ويخيل إلي أن الكتاب الغربيين يقدرون هذا الطور من حياتهم وحياة قرائهم قدره، فهم يرفقون بأنفسهم وبالقراء إذا أقبل الصيف، وهم يتخففون من الموضوعات الضخمة الفخمة، والمسائل المشكلة المعضلة التي يعرضون لها في غير الصيف من فصول السنة، وهم لا يعرضون من الأحاديث إلا للسهل اليسير الذي لا يكلف المتحدث ولا السامع مشقة، ولا يكلفه جهد التروية والتفكير، وهم ينتهون - بفضل هذا الرفق بأنفسهم وبالقراء - إلى إنشاء أدب خاص يتناول موضوعات قلما تتناول في غير فصل الصيف، ويتناولها في صور قريبة مواتية قلما تظهر في الشتاء أو الربيع.
وهذا الأدب الخاص الذي تمتلئ به الصحف الغربية في هذا الفصل من فصول السنة يمكن أن نسميه: أدب الصيف، أو أدب الإجازة، أو أدب الراحة والاستجمام.
وموضوعات هذا الأدب الصيفي تفرض نفسها على الكتاب والقراء فرضا، كما أن موضوعات الأدب كلها تفرض نفسها فرضا على الكتاب والقراء الذين يستحقون أن يسموا كتابا وقراء. فإذا أقبل الصيف تفرق الطلاب والتلاميذ وفرغوا لحياة الأسرة وقتا غير قصير، فتغيرت حياتهم تغيرا ظاهرا، وكانت خليقة أن تثير عناية الكاتب وعناية القارئ معا، وأن تدعوهما إلى التفكير المشترك فيما يلقى الطلاب والتلاميذ من الجهد العنيف المحتوم أثناء السنة الدراسية، وفيما ينتهي إليه الطلاب والتلاميذ من نتائج هذا الجهد التي ينكشف عنها الامتحان، وفي الملاءمة بين هذا الجهد المتصل وبين طاقة الطلاب والتلاميذ وانتفاعهم وتكون عقولهم، وأخلاقهم وأجسامهم، وفي حياة الدرس وحياة الفراغ، وما يكون للأسرة من تأثير في هذه الحياة أو تلك ومن تأثر بهذه الحياة أو تلك، وأظن أن موضوعا من هذه الموضوعات خليق أن يلهم الكاتب المجيد فصولا خصبة قيمة تثير في نفس القارئ كثيرا من العواطف، وتدفعه إلى كثير من التفكير.
على أن الطلاب والتلاميذ إذا فرقهم الصيف من مدارسهم، وردهم إلى الآباء والأمهات، لم يستقروا في دورهم ومنازلهم أكثر الوقت، وإنما يزعجهم الصيف عنها إزعاجا، أو قل: إنهم ينتقلون عنها مختارين، وقد تهيئوا لهذا الانتقال، وتهيأت له أسرهم أيضا. وأكبر الظن أن هذا الانتقال قد كان عزاءهم وعزاء آبائهم وأمهاتهم عما يجدون من جهد، وما يلقون من عناء في الدرس المرهق والعمل المتصل، وأكبر الظن أنهم كانوا يتمثلون هذا الانتقال وما سيعقبه من راحة لأجسامهم وعقولهم، ومن تغيير لما يرون ويسمعون ويحسون.
كانوا يتمثلونه أول العام آسفين عليه بعد أن قضوا حاجتهم منه، ثم يتمثلونه أثناء العام مشوقين إليه بعد أن بعد عهدهم به، ثم يتمثلونه آخر العام راغبين فيه أشد الرغبة، مندفعين إليه أشد الاندفاع يعدون الأيام والليالي التي تفصل بينهم وبينه، ويستعينون بذلك على المسائل المشكلة، والكتب الطوال الثقال، وعلى أهوال الامتحان التحريري وأخطار الامتحان الشفهي، وعلى هذه الساعات المخوفة التي تعلق فيها نتائج الامتحان على جدران المدارس والجامعات. وإذا تفرق الطلاب والتلاميذ مع أسرهم فهم يهجرون دورهم ومنازلهم ومدنهم وقراهم إلى الجبال أو إلى البحار، أو إلى البحيرات، أو إلى السهول الجميلة النضرة والغابات الكثيفة الملتفة. وكل هذا خليق أن يوصف، وأن يكون موضوعا للحديث الطريف الممتع.
والغريب أن الزمن يستدير في كل عام كهيئته في الأعوام التي مضت، وأن الصيف يلم ويمضي، وأن الطلاب والمدرسين يتفرقون عن مدارسهم ويعودون إليها، ويلمون بأسرهم ويرحلون عنها، ويقصدون إلى الجبال والبحار وإلى الأودية والسهول، ثم يردون إلى مدارسهم وجامعاتهم، كما يرد الآباء والأمهات إلى مناصبهم وأعمالهم، وأن الكتاب يتحدثون إليهم في كل صيف عن هذه الموضوعات دون أن يستنفدوا ما يقال عنها أو يكتب فيها، ودون أن يكرروا ما يقولون، أو يعيدوا ما يكتبون، كأن كل صيف إذا أقبل يقبل بشيء جديد، ولا يعود على الناس بمثل ما كان قد حمل إليهم من قبل. هذا غريب في ظاهره، ولكن قليلا من التفكير الذي يحتمله الصيف ولا يمنع منه اشتداد القيظ يدل على أن هذا لا غرابة فيه، فكل صيف يقبل ككل يوم يقبل، إنما يحمل إلى الناس ذكريات لما مضى، وآثارا لما انقضى، فيها الرضى وفيها السخط، فيها اللذة وفيها الألم، ويحمل إليهم كذلك آمالا فيما يقبل من الدهر، كما يحمل إليهم خوفا وإشفاقا.
بل إن كل صيف يقبل ككل يوم يقبل، لا يحمل الجديد للناس وحدهم، وإنما يحمل الجديد للأشياء أيضا، فهل أنت واثق بأن الغابة التي تراها في هذا الصيف بعد أن رأيتها في الصيف الماضي قد احتفظت لك بكل ما أرتك في العام الماضي من شجر وزهر، ومن أوراق وغصون، ومن طير وحيوان؟ هل أنت واثق بأنها لم تغير هذا كله أو بعضه، أو بأن الأحداث لم تغير هذا كله أو بعضه، ولم تذهب منه بما رأيت، ولم تحدث لك منه ما لم تر؟ وهل أنت واثق بأنك حين تعود إلى هذا المصطاف الذي تعودت أن تنفق فيه الصيف، ستلقى الوجوه التي لقيتها في العام الماضي، وتسمع الأحاديث التي سمعتها في العام الماضي، وتخوض مع الناس فيما كنت تخوض معهم فيه أثناء العام الماضي؟ كلا، بل أنت واثق بأنك ستلتمس كثيرا من الأشياء التي أعجبتك وراقتك حين ألممت بهذا المكان أو ذاك، فلا تجدها، وستحزن عليها شيئا من حزن، وستثير غيبتها في نفسك قليلا أو كثيرا من الأسى، وستجد في هذا الأسى وذلك الحزن شيئا من هذه اللذة الشاحبة التي نسميها: الشوق والحنين. فأي غرابة في أن يجد الكتاب والشعراء جديدا يتحدثون به إلى الناس كلما أقبل الصيف؟
وإني لأعرف فصلا من فصول الأدب الصيفي الفرنسي، رأيته يتجدد في كل عام إذا أقبل الصيف، وجعلت أتتبع بعض ما أستطيع أن أتتبعه منه كلما سنحت لي الفرصة، فما أحسست أني ضقت به أو زهدت فيه أو أدركني سأم من قراءته، ولا أحسست أني أقرأ شيئا معادا وحديثا مكررا.
وما أشك في أن هذا الفصل من الأدب الفرنسي الصيفي قديم قد بدأ الفرنسيون في كتابته منذ زمن بعيد، وما أشك في أنه سيظل جديدا أبدا، سيكتب الفرنسيون فيه كل عام لا يسأمهم ولا يسأمونه، وهو وصف باريس إذا أقبل الصيف فخلت من أهلها الباريسيين، واستعدت للقاء زوارها الغرباء.
كثير جدا ما يقوله الفرنسيون في مدينتهم هذه حين ترسل أهلها إلى الجبل والبحر، وتستقبل الغرباء من أهل الأقاليم أو من أهل البلاد الأخرى القريبة والبعيدة، فهم يصفون شكل المدينة الذي يتغير ويختلف بتغير المضطربين فيها، والمندفعين في شوارعها والمزدحمين على قهواتها وأنديتها، وهم يصفون لغة باريس أو لغة أماكن معينة في باريس، فهي فرنسية باريسية أثناء العام، ولكنها فرنسية إقليمية أو فرنسية أجنبية أثناء الصيف. وهم يصفون هذه الملاهي والملاعب التي تغلق أبوابها وترسل أصحابها إلى مدن الصيف، وهذه الملاهي والملاعب التي لا تغلق أبوابها، وإنما ترسل رجالها إلى مدن الصيف، وتستخدم ما يسمونه: البطانة؛ لتلهية الغرباء وتسليتهم. ثم هم يصفون هؤلاء البائسين من الباريسيين الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى أن يقيموا في باريس حين يرحل عنها الناس، فإن كانوا من الفقراء أو من الطبقات الوسطى احتملوا مقامهم في مدينة النور المهجورة في شجاعة وكبرياء، وصبر على المكروه، وإن كانوا من الأغنياء والمترفين احتملوا ذلك في حياء شديد، وجدوا في التنكر والاستخفاء. فإن لقيهم لاق أو عثر بهم عاثر اجتهدوا في التماس المعاذير والتعلات، يعللون بها ما لا يقبل التعليل من إقامتهم في هذا البلد الذي لا مقام فيه لرجل يعرف الذوق والأوضاع الاجتماعية، ويعرف ما يليق وما لا يليق، وما يحسن وما لا يحسن.
Unknown page