هكذا يرى أن الأحادية زائفة؛ فقولنا إن الكثير من القضايا ارتباطي على نحو يتعذر فصمه يساوي قولنا إن الروابط حقيقية أو «خارجية»؛ فهي لا تقوم على الأطراف التي تصلها؛ فالرابطة «إلى اليسار من» لا تنتمي في حد ذاتها إلى أي شيء مكاني، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يوجد شيء مكاني إلى اليسار من أشياء أخرى. وذهب راسل إلى أنه لكي نضمن صحة أن «أ على يسار ب»، يجب أن يكون لدينا «أ» وكذلك «ب» «على نحو منفصل» حتى تصبح الأولى طرفا في رابطة مع الثانية، وهي رابطة «إلى اليسار من». وبالطبع فإن قولنا بوجود أكثر من شيء واحد معناه رفض الأحادية.
ويشكل رفض الأحادية رفضا للمثالية في رأي راسل؛ لأنه من الضروري في المثالية أن تكون الرابطة التي تربط الخبرة بالأشياء المكونة لها رابطة داخلية؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول بعدم وجود رابطة من هذا النوع؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول إن الروابط غير حقيقية. ولكن في رأي راسل المخالف القائل بأن الروابط حقيقية، لا يمكن دمج الخبرة مع الأشياء المكونة لها؛ بمعنى أن تلك الأشياء موجودة بمعزل عن كونها أشياء تستشعر. ويصب هذا في صميم ما كان يقصده كل من راسل ومور بالواقعية.
Unknown page