بين الأدب والسياسة
أدب الصيف
حوار في الأدب
عيد
طيف
ضمير حائر
الضمائر القلقة
في الذوق
خوف
النفوس القلقة
الوسائل والغايات
لبنان
الصيف
دين
شياطين الإنس ... والجن
جوع وأحاديث
بين الأدب والسياسة
أدب الصيف
حوار في الأدب
عيد
طيف
ضمير حائر
الضمائر القلقة
في الذوق
خوف
النفوس القلقة
الوسائل والغايات
لبنان
الصيف
دين
شياطين الإنس ... والجن
جوع وأحاديث
بين بين
بين بين
تأليف
طه حسين
بين الأدب والسياسة
جد وهزل
نعم جد وأي جد، لك ما شئت وما لم تشأ، إن استطعت أن تظفر بجد أحزم وأصرم وأعظم وأقسى من هذا الجد الذي يلم بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها حزنا لا يشبهه حزن، وفي بعض نواحيها الأخرى سرورا لا يقاس إليه سرور.
نعم، وهزل أي هزل، لك ما شئت وما لم تشأ، إن استطعت أن تظفر بهزل أبدع أو أروع أو أخف على الروح، أو أدعى إلى الضحك، أو أقدر على التلهية والتسلية من هذا الهزل الذي يلم بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها قهقهة وإغراقا في القهقهة، ويثير في بعض نواحيها الأخرى بكاء لا يبخل أصحابه بالدموع.
وتعال معي يا سيدي فانظر عن يمين، ثم انظر عن شمال، واسمع لما يأتيك من هذا الوجه، ثم اسمع لما يبلغك من ذلك الوجه، ثم حدثني أو حدث الناس بما ترى وما تسمع إن استطعت أن تخلص للحديث، فإني أخشى أن ترى من ملكهم الحزن فتحزن، أو ترى من ملكهم الضحك فتغرق معهم فيما هم مغرقون فيه.
انظر يا سيدي إلى يمين، فسترى أصحاب الجاه الرفيع والعز المنيع والسلطان الواسع والصوت البعيد قد ردوا إلى حياة لو أنها برئت من الجاه والعز، وخلت من سعة السلطان وبعد الصوت لكانت على أصحابها شرا ونكرا، ولكنها امتلأت بالعبر التي جعلتها نكالا لما بين يديها وما خلفها، وعظة لمن يستطيع أن يتعظ، ودرسا لمن يحسن أن يفهم عن الأيام ما تلقي من دروس.
انظر يا سيدي عن يمين ؛ فسترى الإبراشي باشا كاسف البال، ضيق الصدر، شاحب الوجه، مقطب الجبين، مخفوض الرأس، مقوس الظهر، مطبق الفم، معقود اللسان، وسترى من حوله الغرور وبنات الغرور، ثم اليقظة وبنات اليقظة، وهن يتراقصن ويتبادلن فيما بينهن أحاديث عنيفة لينة فيها حزن ويأس، وفيها سخرية ودعابة، والرجل بين هؤلاء الراقصات يقظان كالنائم، ونائم كاليقظان، قد زلزلت به الأرض زلزالا شديدا، لم يتصل ولم يطل أمده، ولكن الأرض على ذلك ما زالت تدور به وتضطرب من تحته، حتى أصبح لا يملك قدرة على أن يحقق شيئا أو يثبت في نفسه شيئا، أو يفكر في شيء، أو يقدر شيئا، إنما هو داخل مأخوذ يرى هؤلاء الراقصات يضطربن من حوله، بعضهن ينتحبن ويبعثن في الجو نشيجا وزفيرا، وبعضهن يضحكن ويبعثن في الجو صياحا متصلا، فيه الرضى وفيه الابتهاج، وفيه السخر من طغيان الطغاة والاستهزاء بظلم الظالمين، والاستخفاف بهذه الآمال العذاب الكذاب، التي تملأ الإنسان غرورا وجهلا وحمقا وثقة بالنفس واطمئنانا إلى الأيام، والرجل يرى ولا يحقق، والرجل يسمع ولا يفهم، والرجل قد أخذه هذا الذهول، حتى إنه ليود لو استطاع أن ينهض فيرقص مع هؤلاء الراقصات المحزونات، أو يدور مع هؤلاء الدائرات المبتهجات؛ ولكنه واهن، خائر القوى، منهوك الجسم كما أنه منهوك العقل، قد سكن هو واضطرب من حوله كل شيء، بل سكن جسمه واضطرب في نفسه وعقله وقلبه وجوفه كل شيء.
ثم انظر يا سيدي وأبعد النظر قليلا؛ فسترى رجلا آخر قد تقدمت به السن بعض الشيء، وأرسلت على صدره لحيته إرسالا، ودارت على رأسه خرقة بيضاء ... هو جاثم في مكانه يهم أن يقول فلا يستطيع أن يقول، يهم أن يعمل فلا يستطيع أن يعمل، يهم أن يفكر فلا يستطيع أن يفكر، وإنما أخذت عليه طرق القول والعمل والتفكير أشباح لا تنقطع تمر أمامه متتابعة، وهو يراها تخرج من مكانها لا يستطيع لها ردا، ولا يملك منها مهربا، ولا يبلغ لها إحصاء، يرى كأن الأرض تمر أمامه مرا، ولا يمر منها جزء إلا انفتح فيه قبر، وخرج من هذا القبر شبح أو أشباح، وهو لا يدري ما خطب هذه الأشباح التي تطيف به، وتدور من حوله، وتنشق له عنها الأرض، وتنفتح له عنها القبور، وهو يكاد يصيح لو استطاع الصياح، ويكاد يسأل لو أطاق السؤال، ولكن هاتفا يهتف به: أرح نفسك من السؤال والصياح؛ فإنما أنت رجل تحب القبور وزيارة القبور، وأنت رجل محزون مكدود، لا تستطيع أن تسعى إليها زائرا ولا عاتبا ولا متوسلا ولا مستعطفا، فهي تسعى إليك، وهي تلم بك وتقف عندك، وهي تقرأ ما في نفسك، وتفهم ما في قلبك، وكم تحب أن تجيبك إلى ما تبتغي، وتعينك على ما تريد، لولا أن القبور لا تملك للناس نفعا ولا ضرا، ولا تغني عنهم من الله شيئا.
لقد ألممت بالقبور إلماما في إثر إلمام، وأطلت عند القبور مقاما في إثر مقام، فانظر لهذه القبور تلم بك، وتقيم عندك. ولقد وقفت عند القبور فهمهمت ودمدمت وزمزمت وتمتمت، فاسمع لهذه الأشباح التي تنشق لك عنها القبور، إنها من حولك تهمهم وتدمدم وتزمزم وتتمتم، ولقد ضاعت جهودك عند القبور، وجهود القبور ضائعة عندك، لم تحفظ عليك قوتك حين كنت قويا، ولم ترد عنك ضعفك حين أصبحت ضعيفا، الله وحده هو الذي يحفظ القوة على الأقوياء، ويرد الضعف عن الضعفاء، ولكنه قد قضى ألا يحفظ قوة على قوي، ولا يرد ضعفا عن ضعيف، حتى يخلص له قلبه ونيته وقوله وعمله، فليتك أخذت من بعض هذا بحظ، فيغني عنك الآن حين لا يغني أحد ولا شيء عنك من الله شيئا. والرجل يرى، والرجل يسمع، والرجل لا يحقق ما يرى ولا يفهم ما يسمع، وإنما هو قلب مضطرب، وعقل مختلط، ونفس مفرقة، وخواطر مشردة، وعبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
وأبعد نظرك يا سيدي قليلا، فسترى أشباحا ضئيلة نحيلة شاحبة ذائبة أو كالذائبة تذهب وتجيء، تقول وتعمل، تتصرف تصرف الأحياء؛ وليست من الحياة في شيء، إنما هي حياة كالموت، أو موت قد ترددت فيه أنفاس من حياة، وأطل النظر إلى هذه الأشباح الذاهبة الجائية الرائحة الغادية، فستتبين بعد الجهد والعناء أشخاصها، وستعلم أنها أشخاص قوم كان إليهم الحول والطول، وكان في أيديهم الحل والعقد، كانوا وزراء يأمرون وينهون، يرفعون ويخفضون، يذلون ويعزون، يبسطون الرزق لمن يشاءون، ويكفون الرزق عمن يشاءون، يقضون بأهوائهم فيما لا ينبغي أن يقضى فيه إلا بأحكام الدستور والقانون، ولكنهم ألغوا الدستور وأهدروا القانون، واتخذوا من أهوائهم وشهواتهم نظما تقوم مقام الدستور والقانون.
انظر إليهم يا سيدي أين هم وسلهم، أو سل عنهم يا سيدي، ما خطبهم وماذا يصنعون؟ لقد لفظتهم الأرض ونبذهم الناس، وانصرف عنهم أشد الناس إلحاحا عليهم وحبا لهم وتهالكا على تملقهم، تحدث إليهم يا سيدي إن استطعت، فلن تسمع منهم إلا ما يصور الضغينة والحقد، والموجدة والبغض، واليأس والقنوط، والتحرق على ما مضى، والتشوق إلى ما لا سبيل إليه، وصل إلى ضمائرهم إن استطعت الوصول إليها؛ فلن ترى فيها ندما، ولا أملا، ولا استغفارا، ولا اعتذارا، ولا توبة، ولا نزوعا إلى التوبة، إنما هو الحزن اللاذع على نعيم مضى، وانتهاز الفرصة وتربص الدوائر وملاطفة الأحلام، لما قد تتكشف عنه الأيام من نعيم تتقطع دونه الأعناق، وتتمزق دونه القلوب.
وألق نظرة واسعة عريضة يا سيدي إلى هذه الأشخاص الذابلة الناحلة التي تدب على الأرض دبيب النمل، لم يدركها الموت المهلك، ولم يبلغها اليأس المريح، وإنما هي عاملة جادة، تملقت أولئك حتى ذهب عنهم السلطان، وهي تنتهز الفرصة لتتملق هؤلاء ما أقبل عليهم السلطان، تريد أن تملأ بطونا لا تمتلئ، وأن تفعم جيوبا لا تفعم، وأن تصيب من لذات الحياة ما تبيع في سبيله القلوب والعقول، والشرف والكرامة، والضمائر والأخلاق. انظر، إنهم كثيرون، كانوا شياطين مردة، فأصبحوا اليوم ملائكة أطهارا، ينتظرون أن تتيح لهم الظروف خلع أجنحة الملائكة والدخول في أثواب الشياطين. انظر واسمع، ولكني أراك محزونا أسفا كئيبا، قد ضاقت نفسك بما ترى وما تسمع، وقد صغر في نفسك كثير من المعاني والخصال التي لم تكن تحب أن تراها صغيرة ولا حقيرة ولا متضائلة . قد ثقل عليك الجد فلا بأس عليك، أرح نفسك من الجد وتحول إلى شمال فانظر واسمع، وحدثني عما ترى وما تسمع.
وانظر غير بعيد إلى التقاليد؛ فسترى منظرا عجيبا، وستسمع أغاني أقل ما توصف به أنها مضطربة مضحكة مسلية لذيذة، أشد إثارة للذة وإبهاجا للنفس من أغنية السواقي السبع التي يتغنى بها الشباب في بعض الأحياء الوطنية، ومن يتغنى السواقي السبع ويردد أنغامها الحلوة وألحانها الشجية إذا لم تتغن بها التقاليد، وما أدراك ما التقاليد! انظر إليها فلن يثوب نظرك إليك، ولن ينقضي عجبك مما ترى.
هذا رجل ضخم فخم، طويل عريض، غليظ الوجه، واسع الشدقين، عظيم الأنف، عذب الصوت، حلو الغناء، يا له من صوت، ويا له من غناء، استمع إن كنت تحب الطرب، واعجب إن كنت تريد العجب، ألا ترى إلى هذه الأشياء الكثيرة المنتشرة المختلفة المتنوعة التي تضطرب من حوله، بعضها يرقص وبعضها يدور، بعضها يقفز في الجو، وبعضها يثب في الهواء؟!
تبين هذه الأشياء إن استطعت أن تتبينها، وأحط بها إن أتيح لك أن تحيط بها، إن فيها الحي والميت، إن فيها الصائح والصامت، إن فيها الغالي والرخيص، إن فيها المبتذل والنفيس. هذا ديك يصدح، وهذه دجاجة تصيح، وهذا أرنب يعدو، وهذه أداة تدور، وهذه حقيبة تمتلئ، ثم تفرغ، ثم تمتلئ، ثم تفرغ. وهذا مصباح قد علق وهو يضطرب اضطرابا، ويدور حول نفسه دورانا، وهذا بساط قد نشر في الجو ينتظر من يجلس عليه؛ ليطير به إلى حيث يريد الله، وهذا نرد يدعو اللاعبين، وهذا شجر قد اكتسى من أخضر الورق، وآتى من جميل الزهر وطيب الثمر، وهذا مطر ينهمر انهمارا، وتصبه السماء صبا، ولكن احذر أن تدنو منه؛ فإني أخشى على رأسك أن يشج، وعلى أنفك أن يجدع، وعلى وجهك أن يصيبه أذى، وعلى ذراعك أن تتحطم، وعلى ساقك أن تندق.
إن السماء يا سيدي لا تمطر ماء ولا عسلا ولا خلا ولا زيتا، ولكنها تمطر علبا مختلفة الأحجام، متباينة الأشكال، قد اختلفت فيما بينها ، وتنوعت محتوياتها، ففي هذه «مربى» البرتقال، وفي هذه «مربى» السفرجل، وفي هذه «مربى» المشمش، وفي هذه لون من ألوان الحلوى، وفي هذه فن من فنون الفاكهة. واحذر هذه القطرات الغريبة، التي لا تكاد تبلغ الأرض حتى تنحطم عليها انحطاما، ويخرج منها شراب مختلف ألوانه، فيه ري للظمأ، وفيه تملق للفم، وفيه حلاوة وعذوبة، وقد يؤذي بعض الحلوق أحيانا، إنها زجاجات الشراب يا سيدي، عصير العنب، وعصير البرتقال، وعصير الليمون.
وانظر إلى هذه الأقراص التي تدور لا تريد أن تقف، ولا تحب أن تسقط؛ وإنما هي تدور في مكانها، وتبعث من حولها روائح غريبة لا تحبها الأنوف جميعا، ولكن من النفوس ما تطير من حبها شعاعا. تبين هذه الأقراص يا سيدي؛ ألم تعرفها بعد؟ ألم يهدك إليها عبيرها هذا المنكر الغريب كما هدى عمر بن أبي ربيعة إلى صاحبته عبيرها ذاك، الذي كان يصدر عن خيمتها فيملأ الجو عرفا وطيبا؟ انظر إلى هذه الأقراص؛ إنها أقراص الجبن يا سيدي، وأي جبن! ما شئت من ألوان الجبن، جبن أجنبي وجبن مصري، جبن رقيق وجبن غليظ، جبن خشن وجبن ناعم، جبن جاف كأنه الحجر، وجبن رطب يسيل لعابه ويتحلب منه المش، وتجري فيه فنون من دقيق الحيوان.
وانظر إلى هذه الآنية التي تدنو وتنأى وتقرب وتبعد، وتصعد في الجو، وتهوي نحو الأرض، داعية إلى نفسها مدلة بما فيها، أتعرفها؟ أتعرف ما تحتوي من الألوان؟ إنها القشدة؛ القشدة التي يبيع فيها بعض العمد نفوسهم بيعا. انظر يا سيدي إلى ما سميت وما لم أسم، وإلى ما وصفت وما لم أصف، انظر إلى الأشياء والأحياء كيف تضطرب وتدور، وتأتي هذه الحركات العجيبة الغريبة، على صوت هذا المعنى البارع الرقيق الرشيق، الخفيف الظريف، الوسيم القسيم، الذي يتغنى التقاليد، وجمال التقاليد، وقدس التقاليد، وما يجب للتقاليد من حماية، وما يجب للأخلاق من رعاية، وما يجب للضمائر من صفاء، وما يجب للأيدي من نقاء، وما يجب للمناصب من كرامة، وما يجب لأصحاب المناصب من ارتفاع عن الصغائر، وتنزه عن الدنيات.
انظر يا سيدي إلى يمين، فخذ بحظك من الحزن، وانظر إلى شمال فخذ بحظك من السرور، فلا خير في الحياة إذا لم تكن حزنا وسرورا، ولذة وألما، وجدا ولهوا. انظر عن يمين وانظر عن شمال، ثم انظر أمامك إلى هذا البلد الحزين التعس، الذي يعدو على حقوقه أصحاب الجد، ويلهو بمنافعه أصحاب اللهو، وهو يحتمل عدوان أولئك، ويحتمل لهو هؤلاء، محزونا حينا، مسرورا حينا آخر، ساخرا من أولئك وهؤلاء دائما؛ لأنه قد بلا من الدهر خيره وشره، وذاق من الأيام حلوها ومرها، ووثق بأن عدل الله قريب، وبأن الحق منتصر مهما يتصل سلطان الباطل، وبأن صرح الجور مندك مهما يشيد بأضخم الأحجار وأصلب الصخور.
ولكن دعنا من فلسفة الأخلاق؛ فما تتسع الحياة لفلسفة الأخلاق، وحدثني عن هذه الأشياء التي تضطرب، وهذه الأحياء التي تتطاير وتتصايح، ما خطبها؟ من أين أقبلت؟ وإلى أين تريد؟ أو أين ومتى تحب أن تستقر؟ زعمت وزارة المعارف أنها أقبلت من مدارس وزارة المعارف المنبثة في أرجاء مصر قاصدة إلى بيت وزير من وزراء المعارف، في حي من أحياء القاهرة، أو في قرية من قرى الريف. لا تهز رأسك، ولا ترفع كتفيك، فما في هذا الحديث من شك، وما في هذا الحديث من ريب، إنهما تقريران نشر أولهما صباح الأحد، ونشر ثانيهما صباح الثلاثاء، وزعم ناشرهما أنه أخذهما من وزارة المعارف، ولم تنكر عليه الوزارة ما زعم، ثم لم ينكر وزير المعارف ذاك ما نسب إليه في أول هذين التقريرين، وسنرى أينكر ما نسب إليه في ثاني هذين التقريرين.
خرجت إذن هذه الأشياء، وخرجت إذن هذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد. فليت شعري! أسار إليه منها ما سار، وطار إليه منها ما طار، حبا له وهياما به، وشوقا إليه؟! أم سار السائر وطار الطائر؛ استجابة لدعاء وتحقيقا لرجاء، وشفاء لبعض ما في الصدور؟! ... خرجت إذن هذه الأشياء وهذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد، فليت شعري! أؤديت أثمانها كما ينبغي أن تؤدى الأثمان؟ أم أديت لها أثمان لا تعدل قيمتها، ولا تلائم ما حملت إلى الوزير من لذة وبهجة وراحة ومتاع؟! ... أما وزارة المعارف فتنبئنا بأن هذه الأشياء قد بيعت من الوزير بثمن بخس، وبأن للدولة عند الوزير مائة وبعض المائة من الجنيهات، وليت شعري! ما حكم الله في هذه المائة وبعض المائة من الجنيهات؟ أتبقى عند وزير التقاليد؟ أم تؤدى إلى وزير المعارف ليؤديها إلى وزير المال؟ وليت شعري! أأنشئت مدارس الزراعة والصناعة لتصلح بيت الوزير وما تملك من أدوات الزرع؟ ولتذيق الوزير والذين يدعوهم إلى مائدته ما في الحياة من لذة وبهجة ونعيم؟! أم أنشئت مدارس الصناعة والزراعة لتعلم المصريين كيف يصنعون ويزرعون، وكيف يتخذون الصناعة والزراعة وسيلة إلى ترقية الحضارة واكتساب العيش والتماس الحياة؟!
وليت شعري! ماذا يقول لضمائرهم هؤلاء الناس الذين طعموا على مائدة الوزير من ألوان الجبن والقشطة، وشربوا عند الوزير ألوان الشراب، واستمتعوا على مائدة الوزير بلحم تلك الطير التي أهديت إليه إهداء أو أخذت له أخذا، والتي أدى أثمانها الصورية إلى الدولة هذا البيطار أو هؤلاء التلاميذ؟!
وليت شعري ماذا يقول الوزير لضميره وماذا يقول للوزير ضمير الوزير؟ وليت شعري! أيسمع الوزير إذا جلس في مكتبه وحيدا أو مع أصحابه، أحاديث هذا المتاع الذي انبث في الحجرة، وهذه الإطارات التي علقت على الجدران؟ أيفهم هذه الأحاديث؟ أتثير في نفسه ألما؟ أتبعث في قلبه ندما؟ أتسبغ على وجهه الحمرة التي تسبغها المخجلات على وجوه الذين يخجلون؟ وليت شعري! ما حكم وزير المعارف القائم في هذا العبث بالمدارس والاستغلال للتعليم والإفساد لعقول الطلاب، وعقول المعلمين، وأخلاق الموظفين؟ وليت شعري! ما حكم وزير المال في هذا العبث المخزي بأموال الدولة؟ وليت شعري! ما حكم رئيس الوزراء ومجلس الوزراء في هذا الخزي المنكر وهذا الفساد العظيم؟ أليس من سبيل إلى أن يسأل المسيء عما أساء؟ ويؤخذ المذنب بما أذنب؟ ويعاقب الآثم على ما قدمت يداه؟ أقضي على هذا البلد أن تقترف فيه الآثام سرا وجهرا وتجترح فيه السيئات خفية وعلنا، وتهدر فيه القوانين، وتنتهك فيه الحرمات، ثم لا يسأل آثم عن إثم، ولا يؤخذ مجرم بجريمة، وإنما يستمتع المسيء بمثل ما يستمتع به البريء؟
نعم، ليت شعري، وليت شعري، وأنا أستطيع، وأنت تستطيع أن تردد معي هذا السؤال ألف مرة ومرة دون أن تنتهي إلى جواب؛ فمنذ عام ونصف عام تظهر الفضيحة إثر الفضيحة، وتعلن المخزية إثر المخزية، والمصريون ينظرون ويسمعون ويألمون ويشكون، ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا، كلا، لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عوقب المسيء على إساءته، ولن تصلح للمصريين حياة إلا إذا سئل المجرم عن جريمته، ولن تكون لمصر سمعة تلائم ما تؤمن به لنفسها من كرامة، إلا إذا عرف الأجانب واستيقنوا أن مدارس الصناعة والزراعة لم تنشأ لإصلاح بيوت الوزراء وإرضاء حاجاتهم إلى الدجاج والأرانب وألوان الفاكهة والحلوى.
نعم، لن تستقيم لمصر أمورها حتى تنهى التقاليد وزير التقاليد وأمثاله عن استغلال المدارس لما لم تنشأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم ينشأ له السلطان.
أما بعد، فقد كنت أظن يا سيدي أنك ستحزن إن نظرت إلى يمين فرأيت الطغاة وقد انهزموا بعد انتصار، وذلوا بعد عز، وأنك ستضحك إن نظرت إلى شمال فرأيت التقاليد تلعب حول وزير التقاليد، ولكني رأيتك محزونا في الحالين، يضحك وجهك وتبكي نفسك، فلا تلمني في هذا، ولكن لم حياتنا المصرية، واذكر أن أبا الطيب قد تنبأ لك ولي ولأمثالنا منذ ألف سنة بهذه الحال:
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
إبريل 1935
أدب الصيف
أقبل الصيف، وأقبل معه قيظ شديد مرهق لا يصهر الأبدان وحدها، ولكنه يصهر معها العقول، ولعله يصهر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضا، فيدفع قوما من الأمر إلى ما لم يكونوا ليدفعوا إليه لو لم يشتد القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيمنعهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومن ضبط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون. ولكني لم أكتب لأحصي آثار القيظ الشديد المرهق في أبدان الناس وعقولهم وأخلاقهم، وإنما أريد أن أسجل أن هذا القيظ الشديد المرهق لا تستقيم معه الأحاديث عن الشعر القديم عامة، وعن شعر الجاهليين خاصة. فالأحاديث عن هذا الشعر تحتاج - فيما يظهر - إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المطمئن، وهذا الفراغ الفني الذي يتيح للذوق أن يستأني ويتمهل ويسيغ الأشياء في غير جهد ولا مشقة، ولا تعرض لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يسلط الجو علينا هذا الحر الشديد.
وأكبر الظن أن صاحبي الذي تعود أن يسرع إلي، إذا كان ميعادنا من كل أسبوع لنأخذ فيما تعودنا أن نأخذ فيه من أحاديث الشعر القديم، قد أحس من الصيف مثل ما أحس، وأنكر من نفسه مثل ما أنكر، واستيقن أن طاقته لا تستطيع أن تثبت لدرس الشعراء القدماء، وما يعرضون له من صور مهما تكن جميلة رائعة، موفورة الحظ من الروعة والجمال، فإنها أبية عصية، لا تسمح بمكنونها، ولا تتكشف عن مخزونها إلا بعد شيء من التردد والتمنع والإباء، يكلف الذين يطلبون إليها جمالها وروعتها شيئا من جهد، وفضلا من عناء.
يظهر أن صاحبي قد أحس هذا كله فأخلف الموعد لأول مرة، ثم أخلفه للمرة الثانية، ثم سألت عنه والتمسته في مظانه، فلم أهتد إليه، ولم أدل عليه، وخيل إلي أنه قد فر من هذا الجو فرارا، وأي شيء أيسر عليه من الفرار، وهو لا يحتاج إلى مثل ما نحتاج إليه نحن من التهيؤ الطويل الثقيل للأسفار، فلا بد لي إذن من أن أستيئس من التحدث إليه في الشعر القديم حتى تنجلي غمرة الصيف، وإذا كان هو على لينه ورقته واعتصامه بهذه الرقة وذلك اللين من أعراض الحر والبرد قد فر من أحاديث الشعر القديم، فما أجدر غيره من الناس أن يضيقوا بهذه الأحاديث، وما أجدر الكتاب إذا لم يكن لهم بد من الكتابة أن يرفقوا بقرائهم إذا كتبوا، وألا يتحدثوا إليهم من الموضوعات فيما يكلفهم جهدا وشططا.
والكاتب مدين لقارئه بهذا الرفق، أو قل: إن الكاتب مدين لنفسه بأن يرفق بقرائه إن كان حريصا حقا على أن يقرءوه، راغبا حقا في أن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم، أو إلى الفتور والنوم.
ويخيل إلي أن الكتاب الغربيين يقدرون هذا الطور من حياتهم وحياة قرائهم قدره، فهم يرفقون بأنفسهم وبالقراء إذا أقبل الصيف، وهم يتخففون من الموضوعات الضخمة الفخمة، والمسائل المشكلة المعضلة التي يعرضون لها في غير الصيف من فصول السنة، وهم لا يعرضون من الأحاديث إلا للسهل اليسير الذي لا يكلف المتحدث ولا السامع مشقة، ولا يكلفه جهد التروية والتفكير، وهم ينتهون - بفضل هذا الرفق بأنفسهم وبالقراء - إلى إنشاء أدب خاص يتناول موضوعات قلما تتناول في غير فصل الصيف، ويتناولها في صور قريبة مواتية قلما تظهر في الشتاء أو الربيع.
وهذا الأدب الخاص الذي تمتلئ به الصحف الغربية في هذا الفصل من فصول السنة يمكن أن نسميه: أدب الصيف، أو أدب الإجازة، أو أدب الراحة والاستجمام.
وموضوعات هذا الأدب الصيفي تفرض نفسها على الكتاب والقراء فرضا، كما أن موضوعات الأدب كلها تفرض نفسها فرضا على الكتاب والقراء الذين يستحقون أن يسموا كتابا وقراء. فإذا أقبل الصيف تفرق الطلاب والتلاميذ وفرغوا لحياة الأسرة وقتا غير قصير، فتغيرت حياتهم تغيرا ظاهرا، وكانت خليقة أن تثير عناية الكاتب وعناية القارئ معا، وأن تدعوهما إلى التفكير المشترك فيما يلقى الطلاب والتلاميذ من الجهد العنيف المحتوم أثناء السنة الدراسية، وفيما ينتهي إليه الطلاب والتلاميذ من نتائج هذا الجهد التي ينكشف عنها الامتحان، وفي الملاءمة بين هذا الجهد المتصل وبين طاقة الطلاب والتلاميذ وانتفاعهم وتكون عقولهم، وأخلاقهم وأجسامهم، وفي حياة الدرس وحياة الفراغ، وما يكون للأسرة من تأثير في هذه الحياة أو تلك ومن تأثر بهذه الحياة أو تلك، وأظن أن موضوعا من هذه الموضوعات خليق أن يلهم الكاتب المجيد فصولا خصبة قيمة تثير في نفس القارئ كثيرا من العواطف، وتدفعه إلى كثير من التفكير.
على أن الطلاب والتلاميذ إذا فرقهم الصيف من مدارسهم، وردهم إلى الآباء والأمهات، لم يستقروا في دورهم ومنازلهم أكثر الوقت، وإنما يزعجهم الصيف عنها إزعاجا، أو قل: إنهم ينتقلون عنها مختارين، وقد تهيئوا لهذا الانتقال، وتهيأت له أسرهم أيضا. وأكبر الظن أن هذا الانتقال قد كان عزاءهم وعزاء آبائهم وأمهاتهم عما يجدون من جهد، وما يلقون من عناء في الدرس المرهق والعمل المتصل، وأكبر الظن أنهم كانوا يتمثلون هذا الانتقال وما سيعقبه من راحة لأجسامهم وعقولهم، ومن تغيير لما يرون ويسمعون ويحسون.
كانوا يتمثلونه أول العام آسفين عليه بعد أن قضوا حاجتهم منه، ثم يتمثلونه أثناء العام مشوقين إليه بعد أن بعد عهدهم به، ثم يتمثلونه آخر العام راغبين فيه أشد الرغبة، مندفعين إليه أشد الاندفاع يعدون الأيام والليالي التي تفصل بينهم وبينه، ويستعينون بذلك على المسائل المشكلة، والكتب الطوال الثقال، وعلى أهوال الامتحان التحريري وأخطار الامتحان الشفهي، وعلى هذه الساعات المخوفة التي تعلق فيها نتائج الامتحان على جدران المدارس والجامعات. وإذا تفرق الطلاب والتلاميذ مع أسرهم فهم يهجرون دورهم ومنازلهم ومدنهم وقراهم إلى الجبال أو إلى البحار، أو إلى البحيرات، أو إلى السهول الجميلة النضرة والغابات الكثيفة الملتفة. وكل هذا خليق أن يوصف، وأن يكون موضوعا للحديث الطريف الممتع.
والغريب أن الزمن يستدير في كل عام كهيئته في الأعوام التي مضت، وأن الصيف يلم ويمضي، وأن الطلاب والمدرسين يتفرقون عن مدارسهم ويعودون إليها، ويلمون بأسرهم ويرحلون عنها، ويقصدون إلى الجبال والبحار وإلى الأودية والسهول، ثم يردون إلى مدارسهم وجامعاتهم، كما يرد الآباء والأمهات إلى مناصبهم وأعمالهم، وأن الكتاب يتحدثون إليهم في كل صيف عن هذه الموضوعات دون أن يستنفدوا ما يقال عنها أو يكتب فيها، ودون أن يكرروا ما يقولون، أو يعيدوا ما يكتبون، كأن كل صيف إذا أقبل يقبل بشيء جديد، ولا يعود على الناس بمثل ما كان قد حمل إليهم من قبل. هذا غريب في ظاهره، ولكن قليلا من التفكير الذي يحتمله الصيف ولا يمنع منه اشتداد القيظ يدل على أن هذا لا غرابة فيه، فكل صيف يقبل ككل يوم يقبل، إنما يحمل إلى الناس ذكريات لما مضى، وآثارا لما انقضى، فيها الرضى وفيها السخط، فيها اللذة وفيها الألم، ويحمل إليهم كذلك آمالا فيما يقبل من الدهر، كما يحمل إليهم خوفا وإشفاقا.
بل إن كل صيف يقبل ككل يوم يقبل، لا يحمل الجديد للناس وحدهم، وإنما يحمل الجديد للأشياء أيضا، فهل أنت واثق بأن الغابة التي تراها في هذا الصيف بعد أن رأيتها في الصيف الماضي قد احتفظت لك بكل ما أرتك في العام الماضي من شجر وزهر، ومن أوراق وغصون، ومن طير وحيوان؟ هل أنت واثق بأنها لم تغير هذا كله أو بعضه، أو بأن الأحداث لم تغير هذا كله أو بعضه، ولم تذهب منه بما رأيت، ولم تحدث لك منه ما لم تر؟ وهل أنت واثق بأنك حين تعود إلى هذا المصطاف الذي تعودت أن تنفق فيه الصيف، ستلقى الوجوه التي لقيتها في العام الماضي، وتسمع الأحاديث التي سمعتها في العام الماضي، وتخوض مع الناس فيما كنت تخوض معهم فيه أثناء العام الماضي؟ كلا، بل أنت واثق بأنك ستلتمس كثيرا من الأشياء التي أعجبتك وراقتك حين ألممت بهذا المكان أو ذاك، فلا تجدها، وستحزن عليها شيئا من حزن، وستثير غيبتها في نفسك قليلا أو كثيرا من الأسى، وستجد في هذا الأسى وذلك الحزن شيئا من هذه اللذة الشاحبة التي نسميها: الشوق والحنين. فأي غرابة في أن يجد الكتاب والشعراء جديدا يتحدثون به إلى الناس كلما أقبل الصيف؟
وإني لأعرف فصلا من فصول الأدب الصيفي الفرنسي، رأيته يتجدد في كل عام إذا أقبل الصيف، وجعلت أتتبع بعض ما أستطيع أن أتتبعه منه كلما سنحت لي الفرصة، فما أحسست أني ضقت به أو زهدت فيه أو أدركني سأم من قراءته، ولا أحسست أني أقرأ شيئا معادا وحديثا مكررا.
وما أشك في أن هذا الفصل من الأدب الفرنسي الصيفي قديم قد بدأ الفرنسيون في كتابته منذ زمن بعيد، وما أشك في أنه سيظل جديدا أبدا، سيكتب الفرنسيون فيه كل عام لا يسأمهم ولا يسأمونه، وهو وصف باريس إذا أقبل الصيف فخلت من أهلها الباريسيين، واستعدت للقاء زوارها الغرباء.
كثير جدا ما يقوله الفرنسيون في مدينتهم هذه حين ترسل أهلها إلى الجبل والبحر، وتستقبل الغرباء من أهل الأقاليم أو من أهل البلاد الأخرى القريبة والبعيدة، فهم يصفون شكل المدينة الذي يتغير ويختلف بتغير المضطربين فيها، والمندفعين في شوارعها والمزدحمين على قهواتها وأنديتها، وهم يصفون لغة باريس أو لغة أماكن معينة في باريس، فهي فرنسية باريسية أثناء العام، ولكنها فرنسية إقليمية أو فرنسية أجنبية أثناء الصيف. وهم يصفون هذه الملاهي والملاعب التي تغلق أبوابها وترسل أصحابها إلى مدن الصيف، وهذه الملاهي والملاعب التي لا تغلق أبوابها، وإنما ترسل رجالها إلى مدن الصيف، وتستخدم ما يسمونه: البطانة؛ لتلهية الغرباء وتسليتهم. ثم هم يصفون هؤلاء البائسين من الباريسيين الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى أن يقيموا في باريس حين يرحل عنها الناس، فإن كانوا من الفقراء أو من الطبقات الوسطى احتملوا مقامهم في مدينة النور المهجورة في شجاعة وكبرياء، وصبر على المكروه، وإن كانوا من الأغنياء والمترفين احتملوا ذلك في حياء شديد، وجدوا في التنكر والاستخفاء. فإن لقيهم لاق أو عثر بهم عاثر اجتهدوا في التماس المعاذير والتعلات، يعللون بها ما لا يقبل التعليل من إقامتهم في هذا البلد الذي لا مقام فيه لرجل يعرف الذوق والأوضاع الاجتماعية، ويعرف ما يليق وما لا يليق، وما يحسن وما لا يحسن.
وللكتاب الفرنسيين فنون في تصوير هذا الفصل من الأدب الصيفي تلقاها في صحفهم على اختلافها، تلقاها في صحفهم الهازلة، كما تلقاها في صحفهم الجادة. ثم لهم فصول يصفون فيها السواحل وحياة المستحمين، وأخرى يصفون فيها مدن الماء، وأخرى يصفون فيها مصايف التلاميذ الفقراء، ولهم بعد هذا فصول يصفون فيها هذه الألوان من اللهو الذي يبتكره المصطافون ابتكارا؛ ليستعينوا به على الوقت والفراغ، وليستعين به بعضهم على بعض.
وهناك طائفة من الكتاب إذا أقبل الصيف ولم يجدوا ما يكتبون عن بلادهم كتبوا عن البلاد الأخرى، يسعون إلى ذلك، ويبلغونه بالسفر وبالقراءة، فهذا الناقد من نقاد التمثيل ينظر، فيرى الملاعب قد أقفلت أو أعرضت عن التجديد أثناء الصيف، فينتهز الفرصة، ويتحدث إلى قرائه عن الأدب التمثيلي الأجنبي في فصول ظريفة من أجمل ما يقرأه الناس، فإذا لاحظت أن المثقفين من الأوروبيين - وما أكثرهم - يشغلون بالعمل في أكثر السنة، ولا يجدون من الوقت ما يحتاجون إليه ليقرءوا كل ما يحبون أن يقرءوا من آثار الكتاب والشعراء والعلماء التي تظهر في فصل الإنتاج العقلي، وأنهم يجمعون هذه الآثار ويضمون بعضها إلى بعض، وينتظرون بها فصل الإجازات؛ ليعكفوا عليها إذا ظفروا بقسطهم من الراحة، أقول، إذا لاحظت هذا، عرفت أن القراء من المثقفين الأوروبيين يشقون على أنفسهم في حقيقة الأمر؛ لأنهم يقرءون ما ادخروا لأنفسهم أثناء العام، وهم لذلك في حاجة إلى أن يرفق بهم الكتاب، فلا يكلفوهم جهد القراءة العنيفة الفنية الدسمة - إن صح هذا التعبير الذي لا أحبه وإنما أضطر إليه.
هذا هو الذي يكون، أو هو بعض الذي يكون في أوروبا إذا أقبل الصيف. فما الذي يكون في مصر حين يقبل هذا الفصل من كل عام؟ أما أن الطلاب والتلاميذ يتفرقون ويعودون إلى أسرهم ويصطاف القادرون منهم على الاصطياف؛ فشيء ليس فيه شك، وأما أن المصريين أنفسهم يرحلون عن مدنهم وقراهم، بل عن قريتهم الكبيرة التي نسميها القاهرة؛ ليصطافوا في مصر وفي غير مصر؛ فهذا شيء ليس فيه شك أيضا، بل ليس من شك في أن كثيرا من أهل القاهرة يهجرون مدينتهم إذا كان الصيف، وفي أن كثيرا من أهل الأقاليم يتخذون هذه المدينة الجميلة الثقيلة مصطافا؛ لأنها أقل حرا من أقصى الصعيد ومن كثير من قرى الريف، وفي أن كثيرا من أهل القاهرة يعجزون عن الرحلة، ويضطرون إلى المقام، فيكرهون ذلك ويضيقون به، ويلتمسون لأنفسهم منه المعاذير، ولكن الغريب أن شيئا من هذا كله لا يلهم كتابنا وأدباءنا حديثا من أحاديث الصيف هذه التي تمتلئ بها الصحف الأوروبية في هذا الفصل من كل عام.
شيئان اثنان يعني بهما الكتاب المصريون إذا كان هذا الفصل، أحدهما: موسم الامتحانات وما يثير من ضجيج وعجيج، ومن شكاة واستعطاف، ومن نقد للأسئلة ولوم للسائلين. والثاني: مصايف البحر وما تثير من هذا السخط الذي تمتلئ به نفوس جماعة من المتحرجين، يغضبون للحياء والأخلاق، ويكتبون الفصول الطوال يستعدون بها الحكومة على حماية الحياء والأخلاق، وما أظن أن كتابنا يعنون بغير هذين الأمرين من أمور الصيف خاصة.
هم إذن لا يرفقون بأنفسهم، ولا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعا، وصدوا عنها صدودا، وأراحوا أنفسهم من الكد، واستمتعوا بفترة قصيرة من الهدوء الذي هم أهل له. ولكن الصحف لا بد من أن تظهر، ولا بد من أن تظهر ممتلئة الأنهار، وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء كل العناء، أولئك يريدون أن يملئوا الصحف فلا يجدوا ما يملئونها به، وهؤلاء يريدون أن يقرءوا فلا يجدون ما يقرءون. وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي العام، ومع ذلك فما أبعد الصيف عن أن يكون فصلا من فصول الكساد لو عرفنا كيف نستقبله ونحتمله ونعاشره ونفارقه، كما يفعل غيرنا من الناس، على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف؛ لعلي أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته، ولهم علي ألا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال.
يونيو 1935
حوار في الأدب
لم يرفع لي رأسه حين دخلت عليه، ولم يردد علي التحية حين أهديتها إليه، وإنما ظل مطرقا ممعنا في إطراقه، صامتا مغرقا في صمته، تمضي عينه رفيقة في كتاب قد وضعه أمامه على المائدة، وتعبث يده عبثا منتظما بقلم قد أخذت تضرب به صحفا منتثرة على المائدة على يمينه كأنما يداعب به هذه الصحف.
وليس من شك في أنه كان يقرأ ما يقرأه في عناية شديدة، وقد أخذ قلمه ونثر هذه الصحف ليسجل ما يخطر له من الملاحظات، وكنت خليقا أن أضيق بهذا الإعراض الذي لقيني به، وأنكر هذا الانصراف الذي ألح فيه، لولا أن الكلفة بينه وبيني مرفوعة، والألفة بينه وبيني متصلة، ولولا أني أعرف منه هذا النبو عما تعود الناس فيما بينهم من صلات قد يكون حظها من التكلف والنفاق أعظم من حظها من السذاجة واليسر، ومن هذه الصراحة التي لا تدع بين النفوس حجبا ولا أستارا.
وقد كان من الممكن أن أدخل عليه فلا ألقي إليه تحية ولا أنتظر منه جوابا، وإنما أعمد إلى هذا المكان الذي ألفته من غرفة عمله فأستقر فيه هادئا منتظرا أن يفرغ لي، أو أستقر فيه نشيطا لبعض ما أنشط له من العمل حين أدخل هذه الغرفة المغرية بالقراءة والجد لكثرة ما اشتملت عليه من الكتب المتنوعة في الفن والأدب والعلم. ولكني في ذلك الصباح دخلت عليه كما أدخل على غيره من الناس، وأهديت إليه التحية كما أهديها إلى غيره من الناس، فلما آنست منه هذا الإعراض ذكرت أني أزوره هو لا غيره من ذوي المودة والمعرفة، فعدت إلى ما ألفت من الأمر عند لقائه، وأقبلت على ما أردت أن أقبل عليه من عمل، وتركته لكتابه وقلمه يقرأ في أحدهما بعناية، ويعبث بأحدهما الآخر في نظام واطراد.
ولم تمض لحظات قصار حتى نسيت مكاني منه ومكانه مني، وإذا أنا أثوب إلى نفسي فجأة كأنما آت من بعيد يدعوني إلى نفسي وإلى ما حولي، هذا الصوت أو هذه الأصوات التي أسمعها مختلطة متمايزة في وقت واحد؛ فصوت إنسان يرتفع في الغرفة فيملؤها بهذه الألفاظ: أما الآن فقد فرغت لك فافرغ لي، وصوت كتاب متوسط الضخامة يلقى على المائدة في عنف، وصوت قلم نحيل ضئيل يلقى على المائدة إلقاء بين العنف والرفق، فيضطرب عليها اضطرابا يسيرا.
قلت لصاحبي: قد فرغت لي حين أردت، أو حين أتيح لك الفراغ، فأما أنا فلا أريد أن أفرغ لك، أو قل: لم يتح لي بعد أن أفرغ لك. فلم يرد علي جوابا، ولكنه مشى رفيقا إلى صاحبي ونظر في الكتاب الذي كان يقرأ لي فيه، ثم انتزعه من يد صاحبي انتزاعا، وقال: هذا كتاب قرأته منذ أعوام، وما ينبغي أن تقرأه وحدك، فسنقرأه معا، وسيكثر الحوار بيننا حول ما جاء فيه من الخواطر والآراء، وسنبدأ هذه القراءة - إن شئت - بعد ساعة إذا رددت عليك تحيتك بأحسن منها، وإذا شربنا من القهوة قدحا أو قدحين، وأحرقنا سيجارة أو سيجارتين، وأدرنا الحديث بيننا قليلا أثناء ذلك حول صاحبكم هذا الذي أقمتم له الدنيا وأقعدتموها منذ عام، والذي تقيمون له الدنيا وتقعدونها منذ أول هذا القرن.
قلت حول أبي العلاء ... إليك عني؛ فقد شبعت من حديث أبي العلاء حتى أدركتني التخمة أو كادت تدركني، فدعني أسترح منه، ودعني أرح منه الناس حينا، فقد صدقت؛ لقد أقمنا الدنيا وأقعدناها بحديث أبي العلاء، ولقد أقمنا أنفسنا وأقعدناها بحديث أبي العلاء؛ حتى أخذنا الدوار، وآن لرءوسنا أن تستقر، ولأعصابنا أن تهدأ، ولألسنتنا وعقولنا أن تأخذ في حديث آخر. فإذا أخذنا وأخذ الناس قسطا من راحة، وحظا من دعة؛ عدنا إلى حديث أبي العلاء، قمنا به وقعدنا وأقمنا الناس به وأقعدناهم، فإن قصة أبي العلاء لم تنته بعد.
قال صاحبي وهو يضحك: لا تخدع نفسك ولا تخدعني، فما سئمت حديث أبي العلاء ولا ضقت بهذا الدوار الذي اضطرك إليه هذا الحديث، وما أعرف أنك تحب شيئا كما تحب هذا الدوار الذي يفنيك في صاحبك ويشغلك عن غيره من الناس والأحداث والخطوب. على أني لن أحاورك فيما شغلتم به أنفسكم وشغلتم به الناس من آراء أبي العلاء في الفلسفة والسياسة والأخلاق والدين وشئون الاجتماع، فكل هذه الأشياء قد ضقنا بها حقا، وآن لنا أن نستريح منها وقتا، إنما أريد أن أحاورك في شعر أبي العلاء؛ فقلما تحدثتم في هذا الموضوع، وقلما حاولتم أن تتعمقوه، وقد جعل بعضكم يزعم للناس أنه شعر، وجعل بعضكم الآخر يزعم للناس ألا حظ له من شعر، أو أن حظه من الشعر ضئيل.
قلت: وتريد أنت أن تأتي بالقول الفصل في هذه القضية، وأن تمحو الخصومة فيها محوا، وتلغيها إلغاء، وترد الناس إلى شيء من الوفاق لا يختلفون بعده أبدا ... قال: لا تعبث بي، ولا تسرف في إساءة الظن برأيي؛ فإني لم أصل من الجهل بأمور الشعر إلى هذه المنزلة، ومتى رأيت الناس يصلون إلى الاتفاق في أمر شاعر من الشعراء فيقضوا له جميعا بالتفوق أو بالتوسط أو بتواضع المنزلة؟ قلت: فسنظل مختلفين في شعر أبي العلاء كما نحن مختلفون في شعر غيره من الشعراء. قال: فإن الخلاف في شأن أبي العلاء يأخذ شكلا خاصا لم يأخذه الخلاف في شعر المتنبي وأبي تمام أو مسلم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم قد فرغوا للشعر، وقصروا عليه حياتهم، ووقفوا عليه جهودهم، وسلكوا إليه الطرق التي تعود الشعراء أن يسلكوها إلى الإجادة في الفن.
فأما أبو العلاء فأمره لا يخلو من غرابة؛ فهو من أكثر الشعراء شعرا، ولعله إن وصلت إلينا آثاره كلها أن يكون أكثرهم شعرا، ثم هو لم يسلك في الشعر طريقة واحدة، ولم يقصد به إلى غاية واحدة من غايات الفن، وإنما قصد إلى غايات مختلفة متنوعة، كما سلك طرقا متمايزة متباينة؛ فهو شاعر كغيره من الشعراء يصور عواطف نفسه وأهواءها، ويصور عواطف الناس وأهواءهم، ويصور مظاهر الطبيعة من حوله كما استطاع أن يصورها، يشارك في المدح والرثاء، كما يشارك في الفخر والوصف، وكما يشارك في الهجاء إلى حد قريب. ولكنه يذهب مذاهب أخرى؛ فيقول في الفلسفة، وفي الفلسفة التي لم يتعود الشعراء أن يطرقوها ولا أن يخضعوها للنظم، ويقول في السياسة على غير النحو الذي ألفه الشعراء السياسيون، ويقول في النقد الاجتماعي والديني، ويذهب مذهب الألغاز، كما يذهب مذهب الرمز.
ثم هو يسلك في هذه الأغراض كلها طرقا؛ منها المستقيم البين، ومنها الملتوي الغامض، يسلك طريق الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، فيسهل في ألفاظه حينا، ويشق فيها على نفسه وعلى الناس حينا آخر، ويلزم عمود الشعر مرة كما لزمه القدماء، فيجري على طبعه وعلى طبع اللغة، وينحرف عنه مرة أخرى، فيمضي على طريقة أبي تمام وأصحابه، صانعا حينا ومتصنعا حينا، ويمضي على طريقة المتنبي؛ فيأخذ في هذا التكلف الذي يلجأ إليه الشعراء حين توشك شجرة الشعر أن تجف، وحين توشك زهرات الشعر أن يدركها الذبول، ثم ينحرف عن هذا كله مرة واحدة، ويسلك في اللزوميات وغير اللزوميات طرقا لم يسلكها أحد قبله، فيتجافى بألفاظه ومعانيه عن المألوف، ويتجافى بالقافية خاصة عن المألوف، فيكلف نفسه ويكلف الناس من أمره شططا، ويخضع المعاني للقوافي، ويجعل نفسه وخواطره وعواطفه عبيدا لهذه القوافي.
فأنت ترى أن أمر الشعر عند أبي العلاء ليس كأمر الشعر عند غيره من الشعراء، بل هو أشد التواء وأكثر تعقيدا؛ ولهذا اختلف في حظه من الشعر وفي تقدير ما ترك من الكلام المنظوم القدماء والمحدثون جميعا، وظهر هذا الخلاف في عصره وفي آثار تلاميذه الذين سمعوا منه على كل حال. قلت: وماذا تريد أن أصنع؟ اختلف الناس في شعر أبي العلاء قديما وحديثا، وسيظلون مختلفين في شعره؛ فدعهم يختلفوا، فلو شاء ربك لاتفقوا، ولكنه لم يشأ، وهم مختلفون في شعر أبي العلاء كما هم مختلفون في الشعر كله، وكما هم مختلفون في كل شيء.
قال: فإني كنت مشغولا حين دخلت عليه بقصيدة من قصائده تلك التي قالها في بغداد، قرأتها مرة ومرة، وجعلت أنظر في أبياتها بيتا بيتا، ثم أنظر فيها كلها جملة، ثم أنظر فيما قيل حول أبياتها من الشرح والتفسير، ثم أسأل نفسي؛ أكان أبو العلاء شاعرا أم لم يكن؟ أأقرأ شعرا جيدا أم أقرأ شعرا متوسطا أم أقرأ شعرا رديئا؟ والغريب أني لم أكن أظفر بجواب مقنع عن سؤال واحد من هذه الأسئلة، أو قل: إني كنت أظفر بأجوبة مختلفة لكل هذه الأسئلة، فقد كنت أرى أن أبا العلاء شاعر؛ لأني كنت أهتز لبعض أبياته، وكنت أرى أنه ليس شاعرا؛ لأني كنت أزور عن بعض أبياته، وكنت أرى أني أقرأ شعرا جيدا وشعرا متوسطا وشعرا رديئا، ولولا أن هذا كله قد دفعني إلى كثير من الحيرة والاضطراب لمضيت في قراءتي، ولخليت بينك وبين كتابك هذا الذي كنت مقبلا عليه.
قلت: فأول ما ينبغي أن نسجله: هو أن هذه القصيدة لم تملك عليك أمرك، ولم تستأثر بقلبك، ولم تخرجك عن طورك، وإنما أتاحت لك السؤال والجواب والتفكير والتقدير، فهي إذن ليست قصيدة رائعة، ولو قد كانت كذلك لما اضطررت إلى حيرة ولا إلى اضطراب، ولكن أرجو ألا تكون من هؤلاء الذين يقضون على الشاعر ببيت من أبياته أو قصيدة من قصائده. قال: لست من هؤلاء، ولست أرى أن هذه الحيرة التي دفعت إليها تمنع أن تكون هذه القصيدة رائعة؛ فقد أكون أنا مصدر هذه الحيرة، وقد يكون ترددي في أمرها ناشئا عن قصور مني، لا عن قصور من الشاعر أو تقصير. وأنت تعلم أن من خير ما تنتهي إليه الآثار الفنية في نفوس الذين يشهدونها أن تثير فيها الحيرة والتردد والاضطراب. ولست أخفي عليك أني لا أحب الإعجاب اليسير، ولا أغالي بهذه الروعة التي تأخذني من جميع أقطاري، وتمنعني من التفكير والتقدير والحكم.
قلت: وما عسى أن تكون هذه القصيدة التي أضاعت علينا كل هذا الوقت، فقد شربنا القهوة وأحرقنا سجائر لا سيجارتين، وأجلت قراءتنا لهذا الكتاب البائس إلى أجل غير مسمى. قال: هي قصيدته التي قالها في بغداد يصور فيها حنينه إلى المعرة، والتي أولها:
طريق لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن وما لي
قلت: كفى الله عنك، لقد شككت في غير موضع للشك، وأدركتك الحيرة في غير مصدر للحيرة، فهذه القصيدة من خير ما قال أبو العلاء؛ لأنها تصور أكرم ما يحب الرجل، أو قل: أكرم ما يحب الشاعر أن يصور من ذات نفسه. قال: هذا شيء أحدث نفسي به ولا أكاد أحققه؛ لكثرة ما في هذه القصيدة من إغراب والتواء يأتيانها من هذا الحديث الطويل عن الإبل، ومن هذا الحديث الطويل عن الطريق وأهوالها، ومن هذه الألوان المتكلفة من الاستعارة والمجاز والطباق. قلت: فإنك لا تعيب على القصيدة إلا أنها شعر. قال: وما ذاك؟ قلت: تعيب على القصيدة ما فيها من حديث طويل عن الإبل وعن الطريق وأهوالها، وما فيها من ألوان الفن البياني؛ كأنك تريد من أبي العلاء أن يتحدث إليك حديثا مباشرا يسيرا قريب المنال بما أراد أن يقول، ولو أنه استمع لك وأجابك إلى ما تريد لما زاد على أن يقول إنه ما دام على فراق المعرة مشوق إلى أن يعود إليها، لا يعدل بها ولا بأرض الشام مدينة أخرى وإن كانت بغداد، ولا أرضا أخرى وإن كانت العراق.
إنه لم يرد أن يقول أكثر من هذا، أستغفر الله! بل أراد أن يقر الطمأنينة في نفس إخوانه من أهل الشام، على أنه لم يزل عزيزا كريما لم يذل نفسه بالسؤال، ولم يبتذل وجهه بتملق الأغنياء وإن كان حظه من المال ضئيلا، أفتراه وقد حدثك هذا الحديث على هذا النحو اليسير أرضى حاجتك إلى الجمال الفني، وأثار من قلبك هذه العواطف المختلفة؛ عواطف الحنان والحنين والشوق والشكوى والارتفاع عن الصغائر والدنيات؟ قال: كلا، ولكنه يجعل بيني وبين هذا الجمال وهذه العواطف والخواطر حجبا كثافا من ألفاظه وأساليبه، فلو قد قربها إلي بعض التقريب ... قلت: فإنك تطلب إلى الشاعر ما لا ينبغي أن يطلب إلى الشعراء، فليس من الحق على الشاعر أن يقدم إليك فنه الرائع وأنت هادئ وادع مطمئن ناعم البال؛ وإنما الحق عليك أن تجد كما جد، وتتعب كما تعب، وتشقى بالتماس الجمال كما شقي هو بعرض هذا الجمال. ذلك أحرى أن يجعل استمتاعك بالفن فيما تدركه عن استحقاق، وذلك أحرى أن يجعلك شريك الشاعر في هذا الجهد الخصب الخالد الذي يبذله الشعراء وقراؤهم وسامعوهم؛ ليصلوا إلى هذه الغاية العليا، وهي تصفية النفس وتنقية الذوق وترقية الطبع وإصلاح الضمير.
وبعد، فما الذي أعياك من هذه القصيدة؟ وصفه الإبل؟ فإنه لم يصف إلا حنينها إلى ما ألفت من أرض الشام، وهو قد افتن في تصوير هذا الحنين؛ فجعل الإبل تتطاول إلى هذا البرق المقبل من الشام، وتتطاول حتى تكاد أن تقطع أعناقها لتصطلي بنار هذا البرق. وجعل هذه الإبل ترجع حنينها إلى الشام تتلو كتابا منزلا فيه حب الوطن وإيثاره على كل وطن آخر، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تنشد قصيدة لا يدرى أحديثة هي أم قديمة؛ لأن الحنين إلى الوطن خالد، لا يدري أحد أحديث هو أم قديم، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تغني أصواتا في الثقيل الأول من ضروب الغناء، فيها إبطاء وأناة وتمهل؛ لأن الحنين إلى الأوطان يلزم النفس في جميع خطوات الحياة، وجعل هذه الإبل تريد أن تطير إلى أوطانها في الشام، لولا أن العقال يمنعها من أن تطير، وهو مع ذلك ليس واثقا بأن العقال يمنعها من الطيران، ولولا رفقه بها وحبه لها لأمر صاحبه بأن يقيدها بالسيف.
وهل تظن أن الإبل أحست شيئا من ذلك أو حاولته؟ كلا، وإنما هو أبو العلاء قد أحس هذا كله وأكثر من هذا كله، وحاول هذا كله وأكثر من هذا كله، وأدى ما أحس وما حاول في هذا النحو من الرمز كما أداه الشعراء منذ العصر القديم، ثم لم يستطع أن يكتفي بالرمز؛ فجعل الرمز وسيلة إلى خلق البيئة وإنشاء الجو الشعري كما يقال في هذه الأيام، حتى إذا بلغ من ذلك ما أراد صرح عن نفسه في غير لبس ولا التواء ولا تردد ولا استحياء، فقال هذين البيتين اللذين ما أظنك تجادل في روعتهما التي تأتيهما من صدق العاطفة، قال:
ومن لي بأني في جناح غمامة
تشبهها في الجنح أم رثال
تهاداني الأرواح حتى تحطني
على يد ريح بالفرات شمال
ولا يرعك قوله: «تشبهها في الجنح أم رثال»؛ فإنه أسلوب مألوف من أساليب القدماء حين كانوا يشبهون السحاب بالنعام، ولكنك تحب التصريح والكلام القريب، فهو يتمنى ما كان ينكره على الإبل من العودة إلى أرض الشام تحمله إليها غمامة أو تتهاداه الريح حتى تبلغ به شاطئ الفرات غير بعيد من حلب والمعرة.
وإذا كنت تريد تصريحا أصرح ووضوحا أوضح فاقرأ قوله:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تغيث بها ظمآن ليس بسال
ولا يشغلك الشعر عن التاريخ؛ فأبو العلاء يقول هذه القصيدة بعد أن وصل إلى بغداد بليال قليلة، وهو يقول بعد ذلك:
دعا رجب جيش الغرام فأقبلت
رعال ترود الهم بعد رعال
فهو إذن قد وصل إلى بغداد في جمادى الثانية، وأكبر الظن أن هذه القصيدة هي أول ما صور شوقه إلى المعرة بعد أن وصل دار السلام.
وأنت تريد الكلام الواضح اليسير الذي لا التواء فيه ولا غموض، ولا رمز فيه ولا تلميح، فاقرأ قوله:
أإخواننا بين الفرات وجلق
يد الله لا خبرتكم بمحال
أنبئكم أني على العهد سالم
ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغيرها
تيممه غيلان عند بلال
وهممت أن أمضي في الحديث، ولكن صاحبي يمس كتفي مسا رفيقا وهو يقول: على رسلك، ألست ترى أنا ننصف أنفسنا وننصف أبا العلاء إن استأنفنا قراءة «سقط الزند» من أوله؟ قلت: هذا شيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أنك ستقرأ معي هذا الكتاب الفرنسي الذي صرفتني عنه آنفا، أو ستخلي بيني وبينه حتى أقرأه؛ فقد شغفت بهذه الصحف الأولى منه. قال وهو يضحك: ولن تمضي فيه حتى تزداد به شغفا وكلفا.
نوفمبر 1944
عيد
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
هذا سؤال ألقاه المتنبي على أحد الأعياد في مصر منذ ألف عام، وأظن أن كل شاعر أو غير شاعر يستطيع أن يلقيه اليوم على عيد الاستقلال الذي تنعم به مصر السعيدة، ويستطيع أن يلقيه في نفس اللهجة اليائسة البائسة التي اصطنعها المتنبي، فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ألف عام في مصر، ولكن شيئا واحدا لم يتغير؛ وهو أن الشعب المصري ما زال كما تصوره قصيدة المتنبي راضيا ناعما رضي البال، تختلف عليه الأعياد فيستقبلها مبتهجا مغتبطا؛ لأنها تحمل إليه من ألوان السعادة والبهجة والغبطة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والشعراء وأمثال الشعراء من المفكرين والمفلسفين هم وحدهم الذين ينظرون إلى هذا الشعب، فإذا رأوه ساهيا لاهيا، وراضيا ناعما؛ رسموا على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، وقالوا كما قال المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
وقد أرادت دورة الفلك أن يستقبل المصريون اليوم عيدين في نهار واحد: عيد قديم بعد به العهد؛ وهو عيد وفاء النيل، وعيد حديث قرب به العهد؛ وهو عيد الاستقلال. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1936 أمضى المصريون - وكانوا يومئذ مجتمعي الكلمة موحدي الرأي - هذه المعاهدة التي تنظم الأمر بيننا وبين حلفائنا الإنجليز، ثم عادوا فقرروا أن هذا اليوم سيصبح عيدا وطنيا يذكر فيه المصريون خطوة خطيرة خطوها في سبيل الاستقلال. وما أظن أنهم قرروا أن يكون هذا اليوم عيدا يطمئن المصريون إليه ويقنعون بما يصور من ظفرهم ببعض الحقوق، وإنما أعتقد أنهم اتخذوه عيدا يثير في المصريين الأمل والشجاعة ومضاء العزم، يذكرهم بأنهم جاهدوا فظفروا ببعض الحق، فيجب عليهم أن يجاهدوا ليظفروا بالحق كله. مهما يكن من شيء؛ فالمصريون سعداء اليوم قد قرت عيونهم، وطابت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم؛ لأن النيل قد وفى لهم بما عاهدهم على أن يمدهم به في كل عام من الري والخصب والثراء، ولأن حلفاءهم الإنجليز قد وفوا لهم بما عاهدوهم عليه من احترام الاستقلال والاعتراف بالكرامة، والاحتفاظ لهم بالمودة والحب على أساس من الحق والعدل والمساواة.
وفى النيل فيجب أن يسعد المصريون، ووفى الحلفاء فيجب أن يسعد المصريون، وهم سعداء. ألا ترى إلى الحكومة قد قررت إراحة الوزارات والمصالح من العمل في هذا العيد السعيد، فأباحت للموظفين أن يناموا حتى يرتفع الضحى، وأن يستيقظوا آمنين لا يشفقون من الانتقال إلى دواوينهم مع صعوبة الانتقال، ولا من هذه الأعمال الشاقة المرهقة التي ينهضون بها في مكاتبهم، وأذنت لهم بأن يقيموا في بيوتهم إن يشاءوا، ويختلفوا إلى أنديتهم وقهواتهم إن أحبوا، يلقى بعضهم بعضا باسما، ويلقي بعضهم إلى بعض ألوان الحديث، يتندرون بما تنشر الصحف من أخبارهم وأخبار نظرائهم، ويتحدثون بما تنشر الصحف من ضروب الخصام والصراع بين المصريين، ويتفكهون بما تنشر الصحف المضحكة من ألوان الفكاهة وفنون الصور وصنوف الإشاعات، يجدون في هذا كله اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، ومتى تلتمس اللذة إذا لم تلتمس في يوم العيد، ومتى يطلب النعيم إذا لم يطلب يوم وفاء النيل بالري والثراء، ويوم وفاء الحلفاء بالكرامة والاستقلال؟
ألا ترى إلى الحكومة قد أمرت أن ترفع الأعلام على الدواوين في العاصمة والأقاليم؛ ليرى الناس جميعا أن الأمة المصرية راضية مبتهجة، تحتفل بعيدها السعيد، أو بعيديها السعيدين؟ كل شيء يدل في وضوح وجلاء على أننا سعداء، ويوجد بيننا مع ذلك من يرسم على ثغره هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويقول في لهجة المتنبي الساخرة اللذاعة:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
ذلك لأن هؤلاء الناس يرون أشياء لا تراها الحكومة، أو لا تحب أن تراها، أو لا تحب أن يظهر أنها تراها، وهم حين يرون هذه الأشياء يشعرون بأن هذه السعادة الظاهرة ليست من السعادة في شيء، وإنما هي تجلد على احتمال الشر، وتكلف لاحتمال الشقاء، واحتيال للتخلص من المكروه. فهؤلاء الذين أذنت لهم الحكومة بالراحة من الاختلاف إلى الدواوين لا يسعدون بالراحة، كما أنهم لا يسعدون بالعمل، وإنما هم أشقياء حين يذهبون إلى مكاتبهم، وأشقياء حين يستقرون في بيوتهم، وأشقياء حين يختلفون إلى أنديتهم، وحين يتجاذبون أطراف الحديث يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي خلقت لتحدث في الحياة أمورا ذات خطر، فردت إلى الخمول والخمود، والرضى بالقليل، والقناعة بما لا يقنع به إلا العاجزون الذين فرض عليهم التواضع في الآمال والأماني، وفي المطامع والمآرب فرضا.
يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي كان يمكن أن تكون كبارا، فاضطرت إلى أن ترضى بالصغر والضآلة، وتقنع بالهين من الأمر، فترضى بالعمل الذي لا يغني حين تعمل، وترضى بالراحة العقيمة المجدية حين تستريح.
إن هذه الثغور الباسمة لا تصور نفوسا باسمة، وإنما هو ابتسام يصور الكآبة، وابتهاج يصور الحزن، ورضى يصور السخط الذي عجز حتى عن أن يعلن نفسه إلى أصحابه؛ فاستقر دفينا في أعماق القلوب، يملأ نفوس أصحابه استخفافا بالحياة، وانصرافا عن جلائل الأعمال، ويقنعها بما كتب لها من هذه الحياة التافهة التي تمر بأصحابها وبمن حولهم وبما حولهم كما يمضي الماء الرفيق على الحجارة الملس، فلا يترك فيها أثرا يسيرا أو عميقا.
إن هذه الأعلام التي تخفق مع الريح لا تصور خفقات القلوب ولا خلجات النفوس؛ لأن القلوب لا تخفق، ولأن النفوس لا تختلج، وإنما هي حياة راكدة لا تدل على شيء، لا تصور فوزا قد ظفر به أصحابها، ولا تصور أملا يطمح إليه أصحابها، وإنما تصور أياما تمضي يتتابع فيها الليل والنهار في غير طائل ولا غناء. لقد وفى النيل للمصريين بالري والثراء، ولكن ما حظ المصريين من هذا الري؟ وما نصيب المصريين من هذا الثراء؟ إنهم يبلغون ما يقرب من عشرين مليونا من الناس قد وفى لهم النيل جميعا بالري والثراء، فكم منهم يستمتع بهذا الري؟ وكم منهم ينعم بهذا الثراء؟ آحاد الألوف أو عشرات الألوف أو مئات الألوف إن شئت، ولكن هناك ملايين وملايين من المصريين لا ينعمون بهذا الري؛ وإنما يشربون ماء يحمل إليهم المرض والأذى والعناء، ولا يستمتعون بالثراء وإنما يصارعون البؤس والحرمان، فيصرعهم البؤس والحرمان آخر الأمر وهم يسمعون أن حكومتهم تحتفل بوفاء النيل، وهم يعلمون أن النيل قد وفى، وهم يحتفلون بالعيد؛ لأن الأعياد قد خلقت للاحتفال بها، وهم يرضون عن وفاء النيل ويبتهجون به؛ لأن وفاء النيل شيء يسر ويشيع الابتهاج.
ولكن وفاء النيل بالقياس إليهم معناه: الكد الذي لا يعصم صاحبه من الجوع، والعناء الذي لا يحمي صاحبه من الحرمان. معناه: العمل لتمتلئ بعض الأيدي، وتظل يد العامل خالية لا تمسك شيئا. معناه: الشقاء لتكتظ بعض البطون، ويظل بطن العامل خاليا يمزقه الجوع. معناه: العمل لينعم فريق من الناس، وليمعن أكثر الناس في هذا الابتئاس البغيض الذي ألفه أصحابه حتى رأوه حقا عليهم، وحتى وثقوا بأنه نصيبهم من الحياة؛ فرضوا به واطمأنوا إليه، ولم يحاولوا تغييره ولا التخلص منه؛ لأنهم لا يستطيعون مغالبة القضاء؛ فهم ماضون في شقائهم، محتملون لآلامهم، راضون بما قسم لهم. والمتنبي وأمثاله ينظرون إليهم فيفهمون عن صمتهم، ويبينون عن غيهم بهذا البيت:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
كذلك يحتفل المصريون بوفاء النيل، فأما احتفالهم بالاستقلال فليس أقل روعة ولا بهجة ولا جمالا، هو ملائم كل الملاءمة لحياتهم المادية التي يحيونها.
كانوا يظنون أن إمضاء المعاهدة خطوة تقرب من الأمل، وتدني من الحق، وكانوا يظنون أنهم قد دافعوا عن الديمقراطية، وأبلوا في الدفاع عنها بلاء حسنا، وكانوا يظنون أنهم قد صبروا حين قل الصابرون، وأنهم قد وفوا حين قل الأوفياء، وأنهم قد ثبتوا حين زاغت الأبصار، وطارت النفوس، وبلغت القلوب الحناجر، وأن هذا كله سيبلغهم آمالهم، ويكسبهم حقوقهم، ولكنهم نظروا فإذا الذين لم يصبروا ولم يثبتوا ولم يفوا أحسن منهم حالا، وأدنى منهم إلى تحقيق الآمال وإرضاء المطامع والمآرب.
كانوا يظنون أنهم سيبلغون الاستقلال الكامل، وأن حلفاءهم سيهدون إليهم ما بقي من هذا الاستقلال أداء للحق واعترافا بالجميل؛ فنظروا فإذا حلفاؤهم يؤثرون الصمت، ثم يقولون: سننظر في الوقت الملائم مقدرين لمصالحنا المتبادلة ...
كانوا يظنون أن حكومتهم ستطالب بهذا الحق وستجد في الظفر به لا تريح ولا تستريح، فإذا رئيس حكومتهم يعلن إليهم أنه ينتهز الفرصة ولن يقصر عن انتهازها حين تسنح ...
كانوا يظنون أن السلام سيحمل إليهم أمنا وعدلا ورضى، فإذا السلام يمثلهم فيما كانت الحرب تفرض عليهم من الخوف والجور والظلم، وكانوا يظنون أن السلام سيردهم أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ فإذا السلام يمسكهم في القيود والأغلال كما أمسكتهم الحرب في القيود والأغلال.
كانوا يقدرون أنهم سيحتفلون في هذا اليوم بكسب الحقول ونيل الآمال، فإذا هم يحتفلون في هذا اليوم بإمضاء المعاهدة التي أكل الدهر عليها وشرب، والتي أبلتها الأعوام القليلة؛ لكثرة ما في هذه الأعوام من الأحداث والخطوب، وإذا هم اليوم كما كانوا في سنة 1937؛ بعد أن مضى عام واحد على إمضاء المعاهدة يرضون بالقليل وينتظرون الكثير كأن الحوادث لم تحدث، وكأن الخطوب لم تلم، وكأن إيطاليا وألمانيا واليابان لم تستسلم بلا قيد ولا شرط.
فهم من أجل هذا كله يحتفلون بوفاء الحلفاء كما يحتفلون بوفاء النيل. يوم من الأيام يمر وتتبعه أيام أخرى ليست خيرا منه، وعسى ألا تكون شرا منه. نعيم قد قسم للقلة، وبؤس قد فرض على الكثرة، وسلطان قد أتيح للقلة، وخضوع قد فرض على الكثرة، ومصالح الحكومة ودواوينها معطلة، والموظفون يستريحون في الدور، ويقطعون الوقت في الأندية، والشمس تشرق باسمة ساخرة، والليل يقبل عابسا مزدريا، والأعلام تخفق، والشعب يعمل، والمتنبي وأمثاله يرسمون على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويسألون في صوت ساخر حزين:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
1944
طيف
ألقى كل واحد منهما إلى صاحبه نظرة دهشة واجمة، فيها كثير من هذه الغفلة الحائرة التي تنشأ من المفاجأة، والتي تلم بالآمن المطمئن حين يفجأه من الأمر ما لم يكن ينتظر، بل ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت النظرة التي ألقاها كل منهما إلى صاحبه خاطفة أول الأمر، ولكنها عادت فطالت واستقرت شيئا ما، ولزمت مع ذلك صمتا، إن صور شيئا فإنما يصور انعقاد اللسان حين تسيطر الحيرة على العقل فلا يفكر، وعلى القلب فلا يشعر، وعلى اللسان فلا يقول.
وقد لبث كل منهما بإزاء صاحبه ذاهلا غافلا لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول، ولو قد عرض لهما هذا اللقاء المفاجئ لأصابتهما الحيرة وقتا طويلا أو قصيرا، ولانتهيا آخر الأمر إلى مخرج من هذه الحيرة بكلمة تنفرج عنها الشفاه، أو ضحكة تنفغر لها الأفواه. ولكنهما في موقفهما هذا لم يكونا يستطيعان أن يخرجا من حيرتهما الصامتة إلى الضحك أو إلى الكلام؛ فقد كان بينهما هذا القبر القائم يضطرهما إلى شيء من الوقار لا يملكان معه ضحكا إن أرادا الضحك ، ولا كلاما إن أرادا الكلام. وهما من أجل ذلك قد لبثا صامتين واجمين يلتمسان مخرجا من هذا الصمت، ومنصرفا عن هذا الوجوم، فلا يجدان إلى شيء من ذلك سبيلا، وقد أخذ كل واحد منهما يحدث نفسه بالانصراف عن هذا القبر، يرى في هذا الانصراف فرجا من هذا الحرج، ومخرجا من هذا الضيق، ولكن كل واحد منهما كان يسأل نفسه: أيبدأ هو بالانصراف؟ أم ينتظر حتى يضطر صاحبه إلى أن ينصرف؟
وإنهما لفي هذه الحيرة المتصلة وإذا خطو يسمع وقعه من بعيد، فيرفعان رأسيهما، وينظران من حيث يسمعان، فإذا شخص يقبل بطيئا رزينا متكلفا الوقار، ولا يكاد يدنو منهما حتى يعرفاه كما يعرف كل واحد منهما نفسه؛ فهو صديقهما الثالث الذي تعود أن يلقاهما حين يقبل المساء من كل يوم، وأن يسمر معهما حيث تعودوا أن يسمروا في ناد من أندية القاهرة أول الليل، وأن ينصرف معهما إلى حيث تعودوا أن ينصرفوا حين يوشك الليل أن ينتصف، فيلقون في بعض الأندية الخاصة من يلقون من رفاق اللهو وخلان العبث والمجون، حتى إذا كاد الليل يبلغ ثلثيه أوى ثلاثتهم إلى تلك الدار التي تعودوا أن يأووا إليها في آخر الليل، وقد خلصت نفوسهم للهو، وصفت ضمائرهم للعبث، وحسن استعدادهم للمجون، أو قل إن شئت: لاستيفاء حظهم من المجون.
هنالك يكون شرب الكئوس الأخيرة، وهنالك تنطلق الألسنة بما تشاء في غير تكلف ولا تحرج، وهنالك ترسل النفوس على سجيتها في غير احتياط ولا تحفظ، وهنالك يخلع الإنسان عن نفسه هذه الخصال المصطنعة التي فرضتها الحضارة على المتحضرين، ويصير إلى حال من الإنسانية المترفة الفاجرة التي تنحط بصاحبها أو ترتقي بصاحبها؛ لا أدري، إلى حيوانية مترفة لا أدب فيها ولا وقار.
حتى إذا انهزم الليل وولى مدبرا، وانتصر الصبح وأقبل ظافرا؛ انسلوا من هذه الدار لا تكاد أقدامهم تحملهم، ولا تكاد أجسامهم تسع نفوسهم، ولا تكاد ألسنتهم تنطق، ولا تكاد عقولهم تفكر، ولا تكاد قلوبهم تشعر؛ لأنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الاستمتاع بإنسانيتهم المهذبة التي نعمت حتى أفسدها النعيم، وأثرت حتى أطغاها الثراء، وارتقت حتى انحدر بها الارتقاء إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، ولا يكادون يبلغون باب الدار متثاقلين متهالكين يسندهم الخدم مكبرين لهم، ساخرين منهم، حتى يتلقى كل واحد منهم سائق سيارته فيقره على شيء من الجهد في السيارة، يظهر الإكبار له ويضمر الاستهزاء به، ثم يمضي بهذا المتاع الغالي الرخيص حتى ينتهي به إلى داره، وحتى يرد منه إلى أهل الدار شيئا عظيما جدا في أعين الناس، حقيرا جدا في عين نفسه وفي عين أهله، وهو هذه البقية التي تركها الصبى واللهو والخلاعة والمجون.
فإذا تقدم النهار، وارتفع الضحى، وزالت الشمس أو كادت تزول؛ أفاقت هذه البقية البالية من نومها الثقيل الغليظ، وتلقاها عمال الترف، أولئك الذين يجددون البالي، ويحسنون القبيح، ويقيمون المتهدم، ويردون الشباب إلى من فارقهم الشباب ... وما هي إلا ساعات حتى تستأنف هذه البقايا البالية حياة جديدة فيها نشاط وقوة، وفيها جمال ونضرة، وفيها شوق مجدد إلى اللهو، وفيها نزوع مستأنف إلى المجون. ولا يكاد النهار يبلغ آخره حتى يخرج من هذه الدور أشخاص فيها كثير من المرح، وكثير من الفنون، وكثير جدا من الجهل والغرور، وإذا هؤلاء الأشخاص يلتقون في ناديهم الذي تعودوا أن يلتقوا فيه، فتكون الدعابة الفاترة، وتكون الفكاهة الباردة، ويكون المزاح السخيف، ويكون الإقبال الفاتر على العبث الفاتر. وكلما تقدم الليل ازداد النشاط، واشتد المرح، وعظم الخطر من العربدة، وأخذ كل جسم من هذه الأجسام يصير ثوبا قد دخلت فيه نفس جنية، طغى عليها الهوى، وجمحت بها الشهوة، واندفع بها حب الإثم إلى غير حد، وإذا هم يستأنفون ليلا كليلهم الماضي، ويستقبلون حياة ناعمة بائسة كحياتهم الماضية، ويعودون إلى دورهم مع الصبح بقايا محطمة لا تريد شيئا، ولا تقدر على شيء، ولا تصلح لشيء حتى يشتمل عليها النوم فيرد إليها شيئا من قوة، ثم يتناولها عمال الترف الذين يرقعون البالي ويجددون القديم، فيعملون ويعملون، ويحتالون ويتكلفون، حتى يردوا هذه البقايا البالية أشخاصا قادرة مريدة ، ولكنها لا تقدر إلا على الفساد، ولا تريد إلا الإثم والمجون.
ولكنهم في هذه المرة لم يلتقوا في ناديهم ذاك الذي تعودوا أن يلتقوا فيه حين يقبل الليل، وإنما التقوا في مكان لم يكن ينتظر أن يلتقوا فيه، ولا أن يذهب إليه واحد منهم، فليس فيه لهو وليس هو مظنة للهو، وليس فيه سمر ولا هو مظنة للسمر، ومتى لها الناس بين القبور؟ ومتى سمر الناس حول قبر لم تمض على إقامته إلا أسابيع قليلة؟ كيف ذهب هؤلاء النفر إلى هذا المكان الموحش في قلب الصحراء؟ وكيف التقى هؤلاء النفر حول هذا القبر الذي لم تستقر فيه صاحبته إلا منذ أمد قريب؟ هذه هي المسألة التي ألقاها كل واحد منهم على نفسه، فوجد الجواب عليها سهلا يسيرا، وهم أن يفكر فيها ويستقصي التفكير ويتعمقه، لولا أنه لم يخلق للتفكير ولا للاستقصاء ولا للتعمق؛ وإنما خلق للعبث الذي لا يغني، واللهو الذي لا يجدي، والمجون الذي يفسد المروءة ويذهب بنضرة الأجسام والنفوس.
فلم يكد ثالث القوم يرى صاحبيه حتى أخذه ما أخذهما من الدهش، وعراه ما عراهما من الذهول، وغشيه ما غشيهما من الوجوم، ولكنه لم يملك نفسه طويلا وإنما هم أن يضحك؛ ثم استحى من القبر، فولى مدبرا وتبعه صاحباه، حتى إذا بعدوا عن هؤلاء القوم الذين لا تزاور بينهم ولا وصل، إلا أن يكون نشور كما يقول أبو نواس؛ تساءلوا: كيف كان سعيهم إلى هذا المكان؟ ووقوفهم عند هذا القبر؟ والتقاؤهم على غير ميعاد؟
وقد جعل بعضهم يكذب بعضا في شيء من الحيرة المتبلدة، أو من التبلد الحائر، ولكنهم تواصفوا ما رأوا، ووازنوا بين ما سمعوا، فلم يروا بدا من أن يصدق بعضهم بعضا، ولم يروا بدا من أن يعترفوا بهذا الأمر الغريب العجيب الذي كان خليقا أن يملأ قلوبهم روعا ونفوسهم هولا، لولا أنهم تعودوا أن يجدوا في الكأس ما يغسل قلوبهم من كل روع، وينفي عن نفوسهم كل هول. ولست أدري إلام صارت أمورهم جميعا؛ ولكن أعلم أن أحدهم - على أقل تقدير - قد أدركه ذهول يشبه الجنون، وغفلة تشبه الخبل، وألمت به علة لست أدري أيثبت لها أم يعجز، عسى أن يقاومها ويجد إلى البرء منها سبيلا.
وقد تسألني أنت عن سعيهم إلى هذا المكان الموحش في الصحراء، ووقوفهم عند هذا القبر الذي لم يقم إلا منذ أمد قريب، والتقائهم على غير ميعاد بين هذه القبور حين أخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وتجرر على هذه القبور أشعة شاحبة، إن صورت شيئا فإنما تصور حزنا كأنه كان صدى يردده الجو لهذا البلى الذي كان يعمل جاهدا فيما احتوته هذه القبور.
ولست أكره أن أقص عليك مصدر هذا كله، ولكني أعتقد أنك ستدهش لما أقص عليك من قصص، وتستنكر ما أسوق إليك من حديث، فأنت وما شئت من الشك، وأنت وما أحببت من الثقة، وإنما الشيء الذي أطمئن إليه أنا كل الاطمئنان، هو أني إنما أحدثك بشيء قد وقع، وأصور لك في هذا الحديث أمرا قد كان. وكل ما أتمنى هو ألا يعرض لك مثل ما عرض لهؤلاء النفر الثلاثة، الذين أفسد عليهم أمرهم ما أغرقوا فيه من عبث ولهو، وما تهالكوا عليه من إثم ومجون.
كان هذا القبر الذي التقوا عنده مستقرا لغانية حسناء رائعة الحسن، بارعة الجمال، فاتنة الظرف، ساحرة الطرف، تعودوا أن يلقوها في تلك الدار التي كانوا يأوون إليها من آخر الليل، ويستنفذون فيها ما بقي لهم من قدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاء سواء؛ تعدل بينهم فيما تهدي إليهم من ظرفها وخفتها ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودد الذي يغري ويطمع، حتى يخيل إلى المرء أنه مشرف على الغاية، ومنته إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المهلك، والقنوط الذي يملأ القلوب لوعة وعذابا، فكان كل واحد من خلانها يستطيع أن يتمثل قول جميل:
ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
ولكنهم كانوا أجهل جهلا، وأحمق حمقا، وأفرغ أفئدة، وأسخف عقولا من أن يتمثلوا الشعر أو شيئا يشبه الشعر، إنما كانوا أصحاب لذة غليظة جافية، يشقون لينعموا، وينعمون ليشقوا، ويألمون ليلذوا، ويلذون ليألموا، دون أن يوازنوا بين شقاء ونعيم، أو بين لذة وألم، قد دفعوا إلى الحياة وما فيها من نعيم وبؤس، فهم مندفعون إلى الحياة لا يفكرون في نعيم ولا بؤس، دفعهم إلى هذه الحياة المنكرة ثراء لم يجدوا في كسبه عناء، وتربية لم تمنحهم أحلاما راجحة، ولا بصائر نافذة، ولا قلوبا قادرة على أن ترتفع عن اللذات المادية الآثمة والشهوات المندفعة الجامحة.
فكانوا إذا يلقون صاحبتهم تلك فيمن يلقون من خليلات اللهو ورفيقات العبث والمجون يجدون في هذا اللقاء حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وإنجاحا وإخفاقا، ولكنهم قد اتصلت نفوسهم جميعا بهذه الفتاة اتصالا شديدا، وتعلقت قلوبهم بها تعلقا عنيفا، واشتدت آمالهم فيها، وعظم بأسهم منها، حتى أخذ بعضهم ينفس على بعض ما يصدر عنها من لفظ ولحظ وإشارة، وحتى كاد بعضهم يصبح فيها لبعض عدوا. وهم على ذلك كانوا يجتمعون ويفترقون، لا يزيدهم الاجتماع إلا تنافسا وتباعدا، ولا يزيدهم الافتراق إلا حرصا على التداني وكلفا باللقاء.
وقد أخذ كل واحد منهم يظن بصاحبه الظنون، يزعم أنها تؤثر فلانا من دونه، ويشتد حقده على فلان ومكره به وكيده له، حتى كاد الأمر ينتهي بهم إلى أعظم الشر، ولكن الأيام أراحتهم من هذا العناء المهلك، فردت عنهم هذا الشر المستطير؛ لأنها اختطفت من بينهم هذه الغادة الحسناء في حادثة من هذه الحوادث التي تنقل الناس من الدار الأولى إلى الدار الآخرة في طرفة عين، فاجتمعت قلوبهم على الحزن والثكل، وحزن هؤلاء وأمثالهم لا يتصل ولا يطول؛ فما هي إلا أيام حتى يستأنفوا حياتهم كما ألفوها عابثة ماجنة، وسخيفة فارغة.
ولكن أحدهم يفيق من نومه مروعا مفزعا شديد الذهول؛ فقد رأى طيف هذه الغادة الحسناء يلم به في أثناء نومه الثقيل، فيذود عنه النوم ويرده إلى يقظة شديدة، وإذا هو ينظر فيرى صاحبته كما تعود أن يراها؛ فاتنة ساحرة، تدنو منه وتتلطف له وتتودد إليه، وتقول له في صوتها العذب الذي يسحر القلوب: ما كنت أحسب أنك ستتركني حيث أنا وحيدة مستوحشة لا تهدي إلي زيارة ولا تحدث بي عهدا ... ما أسرع ما نسيتني، وإني على ذلك لم أنسك، ولا يمكن أن أنساك، ألمم بداري قبل أن يقبل الليل. ثم تنصرف عنه، وينظر فلا يرى شيئا، ويتسمع فلا يسمع شيئا، وينهض فيستأنف حياته كما تعود أن يستأنفها كل يوم؛ لا يلقي بالا إلى ما رأى، ولا يلقي بالا إلى ما سمع، فإذا كان الغد جاء الطيف كما جاء أمس، وتحدث إليه بمثل ما تحدث به أمس.
وقد تكررت هذه الزيارة مرة ومرة حتى لم يشك في أن من الحق عليه أن يلم بهذا القبر، وأن يهدي إليه تحيته في طاقة من الزهور، وقد فعل، فلم يكد يبلغ القبر حتى رأى صاحبه، ولم يكد يقوم على القبر مع صاحبه حتى أقبل صاحبهما الثالث، فلما انصرفوا عن القبر قص أحدهم على صاحبه ما رأى وما سمع، فإذا كل واحد منهم قد رأى مثل ما رأى، وسمع مثل ما سمع، وأبطأ مثل ما أبطأ، ثم أقبل على القبر كما أقبل عليه يحمل إليه التحية وطاقة من الزهر.
أتراها أرادت أن تستبقي بينهم المنافسة والخصام بعد موتها؟ وأن تضطرهم إلى أن يحفظوا لها من الود مثل ما كانوا يظهرون لها قبل أن تموت؟ أم تراها أضغاث أحلام قد عبثت بنفوس هؤلاء النفر الثلاثة؟ ولكن كيف يتفق أن يلم الطيف بهم في يوم واحد، ويتراءى لهم في صورة واحدة؟ ويلقي إليهم حديثا واحدا؟ ويضرب لهم موعدا واحدا؟
قلت لصاحبي حين انتهى من حديثه إلى هذه الأسئلة: لا أدري، ولا أستطيع أن أفتح عليك، فسل من شئت من الجامعيين الذين يدرسون دقائق علم النفس؛ فلعلك تجد عندهم غناء.
1945
ضمير حائر
أوى إلى سريره راضيا ناعم البال، وهب من سريره موفورا طيب النفس، ونام بين ذلك نوما هادئا هانئا لم تنغصه مروعات الأحلام، ولم يكد يخرج من غرفته حتى تلقاه الصبية من بنيه وبناته بوجوه مشرقة تتألق فيها نضرة النعيم، وثغور جميلة تبسم عن مثل اللؤلؤ المنضود، وحملت إليه أصواتهم الرخصة العذبة تحية الصباح، فردها عليهم في صوت حلو يجري فيه الحزم الصارم ويشيع فيه الحنان الرفيق، وأنفق معهم ساعة حلوة يداعب هذه ويلاعب ذاك، ثم خلص منهم بعد جهد، وفرغ لنفسه؛ ليصلح من شأنه قبل أن يغدو إلى عمله، وكان عمله خطيرا، وكان اهتمامه لهذا العمل وعنايته به أعظم منه خطرا؛ لأنه كان قوي الضمير حريصا أشد الحرص على أداء الواجب كاملا، وكان أبغض شيء إليه أن يتهمه أحد، أو أن يتهم هو نفسه بأيسر التقصير.
ولم تكن عنايته بحسن زيه وجمال شكله أقل من عنايته بالعمل والواجب، فقد استقر في نفسه منذ بلغ الشباب أن من كمال المروءة أن يكون الرجل حسن المنظر جميل الطلعة ما وسعه ذلك، وأن تقع عليه العين فلا تقتحمه، وتبلغه الأبصار فلا تزور عنه ولا تعدوه إلى سواه، ذلك أدنى أن يحببه إلى النفوس، ويحسن مكانه في القلوب، ويجعل محضره خفيفا، وعشرته شيئا يطلب ويرغب فيه.
وكان الله قد منح صاحبنا حظا من جمال الخلقة، وخلقه في تقويم حسن، فزاده ذلك عناية بنفسه واهتماما بمنظره، وشجعه الناس على ذلك بما كانوا يهدون إليه من ثناء، وشجعه النساء خاصة على ذلك بما كن يحمدن من صورته الرائعة وزيه الأنيق وحسن تلطفه في اللقاء والعشرة والحديث، كل ذلك فرض عليه العناية بجسمه وزيه وشاربه أكثر مما تعود الناس أن يصنعوا، فكان يخلو في غرفته كل صباح، وكان يخلو في غرفته كل مساء وقتا غير قصير، ثم يخرج من غرفته ليغدو إلى عمله، أو ليروح إلى ناديه، فلا يكاد أهله يرونه حتى يحدث منظره الرائع في نفوسهم فجاءة جديدة على كثرة معاشرتهم له ومخالطتهم إياه.
وقد خلا في ذلك الصباح إلى نفسه في غرفته، فأطال الخلوة، وغير وبدل من زيه ما استطاع التغيير والتبديل ، حتى إذا أعد نفسه للناس، أو اعتقد أنه أعد نفسه للناس وهم أن يخرج؛ ألقى إلى المرآة هذه النظرة السريعة الخاطفة التي كان يلقيها إليها دائما كأنما يسألها رأيها الأخير قبل أن يخرج للقاء الناس، وكان رأيها الأخير دائما حسنا مقنعا يشيع في نفسه شيئا من الرضى الهادئ والثقة المنتظرة. ولكن رأي المرآة الأخير في ذلك الصباح لم يكن حسنا ولا مقنعا ولا مشيعا للرضى والثقة، وإنما كان مزعجا مروعا؛ فلم تكد عينه تبلغ المرآة حتى ارتدت عنها مذعورة، ثم عادت إليها مشفقة، وارتدت عنها وقد نقلت إلى قلبه ذعرا يبلغ الهلع، وإذا هو يرتد عن مكانه، ويرجع أدراجه مسرعا، ويحول وجهه عن المرآة تحويلا تاما حتى لا تخطئ عينه فتمتد إليها مرة أخرى.
وقد أخذ قلبه يخفق خفقا شديدا سريعا متصلا، وأخذت جبهته تنضح بشيء من عرق بارد، وأخذت قطرات من هذا العرق تنطبع على وجهه، وجعل الدوار يعبث به وبكل شيء من حوله، حتى خيل إليه أن الغرفة كلها قد استدارت؛ فأصبحت المرآة وراءه، وأصبحت هذه المائدة - التي كان يجلس إليها ليصلح من شأنه - أمامه. وإذا هو مضطر إلى أن يتماسك ويتمالك، وإذا هو عاجز عن ذلك، فيجلس على أول كرسي يبلغه مضطربا ممعنا في الاضطراب حائرا، لا يكاد يتبين حيرته، ولا يكاد يتبين مصدرها، ومع ذلك فقد كان مصدر هذه الحيرة يسيرا جدا غريبا جدا في وقت واحد. كان يسيرا؛ لأنه لم يكن إلا ما رأى في المرآة، وكان غريبا؛ لأنه لم ير في المرآة وجهه؛ وإنما رأى أقبح وجه يمكن أن يكون الله قد خلقه، وأبشع منظر يمكن أن يمتحن الله به الناس أو القرود.
وقد طال جلوسه على كرسيه، وإطراقه إلى الأرض، وإغراقه في الحيرة، ثم أخذ جسمه يهدأ شيئا فشيئا، وجعل قلبه يستقر في صدره قليلا قليلا، وامتدت يده فاترة إلى منديل أمره على وجهه فجفف به العرق، وارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة فيها شيء من غموض وشيء من رضى؛ فقد ثابت نفسه إليه وجعل يسخر من هذا الروع الذي ألم به، فأكبر الظن أن شيئا من علة قد ألم بمعدته فأفسد عليه مزاجه شيئا ما. ثم أنشأ يسأل نفسه عما طعم أمس وعما شرب؟ فلم ينكر من طعامه ولا من شرابه شيئا، فقد طعم أمس وشرب كما كان يطعم ويشرب كل يوم، ولكن بمعدته شيئا - من غير شك - هو الذي خيل إليه ما خيل حين مد عينه إلى المرآة.
ومن المحقق أنه لم يكن يحس ألما ولا يشعر بشيء مما يشعر به المرضى حين يطرأ عليهم المرض، ولكن لا سبيل إلى تعليل هذه الظاهرة الطارئة إلا بشيء أصاب معدته أو كبده. وهو على كل حال قد استرد شيئا من طمأنينته، فعاد إلى شأنه يصلح منه ما أفسد هذا الاضطراب، فلما بلغ من ذلك ما أرضاه أزمع أن يخرج من غرفته دون أن يسأل هذه المرآة المشئومة عن شيء، ولكن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ألقى في روعه - مع كثير من اللباقة والمكر - أن من الحق عليه أن يسأل هذه المرآة التي تعود أن يسألها دائما، والتي تعودت أن تصدقه دائما، فمن يدري لعل شيئا ألم به فغير من وجهه وشكله وهو لا يدري؟
وما ينبغي أن يظهر الناس منه على ما لا يحب أن يظهروا عليه، وقد ألقى نظرته إلى المرآة؛ فارتدت عينه مذعورة ثم عادت إلى المرآة مشفقة، ثم ارتدت وقد حملت إلى قلبه جزعا وهلعا، وإذا هو يجاهد ليحبس صيحة قد همت أن تخرج من حلقه فتملأ الغرفة من حوله وتدعو إليه أهل الدار، ولكنه رد هذه الصيحة إلى مستقرها ولم يتح لها أن تنفجر، واستأنف اضطرابه ذاك. ثم ثابت إليه نفسه بعد لأي فيسرع إلى الجرس يدقه، فإذا دخلت عليه الخادم، رفع إليها وجهه وظل صامتا حينا يريد أن يعرف أتنكر الخادم من أمره شيئا، فلما رأى الخادم كدأبها كلما دعاها إليه؛ قائمة واجمة تنتظر أمره، لا تنكر شيئا، ولا تعرف شيئا، أو لا تظهر معرفة ولا إنكارا؛ قال لها في صوت هادئ يكاد يضطرب: أنبئي سيدتك أني أنتظرها.
وأقبلت زوجه بعد حين، فرأته قائما باسما ينتظر مقدمها، فلما رأته أخذها منظره كما تعود أن يأخذها كل صباح وكل مساء، وسألها هو: أتنكرين من أمري شيئا؟ قالت متضاحكة: وماذا تريد أن أنكر من أمرك! إنما أنت كما تعودت دائما أن أراك؛ رائع الشكل، جميل المنظر، خلاب للنساء. إلى أين تريد أن تغدو اليوم؟ فإني أراك تكلفت عناية بزيك قلما تتكلفها؟ قال: وإلى أين أغدو إلا إلى عملي؟ قالت: فإن عملك لا يحتاج إلى كل هذا التأنق. ولكنه أعاد عليها قوله: أفي الحق إنك لا تنكرين مني شيئا؟ قالت - مغرقة في الضحك: في الحق إني أنكر منك هذا الإسراف في التجمل. قال في شيء يشبه الذهول: إن هذه المرآة تنبئني بغير ما تقولين. ثم ألقى على المرآة نظرته الخاطفة تلك وارتد عنها وجلا مذعورا يقول لامرأته: التمسي لي طبيبا.
وقد عاده طبيب وطبيب وطبيب، عادوه متفرقين، وعادوه مجتمعين، وفحصوا من جسمه كل ما يمكن أن يفحصوا، فلم يروا به بأسا، ولم يشخصوا له علة، ولم يصفوا له دواء، وقال له قائلهم: ما نرى بجسمك من بأس، فالتمس دواء نفسك عند نفسك، فما نظن إلا أن في ضميرك شيئا يؤذيك على علم منك أو على غير علم. وقد غيرت المرآة في غرفته مرة ومرة، ولكن المرايا كلها جعلت كلما التمس نفسه فيها ردت إليه صورة غير صورته، وشكلا غير شكله، وملأت قلبه فرقا وروعا.
وقد تسامع أعوانه وأصحابه بأنه مريض منذ لزم غرفته وانقطع عن عمله، فجعلوا يسعون إليه ليعودوه، يلقاه أقلهم، ويرد عنه أكثرهم، ويتنبأ أولئك وهؤلاء من أمره بغير الحق، تخترع لهم العلل، وتبتكر لهم الأدواء، فيصدق منهم من يصدق، ويكذب منهم من يكذب، ويشك منهم من يشك. وكنت مع هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا إليه وسألوا عنه، ثم أتيح لهم أن يروه، وكنت أثيرا عنده كما كان أثيرا عندي، لا أخفي عليه من ذات نفسي شيئا كما لا يخفي علي من ذات نفسه شيئا، وقد لقيته فيمن لقيه من أصحابه ذات يوم، فسمعنا منه وقلنا له وضربنا معه أخماسا لأسداس في أمر علته، نصدق نحن في حيرتنا، ويتكلف هو لنا الحيرة تكلفا لا يكاد يخفى علي، فلما هممنا أن ننصرف استبقاني في لباقة وظرف فبقيت، ومضى الحديث بيننا ألوانا ساعة من نهار، ثم عدنا إلى علته؛ فإذا هو يتحدث إلي بأمره كله في وضوح وجلاء.
قلت ضاحكا: ألعلك قرأت هذه القصة الإنجليزية التي كتبها أوسكار ويلد وسماها: صورة دوريان جري؛ فإن فيها ما يشبه قصتك من بعض الوجوه. قال: فإنك تعلم أني لا أقرأ الإنجليزية ولا أقرأ لغة أوروبية، ولا أعرف أن هذه القصة قد نقلت إلى العربية. قلت: أولم يتحدث إليك قط متحدث عن هذا الكتاب وكاتبه؟ قال: سمعت أطرافا من الحديث عن أوسكار ويلد، ولكن لم أسمع عن هذا الكتاب من كتبه قليلا ولا كثيرا، فحدثني أنت عن هذا الكتاب. قلت: لقد قرأته منذ زمن بعيد، وأذكر أنه يعرض على قرائه قصة فتى حسن رائع الحسن، جميل بارع الجمال، اتخذ له صديق مصور صورة تطابق شكله جمالا وروعة، وقد اقترف هذا الفتى في مستقبل أيامه سيئات كثيرة، واجترح آثاما مختلفة، فبغضت إليه نفسه أشد البغض، وقبحت صورته المصنوعة في عينه أشنع القبيح، فنفاها من حجرات داره وغرفاته إلى حيث ينفى سقط المتاع. ولكنه كان يلم بها من حين إلى حين تزيدا من بغضه لها وسخطه عليها، واستعذابا لهذا السخط وذلك البغض.
ثم أصبح الناس ذات يوم فرأوه مقتولا إلى جانب صورته، أراد أن يمزق الصورة فمزق صدره. وقد أراد أوسكار ويلد - فيما أظن - أن يصور تأثير الندم على ما يقترف من الآثام في بعض الضمائر والنفوس، فلم تكن هذه إلا مرآة لضمير دوريان جري، رأى فيها ما كان يملأ ضميره من السيئات المنكرة والجرائم البشعة.
قال صاحبي في صوت يأتي من بعيد: وما أنا وهذه القصة؟ قلت في صوت يأتي من بعيد أيضا : خشيت أن تكون قد قرأتها أو سمعت عنها فأثرت في أعصابك تأثيرا سيئا، فما أكثر ما تؤثر الكتب قيمها وسخيفها في أعصاب الناس، فتحملهم على غير ما أراد المؤلفون أن يحملوهم عليه. قال صاحبي وعلى ثغره ابتسامة حزينة: هون عليك؛ فإني لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع عنه، ولم أتأثر به قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فإن من حقه أن يقرأ.
قلت - وقد ندمت بعد ذلك على ما قلت: فالتمس في أثناء نفسك وأحناء قلبك خطأ لعلك قد دفعت إليه أو مساءة لعلك قد قدمتها إلى بريء، فإني أعلم أنا نجهل من أمر الضمير الإنساني أكثر مما نعلم، ومن يدري؛ لعل في ضميرك الخفي ندما على شيء أتيته ثم أنسيته، ولعلك إن استكشفته أن تصلحه وتستغفر الله منه، فتقل هذا الندم الذي أخشى أن يكون هو الذي ينغص عليك الحياة. وتركت صاحبي حائرا مبهوتا، ثم أنبئت بعد أيام أنه يمرض في بعض المستشفيات، فلما سألت عن جلية ذلك قص علي محدثي عجبا من الأمر؛ فقد كان صديقي هذا البائس من قوم كرام، مات أكثرهم وبقي أقلهم، وكان الذين ماتوا - رحمهم الله - يرتفعون عن الصغائر، ويمتنعون على الدنيات، وتأبى نفوسهم فيما تأبى جحود العارف وإنكار الجميل، ورثوا ذلك عن آبائهم، وأحبوا أن يورثوه أبناءهم، فحال بينهم وبين ذلك هذا التطور الحديث الذي غير مقاييس الأشياء، وأدار أعمال الناس وأقوالهم على المنافع العاجلة والمآرب القريبة، لا على ما كان يألف آباؤنا من رعاية الحق، وتقدير المعروف.
وكان صديقي هذا البائس أحرص الناس على أن يشبه الذين سبقوه من قومه في كل ما كانوا يأتون ويدعون من الأمر، ولكن أحداث الدهر وخطوب الأيام وما تحمل من رغبة ورهبة ومن إغراء وتنفير كانت أقوى من خلقه وإرادته، فلم يستطع أن يكون خليقا بالذين سبقوه من قومه، وإنما كان خليقا بالذين عاصروه من أترابه. وكان قومه يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس، وكان هو يستخفي من الناس ولا يستخفي من ضميره ولا من الله؛ وهما معه أينما كان. فلما قصصت عليه قصة أوسكار ويلد، كنت كأنما كشفت عن نفسه الغطاء، فأصبح يتحدث إلى امرأته وإلى خاصته بأن هذا الوجه القبيح الذي كان يراه في المرآة لم يكن وجهه؛ فوجهه ما زال جميلا رائعا، وإنما هو مرآة ضميره؛ لأن ضميره بشع دميم.
ثم يمضي في حديثه فيقول: لا تنكروا مما أقول لكم شيئا، فإني لا أرى هذا الوجه البشع إذا نظرت في المرآة فحسب؛ بل أنا أراه كلما خلوت إلى نفسي، أراه يحمله جسم كجسمي، وأراه يجلس إلي غير بعيد، ينظر إلي شزرا أول الأمر، ثم لا يزال يرفق بي ويظهر الرقة إلي حتى أطمئن إليه فيحدثني في صوت هادئ رقيق عن سيئات تقدمت بها إلى الناس فيما مضى من الدهر، ثم يقول لي في صوت هادئ يخيفني أشد الخوف: ليتك لم تفعل، فقد كنت أراني جميلا فجعلتني قبيحا بشعا، وكنت أراني سعيدا فجعلتني شقيا بائسا، فقد احتملت وحدي قبحي وبشاعتي وشقائي وبؤسي، ثم أعياني احتمال هذا الثقل فرأيت أن تشاركني في النهوض به، فسألزمك منذ الآن كما يلزم الظل صاحبه، وأي غرابة في أن يلزم الضمير صاحبه؟
وكان صديقي البائس يقول ذلك لأهله وخاصته في صوت غريب يملأ قلوبهم خوفا وإشفاقا ورحمة وعطفا، ثم كان يلح عليهم في ألا يخلو بينه وبين نفسه، فلزموه وأطالوا البقاء معه، ولكن بغضه لظله هذا أو لضميره هذا جعل يعظم ويشتد، كما أن حب ظله وضميره له جعل يعظم ويشتد أيضا؛ فقد رأى ضميره في المرآة أول الأمر، ثم جعل يراه في الخلوة بعد ذلك، ثم أصبح يراه حين يخلو إلى نفسه، وحين يحيط به أهله وخاصته، وإذا أمره ينتهي به إلى الجنون الثائر أو إلى ما يشبهه، وإذا أهله مضطرون إلى أن يمرضوه في بعض المستشفيات التي تعالج فيها الأعصاب المريضة.
ليتني لم أكشف لصاحبي عن نفسه الغطاء ... أستغفر الله؛ ماذا أقول؟ وهل يزيد الكتاب على أن يكشفوا للناس عن نفوسهم الغطاء؟
أكتوبر 1944
الضمائر القلقة
يظهر أن في الضمير المصري شيئا من قلق يحتاج أن يعنى به الذين يهمهم أن يكون الضمير المصري راضيا مطمئنا وآمنا مستريحا، فقلق الضمير مصدر شر كثير؛ أيسره فتور العزم، وكلال الحد، والتردد بين الإقدام والإحجام حين تقضي ظروف الحياة أن نختار بين الإقدام والإحجام. ويكفي أن نلاحظ الفرد ذا الضمير القلق والنفس المضطربة؛ لنعلم أنه لا يصلح لشيء حتى يرد إلى ضميره الاستقرار وإلى نفسه الاطمئنان، فكيف إذا كان هذا القلق شائعا وهذا الاضطراب شاملا؟ وكيف إذا أحس الشعب أنه لا يستطيع أن يثق بشيء، ولا أن يركن إلى شيء، ولا أن يقدم عن بصيرة، ولا أن يحجم عن روية، ولا أن يحكم على الأشياء والأحياء حكما يصدر عن التدبر والتفكير؟
ما أحب أن أطيل في المقترحات، ولا أن أسلك إلى ما أريد طريقا ملتوية، وإنما ألاحظ أن شيئا من الريب قد شمل الناس جميعا، فليس من كلمة تقال إلا اعتقد الناس أن لها ظاهرا وباطنا، وأن لها معنى قريبا يتخذ وسيلة إلى معنى بعيد، وغاية يسيرة تخفي وراءها غاية عسيرة، وليس من عمل يقدم عليه مقدم إلا وله غرض يقصد إليه في العلانية، وغرض آخر يقصد إليه في السر الخفي، وإذن فقد عجز الناس عن أن يصدق بعضهم بعضا، أو أن يأمن بعضهم إلى بعض، فضاعت بينهم الثقة، وشق عليهم التضامن، واضطروا إلى حياة منكرة فيها كثير من الشك، وكثير من الخوف، وكثير من سوء الظن الذي أوشك أن يصبح أصلا من أصول الحياة، وقاعدة من قواعد التعامل بين الناس.
وإذا بلغ الشعب هذه المنزلة من القلق كان خليقا أن يتعرض لشر عظيم، وكان حقا على الذين يدبرون أمره ويقودون الرأي فيه أن يطبوا لهذا الداء ما وجدوا إلى الطب سبيلا. وقد أردت حين هممت بهذا الحديث أن أقصد إلى شيء من الفكاهة والدعابة، ولكن وجدت الأمر أجل خطرا من الفكاهة والدعابة، فقصدت به إلى هذا الجد المر الذي قد يضيق به الكتاب والقراء في هذه الأيام.
لم أكد أنشر الحديث الأول من هذه الأحاديث حتى أحسست حولي سؤالا يلقيه بعض الناس إلى بعض، ويجيب بعضهم بعضا بما يخطر له، ثم يتجه إلي السؤال فأعرض عنه، ثم يتجه إلي في إلحاح فألح في الإعراض، وأقول لنفسي: حديث نشر بعد أن طال الصمت، وبعد أن كنت منصرفا إلى بعض الأعمال العامة، فصرفت عنه، فليس من الغريب أن يذهب الناس فيه المذاهب، وأن يلتمسوا له ألوان التأويل، وأن يتخذوا منه ثوبا يفصلونه على قد هذا أو ذاك من الذين ينهضون بالأعمال العامة أو يشاركون فيها، ولكني لم أنشر الحديث الثاني حتى ازداد السؤال انتشارا، وازداد السائلون إلحاحا، وجعل الأصدقاء وذوو المعرفة يعرضون لي حين يلقونني بما فهموا أو بما خيل إليهم أنهم فهموا.
ثم أمضي في الكتابة، ويمضي الناس في التساؤل، ثم لا يقف الأمر عند التساؤل والإلحاح فيه، وإنما يختلف الناس فيما بينهم ويغلون في الاختلاف، ويريد بعضهم أن يحتكم إلي ويجد عندي حلا لهذه الرموز، وتوضيحا لهذه الألغاز، ويتصل بعضهم بي يسألني أن أريحه من هذا التعب الذي اضطررته إليه. ويتجاوز بعضهم هذا كله فيكتب إلي الرسائل ينبئني فيها بما يعلم من حياة فلان وفلان، ومن خصال فلان وفلان، ومما يظهر فلان للناس ويخفي عليهم، ويطلب إلي أن أصدر هذا في حديث من هذه الأحاديث التي تنشر في «البلاغ».
ثم ألاحظ أن الأمر ليس مقصورا علي ولا على هذه الأحاديث التي أذيعها، ولكنه يتجاوزني ويتجاوز أحاديثي إلى قوم آخرين، وأحاديث أخرى تنشر في الصحف اليومية والأسبوعية، وإلى قوم آخرين وأحاديث أخرى تجري على ألسنتهم حين يلقى بعضهم بعضا؛ فقد كتب فلان هذه الأسطر في هذه الصحيفة أو تلك، وهو قد أراد بها إلى هذا الغرض أو ذاك، وأراد بها إلى أن يمس فلانا من قريب أو بعيد، ولمح بها إلى موقف فلان في السياسة، أو موقف فلان في الإدارة، أو موقف فلان في البيع والشراء؛ حتى استيقن الناس جميعا أنهم لا يتبادلون الحديث بينهم إلا رمزا، وأن الصراحة والوضوح والجلاء؛ كل هذه أمور قد بعد العهد بها حتى نسيت أو كادت تنسى.
وليس موقف الناس مما ينشر أو يقال بأقل تحفظا واحتياطا من موقفهم بإزاء ما يأتيه الساسة من الأعمال، أو ما يكون بينهم من التزاور والتواصل، أو ما يكون بينهم من التنافر والتقاطع. ومن المحقق أن الأمر ليس مقصورا على رجال السياسة وأشباههم من الذين ينهضون بالأعمال العامة، ولكنه يتناول ما يكون بينهم من صلات في حياتهم الخاصة. فالزملاء في ديوان من الدواوين أو معهد من معاهد التعليم يشك بعضهم في بعض، ويسيء بعضهم الظن ببعض، ويحتاط بعضهم من بعض، قد تعقدت منافعهم، وارتبكت مصالحهم، وقرب الرؤساء بعضهم وأبعدوا بعضهم الآخر، فساء ظن أولئك بهؤلاء واحتاط هؤلاء من أولئك، وارتاب الرئيس بهم جميعا، وجرت أحاديثهم حين يتحدثون على الشك والخوف، وجرت صلاتهم حين يتواصلون على الحيطة والتحفظ، وأصبحت حياتهم شيئا لا يطاق.
ولست أدري - بل لعلي أدري، ولعل كثيرا من الناس يدرون - ما مصدر هذا القلق، وما أصل هذا الريب. فقد دفعتنا هذه الأعوام المتصلة إلى ألوان من الحياة لم نكن نألفها ولا نطمئن إليها، وأولها وأظهرها: هذه الأحكام العرفية التي اقتضتها الحرب، والتي استتبعت مراقبة الصحف، والتي ألقت في روع الناس جميعا أن أمورهم لا تجري على ما تعودت أن تجري عليه قبل أن تعلن الأحكام العرفية، وقبل أن تفرض الرقابة على الألسنة والأقلام.
ومما لا شك فيه أن الأحكام العرفية لم تشمل حياتنا كلها، ولعلها لم تشمل إلا أقلها، ولكن الناس قد فرضوا فيما بينهم وبين أنفسهم أنها قد شملت كل شيء. ومما لا شك فيه أيضا أن مراقبة الصحف إن اشتدت على الأنباء الخارجية والداخلية فإنها لم تكلف الأدباء من أمرهم شططا حين أرادوا أن يعرضوا للأدب الخالص، أو حين أرادوا أن يمسوا الأمور العامة مسا رفيقا. فمن حق الصحف أن تضيق بالرقابة، ومن حق الناس جميعا أن يضيقوا بها وبالأحكام العرفية، ولا سيما حين يتصل الخضوع لها والاكتواء بنارها، ولكنها على كل حال لا تكفي لتشيع هذا القلق بين الناس وتملأ نفوسهم شكا وريبا، وتجعل سوء الظن أصلا من أصول الحياة.
غير أن الناس لم يخضعوا منذ أعلنت الحرب للأحكام العرفية والرقابة وحدها، وإنما خضعوا لأشياء أخرى لعلها أن تكون أبعد من ذلك أثرا في إشاعة القلق والريب، خضعوا لحياة الحرب نفسها وما تفرضه من الغموض في أنباء الحرب والسياسة، وما تقتضيه من هذه الأحاديث المتناقضة التي يكذب بعضها بعضا، والتي تذاع في الراديو كل يوم، وما تقتضيه من هذه الإشارات الغامضة التي تنشر في الصحف والمجلات، حتى تعود الناس أن يسمعوا النبأ فلا يصدقوه، أو أن يسمعوا النبأ فيستنبطوا منه غير ظاهره، وربما استنبطوا منه نقيضه، وحتى تعلم الناس أن يقرءوا بين السطور وأن يسمعوا بين السطور؛ إن أمكن أن يسمع الناس بين السطور.
فاتصال هذه الحال التي تخلط بين الصدق والكذب وتغلب الكذب على الصدق أحيانا، وتذيع المتناقضات في غير انقطاع؛ خليق أن يدفع النفوس إلى الريب ويعدها لسوء الظن. ثم خضع الناس بعد ذلك أو مع ذلك في حياتهم العامة والخاصة لخطوب ثقال، فأهوال الحرب من جهة، ومصاعب الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، والتغييرات السياسية من جهة ثالثة، والبؤس والحرمان اللذان ينتهيان إلى الجوع والشقاء في بعض الطبقات من جهة رابعة، كل ذلك خليق أن يعقد منافع الناس أشد التعقيد، وأن يقوي الأثرة في نفوس الأفراد والجماعات، وأن يضطر كل واحد من أفرادهم وكل جماعة من جماعاتهم إلى الاحتياط للنفس، والاستكثار من الخير، والاستعداد للمستقبل، والتحفظ من الطوارئ، والتخلص من المشكلات، والنفوذ من الخطوب؛ فليس غريبا أن يدفع هذا كله الناس إلى حياة لا تقوم على أمن الضمائر واطمئنان القلوب، ولا تقوم على الثقة والصراحة، وإنما تقوم على القلق والخوف، وتقوم على الشك والحذر، ولعلها أن تقوم على الكذب وعلى أخلاق أخرى تتصل بالكذب من قريب أو بعيد.
فإذا أضفت إلى هذا كله حياتنا السياسية الخاصة وما يشوبها من هذا العنف الذي يدفع إلى التكلف، ويسوق إلى سوء الظن، ويحمل على المبالغة والتكثر، ويغري بخلق الإشاعات وإذاعة المنكر من القول، ويحرص على تشويه الحسن وتحسين القبيح. وإذا أضفت إلى هذا وذاك أن المثقف المصري محدود الثقافة متوسط العلم في أكثر الأحيان، وأنه من أجل ذلك مستعد للتصديق والتكذيب في غير مقاومة، أو في مقاومة ضئيلة، أقول: إذا أضفت بعض هذا كله إلى بعض، استطعت أن تحقق أسباب هذا القلق الذي يشمل الضمير المصري في هذه الأيام، ويوشك أن يدفعه إلى خطر عظيم.
والشيء المحقق هو أن هذا التساؤل الذي أشرت إليه في أول هذا الحديث، إن دل على شيء فإنما يدل على ظاهرة مؤلمة حقا؛ وهي أن رأي الناس قد ساء في الناس، فلا تكاد تذكر رجلا حائر الضمير حتى يحس كثير من الناس أنه المعني بهذا الضمير الحائر، ومصدر ذلك أنه يجد فيما بينه وبين نفسه أن ضميره مضطرب في شيء من الحيرة، وحتى يسأل الناس بعضهم بعضا: ألا يمكن أن يكون صاحب الضمير الحائر فلانا أو فلانا؟ لأنهم يعتقدون أن فلانا أو فلانا يمكن أن يكون من أصحاب الضمائر الحائرة. ولا تكاد تعرض صورة الرجل الذي يشبه الثعبان، أو يشبه الثعلب، أو يشبه ما شاء الله من هذا الحيوان المقيم في حديقة الحيوان، حتى يحس كثير من الناس أنه هو المعني بهذه الصورة، المراد بهذا الاسم. ومصدر ذلك أنه يجد فيما بينه وبين نفسه أن في أخلاقه وخصاله شيئا من أخلاق الثعبان، أو من أخلاق الثعلب، أو من أخلاق ما شاء الله من الحيوان، وحتى يخلع القراء من عند أنفسهم هذه الصورة أو تلك على هذا الرجل أو ذاك؛ لأنهم يرون في أخلاقه شيئا من أخلاق الثعلب أو الثعبان.
ومن العسير أن تقنع القراء بأن الكاتب إن عرض صورة بعينها، فهو لم يرد شخصا بعينه، ولعله يكون قد كون صورته هذه من أشخاص كثيرين يأخذ من أخلاق كل واحد منهم طرفا، ثم يضيف هذه الأطراف بعضها إلى بعض فينشئ منها صورة قد تعجب أو لا تعجب، ولكنها لا تخلو من عبرة وموعظة، ولعلها أن تحمل الناس على أن يصلحوا من أمورهم ويخفوا من شرورهم، فمن وجد في نفسه شيئا من أخلاق الثعبان أصلحه وأخفاه؛ فكف شره عن الناس قليلا أو كثيرا، وكف شر الناس عنه قليلا أو كثيرا. وقل مثل ذلك فيمن يجد في نفسه شيئا من خصال الثعلب، أو من خصال العقرب، أو من خصال الذباب.
والله قد خلق الأشياء كلها لتكون موضعا للعظة، ومصدرا للعبرة، ووسيلة إلى استكشاف الحق والخير والجمال، والله عز وجل قد خلق الإنسان وعلمه البيان؛ ليكشف الحق والخير والجمال ويدل عليه، وليستكشف الباطل والشر والقبح ويرغب عنه. فليكتب الكتاب، وليقرأ القراء، وليسأل السائلون، وليجب المجيبون، فليس بشيء من هذا كله بأس، وإنما البأس الذي يجب أن نعاون جميعا على علاجه واستئصاله، هو هذا القلق الذي شمل الضمير المصري، والذي يوشك أن يدفعه إلى أكثر من السؤال والجواب.
1945
في الذوق
يقال إن الذوق ملاك الحضارة المترفة، ويقال من أجل ذلك إنه يوجد ويقوى ويشيع حيث يتاح للحضارة أن ترقى وتترف وتبسط سلطانها على النفوس. ويقال إنه من أجل ذلك يوجد في المدن أكثر مما يوجد في القرى، ويوجد في العواصم أكثر مما يوجد في مدن الأقاليم، ويوجد في القصور أكثر مما يوجد في الدور، ويوجد في الدور أكثر مما يوجد في الأكواخ.
يقال هذا، ويقال شيء كثير غير هذا حول الذوق، فالذوق يكون في الأدب والفن، والذوق يكون في الحياة الاجتماعية اليومية، والذوق يكون خصلة من خصال الفرد المترف الممتاز، ويكون خصلة من خصال الجماعة المثقفة المهذبة، ويكون خصلة من خصال الشعب الذي عظم حظه من الحضارة وإمعانه فيها. ويظهر أن المصريين قد سبقوا غيرهم من الشعوب إلى الحضارة وضروب الترف؛ فكان حظهم من الذوق عظيما، وقسطهم منه موفورا ... يقول المصري عن المصري إذا أراد أن يمدحه: «إنه صاحب ذوق»، ويقول المصري عن المصري إذا أراد أن يمدحه أيضا إنه «رجل ذوق» بالإضافة، «ورجل ذوق» بالوصف! ويقول المصري عن المصري إذا أراد أن يعيبه : إنه قليل الذوق، وعديم الذوق. ويقول الرجل من أهل القاهرة لصاحبه إذا فعل أو هم أن يفعل شيئا لا يليق: «استذوق»؛ يريد أن يقول له: اصطنع الذوق، وتجنب ما من شأنه أن يغض من ذوقك أو من امتيازك في الحضارة المترفة المهذبة التي تتيح للناس أن يعاشروا الناس، وأن يجدوا في معاشرتهم راحة ولذة وسرورا!
ويعرف بعض المعاجم الذوق: بأنه ملكة طبيعية تسبق التفكير، وتعين على تمييز الجيد من الرديء، والحسن من القبيح، وما يليق مما لا يليق.
ويقول هذا المعجم: إن لكل إنسان من هذا الذوق حظا، ولكن هذا الحظ يقوى ويضعف باختلاف ما يكون عليه الإنسان من ثقافة وحضارة وإتراف في العقل والقلب والضمير ... ويقال كذلك إن الذوق يتغير بما يصيب الحضارة من تطور، فيفسد بعد صلاح، ويقبح بعد حسن، ويشيع فساده وقبحه بمقدار ما يصيب الحضارة من ضعف وانحطاط. •••
وأكثر ما يفسد الذوق حين يطرأ على الحضارة المستقرة المطمئنة التي بعد بها العهد وألفتها النفوس وتوارثتها الأجيال طارئ عارض عنيف يغير من سيرة الناس في حياتهم المادية أولا، ثم في حياتهم العقلية بعد ذلك.
فالرجل المترف من أهل القاهرة في أول هذا القرن كان قد ورث عن أسرته ألوانا من الأخلاق والعادات تأثرت بها سيرته فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين الناس؛ فهو لا يظهر لأهله إلا في لون معين من لبسه المتفضل، وهو لا يتحدث إليهم إلا بألفاظ مختارة منتقاة، ثم هو لا يظهر للناس إلا في زينة أنيقة معتدلة قد لاءم بين دقائقها ملاءمة شديدة الاتساق والانسجام، وهو لا يتحدث إلى الناس إلا بألفاظ عذاب رقاق، وفي صوت معتدل لا يرتفع فيؤذي الآذان، ولا يسرف في الانخفاض فيشق على النفوس، وهو رفيق رقيق متأنق في إشاراته وفي حركاته، وهو حين يخرج من داره إلى عمله أو إلى زيارة صديق يتخذ عربته تلك المترفة، يجرها الجواد المترف، ويسوقها السائق الأنيق.
فلما تقدم القرن شيئا؛ تغيرت الدنيا، وهجمت الحضارة الغربية هجوما جعل يزداد عنفا من يوم إلى يوم، ثم بلغ أقصى غايات العنف بعد الحرب العالمية الأولى ... فأخذ المترفون من المصريين يتركون ترفهم القديم الأنيق الذي كانوا يعرفونه ويألفونه ويحسنون تنميقه والتأنق فيه إلى الترف الغربي الجديد الذي لم يعرفوه ولم يألفوه، ولم يتح لهم أن يفتنوا فيه؛ وإنما أخذوه كما هو، واندفعوا فيه غير متحفظين، فكانوا محدثين! وقد تغير تصورهم للحياة بتغير ما يحيط بهم من الأداء، فاضطربت أحكامهم على الأشياء، وساء تقديرهم للظروف، وتغير ذوقهم شيئا فشيئا.
وقل مثل هذا بالقياس إلى الحياة العقلية؛ فقد كان المصريون إلى أوائل هذا القرن أميل إلى المحافظة في ثقافتهم، يغذون عقولهم بالتراث العربي أكثر مما يغذونها بالتراث الأجنبي، ثم هجمت الثقافة الأجنبية هجوما لم يكن أقل عنفا من هجوم الحضارة الأجنبية، فاضطربت لهجومها العقول، واختلطت له الأمور، وتأثرث به الأخلاق، وتغير به الذوق، وكانت الموقعة الهائلة بين الأدب القديم والأدب الجديد. •••
ثم كانت الحرب العالمية الثانية؛ فأقبلت معها حضارة مادية عنيفة، ولم تكد تنقضي حتى كان كل شيء قد اضطرب في حياة المصريين المادية والعقلية والخلقية جميعا. وكان اضطراب الذوق بعد هذا كله، وبتأثير هذا كله شيئا لا بد منه ولا سبيل إلى اتقائه!
وربما كان أخص ما يمتاز به هذا الهجوم الذي غير الحضارة المصرية فغير الذوق المصري تغييرا عنيفا خطيرا، أنه تأثر بالعنصر الأمريكي أكثر مما تأثر بالعناصر الأوروبية ... فقد صحبنا الحضارة الأوروبية منذ أول القرن الماضي، بل منذ أواسط القرن الثامن عشر، وتأثرنا بمصاحبتها وتغيرت لها أخلاقنا وأذواقنا وحياتنا تغيرا شديدا، ولكن هذا التغير تم في اعتدال، لم يعنف بنا ولم يخرجنا عن أطوارنا بمقدار ما عنف بنا هذا التغير الطارئ بين الحربين، ومنذ أثيرت الحرب الثانية بنوع خاص، ومنذ انقضت هذه الحرب الثانية بنوع أخص.
وليس لهذا كله مصدر فيما أظن غير هجوم الحضارة الأمريكية المادية، والثقافة الأمريكية اليسيرة التي لا تعرف التعمق ولا التمحيص ولا الأناة، والتي تؤثر السرعة والمعرفة الخاطفة. ويمكن أن يقال: إننا مدينون لها بهذا الاضطراب الخلقي العنيف الذي ينعم به الجيل الناشئ، ويشقى به الجيل المنقرض، وتتعرض به مصر لخطر عظيم!
فإذا رأيت قيم الأشياء تتغير إلى هذا الحد الذي نشهده، وإذا رأيت الشباب لا يحفلون بشيء، ولا يتحرجون من شيء، ولا يتحفظون في قول أو عمل، وإذا رأيت الصحف تخوض فيما لم تتعود أن تخوض فيه من قبل، وعلى نحو مجاف لكل ما ألفنا من سماحة الخلق، وسجاحة الطبع، وصفاء النفوس، ورقة الأذواق، فاحمل هذا كله غير متردد ولا متهيب على هذه الحضارة الطارئة التي غزتنا بها أمريكا، فكانت بعيدة الأثر في حياتنا المادية والاقتصادية والأدبية، ومع ذلك تهافت الناس عليها تهافتا عنيفا وهم لا يشعرون. •••
وقد تسألني عما حملني على أن أتحدث إليك في الذوق وفي معناه وفي تطوره وفي فساده؟ فسل نفسك عما تقرأ، وعما ترى، فستجد في نفسك وستجد في نفس غيرك الجواب على هذا السؤال!
1947
خوف
لست أدري أين قرأت - بل لعلي أعلم أني قرأت في فصل طويل أراد به صاحبه تعريف مصر إلى أعضاء المؤتمر البرلماني الدولي الذين يزورون مصر في هذه الأيام - أن المصريين ديمقراطيون بالطبع، وأنهم أحرار بالطبع كذلك، لا يستطيعون أن يعيشوا إلا مستمتعين بالحرية الكريمة تحت ظل ممدود من الديمقراطية السمحة! وقد يكون هذا حقا، ولكن هناك حقا آخر لعله يكون أشد منه ثبوتا ووضوحا؛ وهو أن الإنسان يفسد كثيرا من جمال الطبيعة، ويغير كثيرا من حقائق الأشياء، تدفعه إلى ذلك مصالحه العاجلة أحيانا، ويدفعه إليه خطؤه في الحكم والتقدير أحيانا أخرى ... وأكبر الظن أن الإنسان قد حاول وما زال يحاول أن يفسد الطبيعة المصرية ويغير بعض الحقائق المصرية، فقد يكون المصري ديمقراطيا بطبعه، ولكن قد يوجد من المصريين أو من غير المصريين من يحد من هذه الديمقراطية حدا شديدا، أو يحولها إلى ما يناقض الديمقراطية من الخصال والأخلاق. وقد يكون المصري مطبوعا على الحرية، ولكن قد يوجد من المصريين أو من غير المصريين من يفسد هذا الطبع ويحوله إلى لون من الخنوع والخضوع ليس من الحرية في شيء.
وما أريد أن أمضي مع هذا التفكير إلى غايته فأبحث وأستقصي، وأنشر على القراء فصلا من هذه الفلسفة التي تصور أثر الإنسان المتحضر في إفساد الطبيعة الخيرة للناس؛ فهذا بحث قديم كثر فيه القول، واشتد حوله الجدال. وإنما أريد أن أقف عند جماعة محدودة من المصريين يمكن أن يحصيهم العد، وإن ألفت القراء إلى طبيعتهم الديمقراطية الحرة وإلى ما تصب عليهم الظروف والأحداث من الفساد المتصل الذي يحولها عن أصلها الجميل السمح إلى شيء آخر بعيد كل البعد عن السماحة والجمال، وهذه الجماعة هي جماعة الموظفين. وما أريد أن أسوء الموظفين ولا أن أشق عليهم ولا أن أؤذيهم في ذات أنفسهم، فأنا أقرر أنهم كغيرهم من المصريين: ديمقراطيون بالطبع، أحرار بالطبع، قد فطروا على ما شاء الله من كرم الأخلاق ورقة الشمائل وسماحة القلوب والنفوس، وإنما أريد أن أعتذر لهم أو أن أعتذر عنهم، أو قل أني أريد أن أرثي لهم وأرفق بهم، وأطلب إلى أصحاب السلطان مهما تكن أحزابهم أن يشملوهم بشيء من العطف والرفق والعناية، حتى لا تفسد طبيعتهم الديمقراطية، وحتى لا تتعرض فطرتهم الحرة إلى بعض ما تتعرض له من الشر الذي لا يؤذيهم وحدهم؛ وإنما يؤذي معهم الناس جميعا، ويصبح شيئا بغيضا يشبه الأمراض المعدية التي تتجاوز المرضى إلى الأصحاء!
هؤلاء الموظفون معرضون دائما لسخط أصحاب السلطان إذا تورطوا فيما لا يحبون، وأصحاب السلطان من الوزراء والرؤساء ناس كغيرهم من الناس، يخطئون ويصيبون، ويسرفون ويقصدون، ويجورون ويعدلون، والأصل أن لهم على الموظفين الذين يعملون معهم حقا؛ هو إنفاذ أمرهم في حدود النظم والقانون، فليس الموظف ملكا لرئيسه يجب أن يتصرف وفق هواه. وليس الموظف خادما لرئيسه ينبغي أن يجيبه إلى كل ما يريد. وليس الموظف موظفا عند وزيره أو رئيسه، وإنما هو موظف عند الدولة التي لا تمثل الحكومة وحدها؛ وإنما تمثل الحكومة والشعب جميعا ... وإذن، فليس على الموظف أن يميل مع أهواء الوزراء والرؤساء، ولا أن يطيعهم فيما يخالف النظم والقوانين، ولا أن يحب ما يحبون ومن يحبون، أو يكره ما يكرهون ومن يكرهون. وإنما الموظف إنسان حر حظه من الحرية كحظ الوزير والرئيس، لا يزيد عليه إصبعا ولا ينقص عنه أنملة.
والوزير والرئيس موظفان آخر الأمر كغيرهما من المرءوسين؛ كلهم خادم مأجور للدولة، وقد أراد النظام - لأن المصلحة العامة أرادت - أن يكون بعض هؤلاء الموظفين رؤساء يديرون ويأمرون، وأن يكون بعضهم مرءوسين ينفذون ويطيعون ... يجري هذا كله طبقا لعقد مقرر نظمه الدستور ونظمته القوانين بينهم وبين الدولة، لا بينهم وبين هذا الفرد أو ذاك، ولا بينهم وبين هذا الحزب أو ذاك، ولا بينهم وبين هذه الوزارة أو تلك.
هذه كلها أوليات يتعلمها الصبية في دروس التربية الوطنية، ويتعلمها الشباب فيما يسمعون من أساتذتهم في المدارس الثانوية ومعاهد التعليم العالي.
ولكن العلم الذي يلقى في الدروس شيء؛ والعمل الذي تجري عليه الحياة اليومية شيء آخر في مصر ... كما أن الحقوق والواجبات التي تقررها النظم والقوانين المكتوبة شيء، والحياة العملية اليومية شيء آخر في مصر ... وإني لأذكر يوما من الأيام أشيع فيه أن في مصر أزمة وزارية حادة، وأن الوزارة توشك أن تقال أو تستقيل، وأن حزبا آخر سينهض بأعباء الحكم بعد إقالة الوزارة أو استقالتها.
شاع هذا في الصباح مع الصحف التي تلقى الناس حين يخرجون من دورهم، أو تقتحم عليهم هذه الدور قبل أن يخرجوا منها. وأقبل الموظفون على مكاتبهم في وزارة من الوزارات لا يتحدثون إلا في هذه الإشاعة، يذكرون الوزارة المضطربة منكرين لها، ساخطين عليها، ويذكرون الوزارة المنتظرة مكبرين لها راضين عنها كل الرضى، تجري بهذا كله ألسنتهم وتنطق به وجوههم، فأما قلوبهم وضمائرهم فعلمها عند الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! ثم ارتفع الضحى، وكانت هناك غرفة لا يخف حولها ازدحام الزائرين والقاصدين والموظفين لحظة من نهار، وأخرى تقع منها غير بعيد لا يزورها الناس إلا لماما، فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم فرغت الغرفة الأولى وفرغ ما حولها من الفضاء فلم يطرقها طارق ، ولم يلم بها أحد، واستراح التليفون فيها وأراح، وتحول التيار العنيف من الزائرين والقاصدين والموظفين إلى الغرفة المجاورة.
وضحك صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه رثاء لهؤلاء الناس، وضحك صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه سخرية من هؤلاء الناس. ثم أقبل المساء وحملت الصحف إلى الناس أن الوزارة باقية في مناصبها، وأن الأزمة قد حلت أو أرجئت، فلما كان الغد عاد التيار إلى مجراه الأول؛ فازدحم الفضاء حول الغرفة الأولى، وخلا حول الغرفة الثانية خلوا مخيفا. وضحك صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه ساخرا من هؤلاء الناس، وضحك صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه راثيا لهؤلاء الناس!
وكل وزارة صائرة إلى الأزمة مهما تعمر، وكل حزب سياسي ذي خطر ناهض بأعباء الحكم ذات يوم مهما يبعد عن الحكم. فإذا خضع الموظفون لهذا الخوف وأصبحوا كالقربة التي تمخض بغير انقطاع، وتهز هزا عنيفا متصلا في غير راحة ولا أناة ولا سكون؛ فأخلق بهم أن ينصرفوا إلى غير أعمالهم، وأن يشغلوا بغير ما يؤجرون عليه من العمل، وأن يعنوا بغير ما تفرض عليهم النظم والقوانين أن يعنوا به من الأمر.
ذلك إلى أن الرجل الديمقراطي بالطبع، الحر بالفطرة؛ لا ينبغي أن يهز ولا يمخض لسقوط وزارة ونهوض وزارة أخرى، ولعزل رئيس وتولية رئيس آخر ... وإثم هذا كله ليس على الموظفين، وإنما هو على الوزراء والرؤساء الذين يتجاوزون حدودهم، ويطلبون إلى الموظفين بالإشارة الدالة وبالقول الصريح أكثر مما يبيح لهم القانون أن يطلبوا منهم. وفي الأمر ما هو أشد من ذلك خطرا وأعظم منه نكرا، فالموظف قد ألف من الوزراء والرؤساء أن يخاصم من يخاصمون، ويوالي من يوالون، حتى أصبح يرى ذلك واجبا عليه، وحتى أصبح يرى رزقه معرضا للخطر إن خاصم وليا للوزير، أو وفى لخصم من خصوم الوزير. وكذلك تفسد الطبيعة الديمقراطية والفطرة الحرة ... وكذلك تفسد الصلات بين الناس، ويقوم الكذب والنفاق والقطيعة مقام الصدق والإخلاص والتواصل. وكذلك تضيع مصالح الناس ومنافعهم؛ لأن الموظفين مضطرون إلى أن يرعوا في خدمة هذه المصالح والمنافع أهواء الوزراء والرؤساء؛ لا أصول الحق والعدل والقانون، وكذلك تهدر الكرامة والعزة، ويصبح الموظف عبدا للوزير وخادما للرئيس، لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقد استقر في قلبه خطأ أو صوابا أنه موظف عند الوزير والرئيس، لا عند الدولة التي هي فوق الوزير والرئيس ... وكذلك تقوم حياة الموظفين على الخوف أن يقطع الرزق ذات صباح أو ذات مساء!
ولست أعرف شيئا يفسد الأخلاق ويملأ الحياة العامة شرا ونكرا كالخوف، ولست أعرف شيئا يصلح الأخلاق ويملأ الحياة العامة والخاصة خيرا وعرفا كالأمن ... فهل من سبيل إلى أن تعصم قلوب الموظفين من الخوف، وتطمئن نفوسهم إلى الأمن لتقوم حياتهم وصلاتهم على ما تقتضيه الطبيعة الديمقراطية والفطرة الحرة من الصدق والإخلاص والوفاء ورعاية الكرامة والارتفاع عما يذل ويهين؟!
1947
النفوس القلقة
هي نفوس المصريين جميعا، لا تستثني منها نفسا مهما يكن صاحبها؛ فالغني قلق على ثروته؛ لأنه يرى حوله من الأحداث العامة والخاصة ما يزود عن قلبه الأمن، ويصد عن نفسه الطمأنينة، ويدفعه إلى حياة قلقة خائفة، وإذا هو يعرف كيف عاش أمس، ويكاد يعرف كيف يعيش اليوم، ولكنه لا يعرف كيف يعيش غدا أو بعد غد. وليس من الهين على الأغنياء - مهما تكن حظوظ قلوبهم من القسوة واللين - أن يصبحوا محسدين، ويمسوا محسدين، ويحسوا في كل لحظة أن نفوس المحرومين متصلة بنفوسهم هذا الاتصال المخيف الذي يقوم على البغض والحسد، وعلى هذه الأماني التي تعبث بقلوب المعوزين. وليس من اليسير على الأغنياء - مهما تكن حظوظ قلوبهم من القسوة واللين - أن يعلموا أن عيون المحرومين ترمقهم حين يغدون وحين يروحون، وفيها ما فيها من التطلع والطمع، ومن التمني والأمل، ومن الحاجة المكبوتة، والسؤال الذي يعلم أن ليس له جواب.
كل ذلك يخيف، وكل ذلك يقلق، وكل ذلك ينغص الحياة أثناء اليقظة، وينغص الأحلام أثناء النوم. فإذا أضفت إلى ذلك أن أمور الأمن المادي ليست على ما يحب الناس ويشتهون؛ قدرت هذا القلق الذي يأخذ نفوس الأغنياء من جميع وجوهها، ويسعى إليها سعيا متصلا ملحا لا يريح ولا يستريح. ونفوس الموظفين قلقة؛ لأن أجورهم تضيق بأيسر حاجاتهم، فهم يكدون ويكدحون، أو هم يكسلون ولا يعملون، ولكنهم آخر الشهر يقبضون مرتبات أيسر ما توصف به أنها تسد بعض خلاتهم، ولكنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تسد خلاتهم كلها. فهم قلقون قبل أن يخرجوا من دورهم مع الصبح؛ لأنهم يرون الحاجات الكثيرة التي تريد أن تقضى، والمادة القليلة التي لا تستطيع أن تقضي هذه الحاجات.
وهم قلقون حين يعودون إلى دورهم بعد أن يتقدم النهار؛ لأنهم يرون الفقر والبؤس والضيق، والحاجات التي كانت تريد أن تقضى فقصرت بها المادة القليلة عن القضاء. وهم ينفقون مع أهلهم ساعات قليلة عابسة، ثم تثقل عليهم الحياة في الدور فيخرجون إلى الأندية والقهوات، يلتمسون فيها التعزية والتسلية، فيظفرون بهما كشر ما يظفر الناس بالتسلية والتعزية. يلقون رفاقهم وأترابهم وذوي مودتهم فلا يسمعون منهم إلا شكاة متصلة مثل شكاتهم، وقلقا مزعجا مثل قلقهم؛ فهم يتعزون بالشكاة عن الشكاة، ويتسلون بالقلق المزعج عن القلق المزعج، وهم ينفقون حياتهم في هذا لا يذوقون لأمن النفوس طعما، ولا يحسون لاطمئنان القلوب روحا، وهم من أجل ذلك لا يحسنون التفكير في شيء، ولا يحسنون التقدير لشيء، ولا يحسنون الحكم على شيء، وهم من أجل ذلك يعملون أعمالا قلقة مقلقة، كما يشعرون شعورا قلقا مقلقا.
وغير الموظفين من عامة الشعب قلقون لأسباب تشبه هذه الأسباب: حاجاتهم كثيرة، وأيديهم قصيرة، آمالهم بعيدة واسعة، وأعمالهم قريبة ضيقة، فهم ينكرون هذا التناقض الذي يكرهون على العيش فيه، وأي شيء أثقل من أن تمتد الآمال إلى غير حد، ومن أن تتقاصر الأعمال إلى أضيق حد؟ فإذا أضفت إلى هذا كله أن الحياة العامة ليست خيرا من الحياة الخاصة، وأن الشعب المصري كان وما زال مستيقنا بأن من حقه أن يكون شعبا مستقلا، عزيزا كريما، وكان وما زال مستيقنا أن استقلاله يفتح له أبوابا من النشاط في الحياة العالمية السياسية والثقافية والاقتصادية، وكان وما زال مستيقنا أن من حقه أن يبسط أمله إلى أبعد الآمال والغايات، وأن ينشئ أبناءه على هذه الحياة الواثقة بحاضرها، المطمئنة إلى مستقبلها.
ثم هو ينظر فيرى استقلاله ما زال في درج من أدراج وزارة الخارجية البريطانية سجينا، قد حيل بينه وبين الحرية التي تتيح له أن يعود إلى وادي النيل، فيملأ نفوس أهله وقلوبهم بشرا وبهجة واغتباطا، ثم هو ينظر فيرى القوة البريطانية ما زالت تأخذه من جميع أقطاره، تحتل أرضه في الشرق والجنوب، وترابط على حدوده في الغرب، وتأخذ عليه مسالك البحر في الشمال، فلا يكاد يرى هذا كله حتى تمتلئ نفسه قلقا على حاضره ومستقبله في حياته العامة، كما امتلأت نفوس أفراده قلقا على حاضرهم ومستقبلهم في حياتهم الخاصة.
فكيف تريد أن يستقبل هذا الشعب أيامه راضيا مبتهجا مسرورا والشعوب لا تمارس أمورها بأنفسها؟ وإنما تمارس أمورها بواسطة هؤلاء الناس الذين تنتخبهم؛ ليكونوا لها شيوخا ونوابا، تلقي عليهم أعباء الأمور العامة، ثم يفرغ أفرادها لأمورهم الخاصة حتى يجيء موعد الانتخاب، وهي تمارس أمورها العامة بهؤلاء الناس الذين يتولون فيها الحكم نائبين عن البرلمان، مسئولين أمامه، يؤدون إليه الحساب عن كل ما يأتون وما يدعون. فإذا نظر الشعب فرأى شيوخه ونوابه ووزراءه لا يحتملون الأعباء كما كان ينبغي أن يحملوها، ولا يصرفون الأمور كما كان ينبغي أن يصرفوها، وأنما تثقل عليهم الأعباء فلا يستطيعون أن ينهضوا، وتنتشر عليهم الأمور فلا يستطيعون أن يتصرفوا، وتعجبهم مع ذلك نفوسهم فلا يستطيعون أن يتخلوا عن مناصبهم ومراكزهم، وإنما يظلون جاثمين على صدر الشعب كما يجثم الكابوس الثقيل الطويل ...
إذا نظر الشعب فرأى هذا ورأى أنه لا يستطيع أن يغير من هذا قليلا ولا كثيرا تسلط القلق عليه، فأفسد أمره كله إفسادا منكرا.
فكيف إذا نظر الشعب فرأى الفساد يحيط بمرافقه كلها، ويتغلغل فيها كلها، ويحول بينها وبين أن تنتج له بعض ما كان ينتظر منها، فضلا عن أن تخرجه من الضعف إلى القوة، ومن الانحطاط إلى الرقي، ومن الظلمة إلى النور.
تحدث إلى من شئت من المصريين، واختره من أي طبقة شئت، وتحدث معه في أي موضوع شئت؛ فلن تسمع منه إلا حديث القلق والخطر، لا على حياته الخاصة، بل على كل شيء. بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا؛ وأزعم أنك لن تستطيع أن تتحدث إلى المصريين مهما يكونوا، ومهما تكن طبقتهم، ومهما يكن الموضوع الذي تتحدث إليهم فيه وقد برأت نفسك من القلق ورددتها إلى الأمن، وجعلتها قادرة على أن تبحث وتستقصي غير متأثرة بالقلق العام، ولا مشاركة فيه، لن تستطيع ذلك مهما تكن، ومهما تكن طبقتك؛ لأنك قلق كغيرك من المصريين. فأنت كهؤلاء الموظفين الذين ذكرتهم آنفا؛ تتعزى عن قلقك بقلق مواطنيك، وأنا حين أملي هذا الحديث لم آخذ في إملائه إلا وأنا أجد من القلق مثل ما يجد غيري من المصريين، أو أكثر مما يجد غيري من المصريين. وما أعلم أني صورت قط حياة المصريين تصويرا صادقا كما أصورها في هذا الحديث؛ فهي حياة قد تغلغل القلق فيها حتى أصبحت كلها قلقا.
بقي أن نسأل، ولن نجد من يجيب عن هذا السؤال: لمصلحة من يفرض هذا القلق العام على الشعب المصري؟!
أما المصريون أنفسهم فلن يفيدوا منه إلا شرا، وأما الإنكليز وغير الإنكليز من الأجانب الطامعين الذين يتربصون بنا الدوائر، فليس أنفع لهم ولا أحب إليهم من أن نفقد صوابنا، ونضل أعصابنا، ونعجز عن تدبير أمورنا! وسؤال آخر يوجه إلى الحكومة وإلى البرلمان: أيهما خير، أن يظل الوزراء في مناصبهم دون أن يصنعوا شيئا، وأن يختلف النواب إلى مجلسهم، دون أن يصنعوا شيئا، أم أن يعاد النظر في أمرنا كله، لعلنا أن نطمئن بعد قلق وأن نأمن بعد خوف؟!
وأنا بعد هذا كله أضن بالوزراء والنواب على أن تدفعهم الأثرة إلى أن يقولوا كما قال قوم من قبلهم فهلكوا وأهلكوا: لنعش نحن، وليأت من بعدنا الطوفان!
1948
الوسائل والغايات
نستعير هذا العنوان من الكاتب الإنجليزي المعروف ألدوس هكسلي، ولكننا لا نستعيره لبحث عن المشكلات العليا التي بحث عنها في كتابه المشهور، وإنما نستعيره لبحث عن مشكلات يسيرة متواضعة، تلائم حياتنا اليسيرة المتواضعة. فقد خلقت مصر - فيما يظهر - لتنهض بجلائل الأعمال وعظائم الأمور، ودل تاريخها كله على أنها قد يسرت لما خلقت له، فنهضت بجلائل الأعمال وعظائم الأمور في عصورها القديمة والمتوسطة، ولكنها في هذا العصر الحديث - أو بعبارة أدق: منذ كان الاحتلال البريطاني - قد أكرهت على التواضع والتضاؤل والاكتفاء بهذه الحياة اليسيرة الضئيلة، التي لا يأكل الإنسان فيها ويشرب وينام ويستيقظ ليعيش، ثم ليأتي في حياته بما ينفعه وينفع الناس، وإنما يعيش الإنسان فيها ليأكل ويشرب وينام ويستيقظ، ثم لا يزيد على ذلك شيئا، ولا يأتي من الأعمال بما ينفع أو يفيد!
نستعير إذن هذا العنوان الخطير من الكاتب الإنكليزي العظيم لبحث متواضع يسير ضئيل كحياتنا المتواضعة اليسيرة الضئيلة، وأول ما نلاحظه في هذا البحث الذي لا خطر له ولا قيمة، والذي نرجو مع ذلك أن يقرأه الناس ولو نياما كما يقدمون على كل شيء في هذه الأيام وهم نيام كالأيقاظ أو أيقاظ كالنيام، أن نفس الأمة المصرية مريضة منذ كان الاحتلال البريطاني بمرض يفسد عليها حياتها كلها، ولن تستقل الحياة الخصبة المنتجة إلا إذا برئت من هذا المرض، وهو الاشتغال بالوسائل عن الغايات، وبالظواهر عن الحقائق. تلاحظ آيات هذا المرض في سيرتها كلها، سواء منها ما يتصل بحياتها العامة، وما يتصل بحياتها الخاصة، وسواء منها ما يتصل بالجد الذي يقصد به إلى الإنتاج، وما يتصل بالترفيه الذي يقصد به إلى الراحة والاستجمام!
فالمصري كما قدمت لا يأكل ليعيش، وإنما يعيش ليأكل، وهو كذلك لا يستريح لينتج، وإنما ينتج ليستريح؛ إن أتيح له شيء من إنتاج. وهو لا يتعلم لينتفع بعلمه وينفع الناس، ولا يتخذ المنصب وسيلة إلى هذا النفع؛ وإنما يتعلم ليجد المنصب، ويجد المنصب ليقبض المرتب آخر الشهر، ويقبض المرتب ليعول أهله كما يستطيع أولا، ثم ليختلف إلى الأندية والقهوات بعد ذلك، فيخوض من لغو الحديث وسخف القول فيما شاء الله أن يخوض فيه! •••
وحياته العامة كحياته الخاصة، قد أصيبت بهذا العرض من أعراض المرض، فلزمها في كل فروعها! وقد يكون مما يضحك ويسلي - إن كان في الشر ما يضحك ويسلي - أن تلاحظ أن مصدر هذا المرض في حياتنا العامة خطأ يسير في الحكم والتقدير ...
فقد قامت النهضة المصرية الحديثة كلها على فكرة خطيرة خصبة؛ هي أن مصر قد اضطرت أيام الترك العثمانيين إلى الركود والخمود، ومضت أوروبا في طريقها إلى الرقي حتى سادت العالم وسيطرت عليه، ففكر زعماء النهضة منذ أول القرن الماضي في أن أول ما يجب على مصر هو النشاط الذي يتيح لها أن تدرك أوروبا، وأن تأخذ بأسباب الحضارة كما أخذت بها، وتسعى إلى الرقي كما سعت إليه، فكان التشبه بأوروبا في أول النهضة وفي أثنائها أيام محمد علي وإسماعيل وسيلة لا غاية. لم يفكر محمد علي وأعوانه، ولم يفكر إسماعيل ومشيروه في أن تكون مصر كأوروبا؛ لأن التشبه بأوروبا غاية من الغايات التي تقصد لنفسها، وإنما فكر محمد علي وإسماعيل وأعوانهما ومشيروهما في أن أوروبا قد غيرت من حياة القرون الوسطى، فأتيح لها رقي في النظم الاجتماعية والسياسية، كفل لشعوبها حرية بعد استعباد، وعدلا بعد جور، واستعلاء في الأرض بعد أن كانت مستضعفة متهالكة، فأراد محمد علي وإسماعيل وأعوانهما أن تسترد مصر حرية بعد استعباد، وعدلا بعد جور، ومساواة بعد تفاوت، وعزة بعد ذلة.
ولكن هذه الوسيلة لم تلبث أن أصبحت غاية في نفوس كثير من المصريين، ثم في نفوس أكثر المصريين، ثم في نفوس المصريين جميعا، إلا أفرادا قليلين يمكن أن يبلغهم الإحصاء! فليس المهم الآن هو أن يتحقق في مصر مثلما تحقق في أوروبا من العدل الاجتماعي والسياسي، وإنما المهم هو أن توجد في مصر النظم والأدوات التي اتخذتها أوروبا وسيلة إلى تحقيق العدل السياسي والاجتماعي، سواء أكان لهذه النظم والأدوات من الإنتاج مثلما كان لها في أوروبا أم لم يكن!
في أوروبا وزارات منظمة، فيجب أن تكون في مصر وزارات منظمة؛ لتصبح مصر كأوروبا، سواء أعملت الوزارات المصرية كما تعمل الوزارات الأوربية، أم اكتفت بوجودها ليعرف العالم أن مصر ليست أقل من أوروبا تقدما ولا رقيا.
وفي أوروبا دساتير مكتوبة تنظم ما للشعب من حقوق، وما عليه من واجبات، فيجب أن يكون لمصر دستور مكتوب، ينظم ما للمصريين من حقوق وما عليهم من واجبات. وليس ضروريا أن ينفذ الدستور في مصر على وجهه، ولا أن تحترم الحريات التي يكفلها للناس، ولا أن تجري الحياة البرلمانية نقية من كل شائبة، مبرأة من كل عيب، ولا أن يذهب الشعب إلى حيث ينتخب ممثليه حرا آمنا على ضميره من أن يعبث به الترغيب أو الترهيب، ولا أن يؤدي النواب والشيوخ واجباتهم في مراقبة الحكومة ومحاسبتها أحرارا آمنين على ضمائرهم ومصالحهم القريبة والبعيدة، ولا أن تقف الوزارة أمام البرلمان موقف المسئول عن أعماله بالفعل، ولا أن يثق البرلمان بالوزارة فتبقى، ويسخط عليها فتزول! ليس شيء من هذا كله ضروريا، وإنما الضروري الذي لا يصح الإغضاء عنه ولا التقصير فيه هو أن يكون لمصر دستور مكتوب كما أن لكل بلد راق في أوروبا دستورا مكتوبا! •••
وقد يكون من الظريف أن تلاحظ أننا حين نتمدح بالدستور لا نتمدح بأنه يمتعنا بالحرية والعدل والمساواة حقا، وإنما نتمدح بأنه كأحدث الدساتير الأوروبية، أمرنا في الدستور كأمرنا في الأزياء وفي أزياء السيدات بنوع خاص، لا ينبغي أن يبعد بها العهد، وإنما ينبغي أن تأتي من أشهر دور البدع في باريس، أو أن تكون صورة طبق الأصل لما تنتجه أشهر دور البدع في باريس.
والأزياء التي تأتي من باريس تكلف الذين يشترونها ثمنا غاليا، فيجب أن يكلفنا الدستور الذي هو كأحدث الدساتير الأوروبية ثمنا غاليا أيضا. ولست أذكر نفقات الانتخاب ولا المكافآت البرلمانية، ولا المرتبات التي يتقاضاها الموظفون في البرلمان، وإنما أذكر المرافق المهملة، والمنافع المضيعة، والأخلاق التي اشتمل عليها الفساد! فهذه هي الأثمان التي يجب أن نؤديها ليكون لنا دستور مكتوب كأحدث الدساتير المكتوبة في أوروبا. ولكل بلد من البلاد الراقية جيش منظم على أحدث طراز، فيجب أن يكون لنا جيش منظم على أحدث طراز، ننفق عليه الملايين «المملينة» إن أجاز المجمع اللغوي هذا التعبير! وليس ضروريا أن يكون هذا الجيش أو لا يكون قادرا على حماية مصر من المغيرين، بل ليس هناك بأس من أن يحتفظ هذا الجيش بكبريائه، وتمتلئ قلوبنا نحن بالكبرياء؛ لأن لنا جيشا منظما على أحسن طراز في نفس الوقت الذي يحتل فيه مصر جيش أجنبي منظم كذلك على أحسن طراز ... ومن يدري؟ لعل هذه ميزة مصر، فليس في أرضها جيش واحد وإنما جيشان كلاهما منظم على أحدث طراز!
وفي كل بلد من البلاد الراقية وزارة للتعليم، فيجب أن تكون لنا وزارة للتعليم، وقد تلاحظ أن الجاهلين في مصر ما زالوا هم الكثرة الكثيرة، وأن المتعلمين ما زلوا هم القلة القليلة. ولكن هذا كله ليس ذا خطر؛ فوزارة التعليم لا يراد منها إزالة الجهل ونشر التعليم، كما أن وزارة الصحة لا يراد منها إزالة المرض ونشر الصحة، وكما أن وزارة الشئون الاجتماعية لا يراد منها إزالة الشقاء وإشاعة الثراء، وإنما الذي يراد من هذه الوزارات ومن غير هذه الوزارات كالذي يراد من الدستور ومن كل نظمنا الحديثة؛ هو أن توجد لنستطيع أن نقول وقد رفعنا الرءوس وشمخنا بالأنوف ونظرنا إلى السماء وأبينا أن ننظر إلى الأرض: «إن مصر بلد حديث، فيه كل النظم التي تستمتع بها البلاد الحديثة الراقية!»
وويل لنا إن نظرنا إلى الأرض؛ فقد نرى على الأرض إن نظرنا إليها شعبا جاهلا مريضا فقيرا، لا يوجد في أوروبا ولا في غير أوروبا من البلاد الراقية المتحضرة! فلننظر إلى السماء، وإلى السماء وحدها، ولنكتف بالوسائل ولنتجنب الغايات! •••
هذه هي العلة التي تفسد على مصر حياتها كلها في هذه الأيام ...!
فالذين يريدون الإصلاح ويلتمسون إليه الوسائل، والذين يختصمون في تعديل الدستور، والذين يريدون تقويم الأداة الحكومية، والذين ينفخون في القرب المقطوعة، وينقشون على صفحات النيل، ويريدون أن يقرءوا ما ينقشون، كل هؤلاء خليقون أن يراجعوا أنفسهم، وأن يفكروا في أن لا سبيل إلى الإصلاح حتى يقر في نفوس المصريين عامة، وفي نفوس القادة والساسة خاصة أن الاستقلال والدستور ونظم الحكم والوزارات والمصالح ... كل هذه وسائل لا تقصد لنفسها، وإنما تتخذ أدوات لشيء آخر هو الذي يجب أن نفكر فيه ونحرص عليه؛ وهو سعادة الشعب، أو على أقل تقدير: تخفيف ما يلقى الشعب من الشقاء!
أمن الممكن أن نقر في نفوس المصريين أن من الحق عليهم لأنفسهم ولتاريخهم ولمستقبل وطنهم أن ينظروا إلى الوسائل على أنها وسائل لا على أنها غايات؟!
مسألة فيها نظر ...!
1947
لبنان
تلقاني مشرق الوجه، باسم الثغر، سمح النفس، رقيق الشمائل، عذب الحديث، ولم يدع لي فرصة تسمح بسؤاله أو الإدلاء إليه بما كنت أريد، وإنما مضى في التأهيل والتسهيل والترحيب حتى أغرقني، وأغرق من كان معي من الرفاق في بحر من التحيات لا ساحل له. وكانت الساعة ساعة الشاي، وإذا هو يضرب يدا بيد فيقبل الخدم من كل وجه، فيلقي الأمر هنا وهناك، ويتلقى منه الأمر هذا الخادم أو ذاك، ثم يعود إلينا مضيفا تحية إلى تحية، ومردفا ترحيبا بترحيب، كأنه كان لي صديقا حميما قد بعد العهد بينه وبيني، فهو سعيد باللقاء المفاجئ بعد الفراق الطويل الأليم.
وأنا أسمع لهذا الحديث المتصل في ذهول، وأتلقى هذه التحيات المترادفة في وجوم، فلم أكن لقيت هذا الرجل الكريم قط، ولم أكن سمعت به قبل ذلك اليوم قط، وإنما كنت رجلا مصطافا قد أقبل بأهله يلتمس شيئا من الراحة والدعة واعتدال الجو في لبنان، بعد أن أنهكه العمل، وأحرقه القيظ، وثقلت عليه الحياة في مصر.
وكانت الطريق إلى أوروبا مقطوعة؛ قطعتها الحرب، وكانت الحياة في الإسكندرية على اعتدال جوها مضنية مشقية لا تعفي من عمل، ولا تريح من عناء، ولا تتيح هذا التغيير الذي نحتاج إليه بعد أن نعمل عملا مضنيا ثقيلا مختلفا عاما كاملا. فلم يكن بد من التماس الراحة في لبنان.
وقصدنا إلى لبنان حين تقدم فصل الصيف، وازدحمت الفنادق بالمصطافين حتى استعان أصحابها أهل القرى، يضيفون عندهم من لا يجدون له مكانا في فنادقهم. وكنت قد سمعت بهذا كله قبل أن أعبر الصحراء إلى فلسطين، واستوثقت من هذا كله حين بلغت القدس وأقمت فيها أياما. ولكن مع ذلك مضيت إلى لبنان، فلم يكن بد من المضي إليه، ومضيت إلى هذه القرية بعينها لكثرة ما حدثني الناس عنها، وإلى هذا الفندق بعينه؛ لأنه كان أضخم فنادق القرية بناء، وأرحبها فناء، وأكثرها حجرات وغرفات، وأجدرها أن يؤوي من يطرقه بعد أن تقدم الصيف.
فلا أكاد أبلغه حتى يلقاني صاحبه بهذا السيل المتدفق من التحية والتكريم، فيدهشني ما ألقى من ذلك، وأثبت لهذا السيل ما وجدت إلى الثبات سبيلا، ثم أنتهز فرصة هدأ فيها صاحبي شيئا من هدوء، كأنه أراد أن يتنفس ويبلع ريقه بعد أن أسرف في العدو، فأسأله: أتظن أن في وسعك أن تسكننا في هذا الفندق؟ وكأنما مسست بهذا السؤال محركا كهربائيا، فلا أكاد أفرغ من إلقائه حتى يندفع صاحبي في حديث آخر عذب متصل كأنه السيل، فما حاجتي إلى الفندق ألتمس فيه الحجرات والغرفات، ولي في القلوب ما شاء الله من المساكن، أتبوأ منها حيث أشاء، وأتنقل بينها كما يتنقل الطائر الغرد على الأغصان في الحدائق والجنات.
قلت لصاحبي - وقد رضيت كل الرضى عن هذا الشعور، وأشفقت كل الإشفاق أن يكون سرابا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده الليل لا يدري أين يقضيه - قلت لصاحبي: لقد شملتني بكرمك، وغمرتني بلطفك، وإني لسعيد بسكنى القلوب، ولكنك ترى أن القلوب لا تغني عن الحجرات والغرفات شيئا، وأن الذين احتملوا مشقة السفر منذ أشرقت الشمس إلى أن كادت تجنح إلى الغروب مصوبين ومصعدين تمخضهم السيارة مخض القرب، أحوج إلى غرفة يتخففون فيها من عناء السفر، وإلى سرير يلقون عليه ثقل التعب؛ منهم إلى قلوب يجدون فيها الحب والود والبر والحنان، فإذا اجتمعت لهم سكنى القلوب وسكنى الغرفات كانوا أسعد الناس سعادة وأنعمهم نعيما ... قال صاحبي - وقد أخذه ضحك عريض عميق: فأنتم إذن أسعد الناس سعادة وأنعمهم نعيما ؛ لأنكم تسكنون القلوب دائما، وستسكنون الغرفات متى أصبتم شيئا من أكواب الشاي هذه التي يسعى إليكم بها الخدم.
هنالك اطمأن قلبي، ورضيت نفسي، وعرفت أني لن أطوف في القرى، وأنا لن ننفق الليل بالعراء، فأقبلت على ما قدم إلي من طعام وشراب مغتبطا مبتهجا، وأصبت منهما ما شاء الله أن أصيب.
قال صاحب الفندق مبتسما في حديثه الشعري العذب: أيهما أحب إليك: أن تسمع صمت الطبيعة؟ أم أن تسمع ضجيجها وعجيجها؟ قلت متضاحكا في شيء خفي من الوجل: فإن هذا موضوع خطير خصب يحسن أن نرجئ الخوض فيه إلى الغد بعد أن أكون قد أخذت من الراحة بنصيب. قال وقد أغرق في الضحك: هيهات يا سيدي؛ فإنك مضطر إلى أن تجيب على هذا السؤال لأعرف أين أنزلك، وإلى أي نوع من غرفات هذا الفندق يجب أن آويك؛ فإن غرفاتنا يطل بعضها على جهة البحر فلا يسمع الساكن فيها إلا صمت الطبيعة الهادئة المطمئنة، يرى البحر من بعيد ينبسط أمامه إلى غير حد، ولكنه لا يسمع له هديرا ولا زئيرا، وإنما ينعم بمنظره الرائع ونسيمه البليل العليل. وبعض غرفاتنا يطل على هذه الجنة المنبسطة التي ترتفع أشجارها العتيقة في السماء، وفي هذه الجنة من صرير الجنادب ما يشق على السمع أول الأمر، ولا يتيح للناس أن يسمع بعضهم حديث بعض إلا في شيء من الجهد والعناء، فأين تريد أن تنزل؟ وأين تحب أن تقيم؟ أتؤثر صمت الطبيعة وهدوءها والإشراف على البحر والجبل جميعا؟ أم تؤثر لغط الطبيعة وصخبها والإشراف على الزهر والشجر؟ قلت: فإني متعب مكدود من اللغط والصخب، فالراحة أحب إلي، والهدوء آثر عندي.
قال: لا بأس، ومع ذلك فينبغي أن تزوروا الغرفات الصامتة والغرفات الصاخبة، وأن تختاروا بعد التجربة والممارسة. قلت: ذاك إليك، وهؤلاء رفاقي طوف بهم في الغرفات والحجرات كما تشاء، وأنا راض بما يختارون.
ومضى ومضى معه الرفاق، فغابوا عني ساعة وجدت فيها شيئا غير قليل من الراحة، وفكرت في أثنائها تفكيرا يمازجه الإشفاق والرضى في صاحب هذا الفندق الذي يحب الحديث ولا يكاد يتحدث إلا شعرا، ولكن لم ألبث أن وجدت الطمأنينة، فهذا الرجل مشغول بفندقه وضيفه، ولن يفرغ لي من دون هؤلاء الضيف الذين يزدحم بهم الفندق والذين لا تنقضي حاجتهم، والذين لا يجدون ما يعملون، فهم في حاجة إلى أن يقولوا ويسمعوا. ثم أقبل علي ومعه الرفاق ينبئونني بأنني سآوي إلى غرفة صامتة إذا كان الليل، وإذا احتجت إلى الراحة أثناء النهار، وسأنفق أكثر النهار في جنة الفندق، أتبوأ منها حيث أشاء؛ فهي واسعة فسيحة ظليلة مختلفة، فيها الأماكن التي تجمع من سكان الفندق والقرية طلاب الحديث واللعب والمنادمة، وفيها الأماكن التي يأوي إليها محبو العزلة والراغب أن يفرغ لنفسه أو لكتابه، أو لما أحب من عمل، وفيها أماكن الرياضة للاعب التنس وغير التنس من هذه الألعاب التي يحبها الشباب وكثير من الشيوخ.
وهم أن يمضي في تفصيل جنته إلى أبعد من هذا، لولا أني نهضت وقطعت حديثه قائلا: الخيرة إذن فيما اخترتم، فلنمض إلى غرفاتنا الصامتة لنتخفف من أثقال السفر، ولنتهيأ لساعة العشاء.
وأنفقت في هذا الفندق شهرا وبعض شهر، ناعما بالراحة المريحة والهدوء الذي يملأ القلب رضى، والنفس مرحا، والعقل نشاطا، عاكفا على القراءة والإملاء، فإذا ضقت بالقراءة والإملاء أخذت في الحديث مع الرفاق والزائرين، فإذا رغبت في شيء من الشعر الحي دعوت صاحب الفندق إلى مكان صامت، وتركته يتحدث إلي بما شاء من ألوان الحديث، وإذا هو يحدثني في شئون لبنان على اختلافها، وينشدني في هذه الشئون شعرا عذبا طلي اللفظ والمعنى جميعا، في لهجة لبنانية. وربما أعجبتني المقطوعة من هذا الشعر فأستعيدها، وأومئ إلى صاحبي فيكتبها؛ لأحملها معي إلى مصر، ولأعود إليها من حين إلى حين.
وكنت أظن أول الأمر أن صاحب الفندق هذا شخص نادر في كرمه وشعره وروايته وحبه للحديث؛ ولكني لم أكد أعرف اللبنانيين وأتحدث إليهم وأسمع منهم على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، حتى استيقنت أن الكرم فيهم خلق قد فطروا عليه، وأن الشعر غريزة قد أتيحت لكثيرين منهم، بعضهم يستغلها فيحسن الشعر في لهجته اللبنانية، أو في اللهجة الفصحى، وبعضهم لا يكاد يحفل بها فتشيع في حياته، وإذا هو شاعر على غير إرادة منه في حس مرهف، وذوق مترف، وطبيعة مصفاة، وما أظن أحدا يجادلني في أن اللبناني هو أشد الشرقيين حبا للطبيعة وكلفا بها، وتذوقا لمحاسنها، وقدرة على تصويرها.
قل: إن سحر لبنان هو مصدر هذا المزاج الخاص، أو علل هذا المزاج بما شئت، ولكن امتياز اللبناني في دقة الحس ورقة الشعور وترف الذوق شيء ليس فيه شك.
تلمس ذلك حين تلقى الرجل الساذج من أهل لبنان في داره اليسيرة الساذجة، فلا تحس فقرا ولا حاجة، ولا ضيقا ولا إملاقا، وإنما تحس تأنقا وعناية، ولا تشك في أن الذوق قد عمل في ترتيب هذه الدار وتنسيقها، حتى أصبحت تصور الرضى والأمن والدعة والاطمئنان إلى العيش والابتسام للحياة.
وإن أنس فلن أنسى يوما أزمعنا فيه أن نتروض في لبنان، فلم نكد نرفع أيدينا من طعام الغداء حتى انحدرت بنا السيارة إلى بيروت، ثم صعدت بنا إلى عاليه، ثم مضت مصعدة ومصوبة، ونحن نقفها هنا وهناك، ونيامن بها مرة ونياسر بها مرة أخرى، حتى إذا أقبل الأصيل كنا قد بلغنا شتورة، وقد أخذ منا الجوع والظمأ لكثرة ما صعدنا وما صوبنا، ويامنا وياسرنا في هذا الهواء البارد الذي كان يذكرنا بقول المتنبي:
وشعاب لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء
فلما بلغنا شتورة مجهودين مكدودين جياعا ظماء؛ أسرعنا إلى فندقها الأصيل، فيتلقانا صاحبه بما تعود اللبنانيون أن يتلقوا به الضيف من التأهيل والتسهيل والترحيب، ويسعى بنا إلى غرفة الطعام، وهناك يقدم إلينا ما شاء الله من طعام مختلفة ألوانه، وفاكهة مختلفة فنونها، وشاي لم أشرب مثله قط جودة نوع ودقة صنع. وكان معي صبية جياع ظماء، خلي بينهم وبين الطعام والشراب، فأرسلوا أنفسهم على سجيتها، واندفعوا يأكلون ويشربون لا يلوون على شيء، وأنا أحضهم وأشجعهم، وأمهم توصيهم بالرفق والأناة وتحثهم على القصد والاعتدال، وهم يسمعون لي أكثر مما يسمعون لأمهم، يغريهم بذلك جودة ما بين أيديهم، وصاحب الفندق يذهب ويجيء، يلقي الأمر هنا وهناك، ويحتفي بهؤلاء المندفعين في الطعام والشراب.
حتى إذا أصبنا من هذا كله حاجتنا وفوق حاجتنا وهممنا أن ننصرف، وطلب صاحبي الحساب إلى أحد الخدم؛ قال الخادم مبتسما: هيهات! لا حساب، إنما أنتم ضيف صاحب الفندق. ونحن نلح ونلح، والخدم يلحون في الإباء، حتى اضطررت إلى أن أسعى إلى صاحب الفندق خجلا مستخذيا لكثرة ما أسرفنا على أنفسنا وعلى مضيفنا، كنا نظن أننا سائحون نشتري حاجتنا من أحد الفنادق، ولا نستشير في ذلك إلا طاقتنا على الأكل والشرب، وقدرتنا على أداء الثمن؛ فإذا نحن ضيف قد أسرفنا على من ضيفنا، فأنا حائر بين الشكر والاعتذار، وصاحب الفندق مندفع في تحيته واغتباطه بأنا قد مررنا به، ونزلنا عليه، وأصبنا من طعامه وشرابه، ولولا امتناعنا وإلحاحنا في الامتناع لما صدرنا عنه وأيدينا فارغة من بعض ما كان عنده من الطيبات.
كذلك أنفقت تلك الإجازة في لبنان، فأي غرابة في أن أعود إلى لبنان كلما أتيحت لي العودة إليه؟ حياة ناعمة باسمة، وقوم كرام في غير جهد ولا تكلف، وجو معتدل يعفيك من القيظ، ولا يعرضك لما تتعرض له إذا عبرت البحر إلى أوروبا من المطر المنهمر، والسماء المظلمة، والجو العابس بين حين وحين.
وأشهد، ما تركت لبنان قط إلا تردد في نفسي، وربما تردد على لساني هذان البيتان:
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
1949
الصيف
فصل الكلال والملال والكسل، والعجز عن كل نشاط وعمل.
كذلك قال صاحبي حين سألته عن رأيه في الصيف، وصاحبي هذا رجل لا يبغض شيئا كما يبغض الكسل، ولا يحب شيئا كما يحب النشاط والإنتاج؛ فهو يغدو على عمله، فينتج فيه ما شاء الله أن ينتج، ويروح إلى كتابه وأوراقه، فيقرأ ويكتب، وينفع الناس بما يقرأ ويكتب.
وأحب الفصول إليه فصل الشتاء؛ لأنه لا يجد في هذا الفصل ثقل الجسم ولا ضيق النفس، ولا يحس فيه سأما من عمل، أو مللا من قراءة، وهو لا يكره الخريف؛ لأنه يتيح له من العمل والإنتاج ما يحب، والخريف عنده قطعة من الصيف المنتهي، وقطعة من الشتاء المبتدئ. فهو بريء مما يبغض الصيف إلى الناس؛ تنكسر فيه حدة القيظ، ويستشعر الناس فيه شيئا من روح؛ لأنهم يحسون كأنهم يخرجون من النار ويسعون إلى دار النعيم، في طريق تودعهم فيه لفحات من الحر فاترة، وتستقبلهم فيها نفحات من البرد معجبة.
فإذا سألت صاحبي هذا عن الربيع هز رأسه ورفع كتفه وأرسل ضحكة ضئيلة فاترة فيها كثير من السخر والاستهزاء؛ فليس في مصر عنده ربيع، وإنما فيها عنده مغالطة بالربيع. سماء لا تكاد تبتسم حتى يغشاها العبوس، ونسيم لا يكاد يرق حتى يغلظ ويفسده ما يثور من التراب أو من الغبار على أقل تقدير، وزهر لا يكاد يكتسي النضرة والبهجة حتى يشيع فيه الذواء والذبول. وهو يرى أن الربيع عندنا مصدر من مصادر الحزن والابتئاس؛ لأنه لا يكاد يطمع حتى يوئس، ولا يكاد يدفع إلى النشاط حتى يضطر إلى الهمود والجمود، ويورط في الخمود والركود. وصاحبي يؤثر الصراحة على الرياء، والإخلاص على النفاق، وهو يرى في الصيف والشتاء صراحة وإخلاصا، ويرى في الربيع والخريف بمصر رياء ونفاقا.
وهو يحتمل رياء الخريف؛ لأنه رقيق، ويضيق برياء الربيع؛ لأنه صفيق، وهو يستحب إخلاص الشتاء؛ لأنه خفيف، وينفر من إخلاص الصيف؛ لأنه ثقيل. وهو كذلك يقضي في فصول السنة على هوى نفسه وجسمه، وعلى ما يلائم طبعه ومزاجه، لا يغير من أحكامه شيئا على كثرة ما تتغير الأعوام وتختلف الفصول. ذلك لأنه لا يكاد يحس تغير الأعوام، لأنه ماض في عمله ونشاطه ما وسعه المضي فيهما، لا يصرفه عنهما صارف، ولا يرده عنهما راد من هذه الأشياء التي تصرفنا نحن عن العمل وتردنا عن النشاط، فهو منقطع؛ لا يزور ولا يكاد يزار، وهو متخفف من أعباء الحياة الاجتماعية، لا يحتمل منها إلا أيسرها وأقلها كلفة. وهو يرضى أن يصفه الناس بالنفور والفتور والغرور والكبرياء، ويؤثر لذة العمل والإنتاج على لذة اللقاء والحديث، وعلى كل هذا اللغو الذي يعيش فيه الناس.
ولعله لو خلي بينه وبين نفسه لنسي التاريخ ولم يذكر من عدد السنين والحساب شيئا. هو كذلك لا يحس تغير الأعوام، ولكنه يحس اختلاف الفصول حسا قويا، وهو من أجل هذا لا يكاد يحدثك إن لقيته إلا عن الحر والبرد، واعتدال الجو واكفهراره واغبراره، وعن أثر هذا كله في حسن استعداده للقراءة والكتابة والعمل. وصاحبي لا يحب الرحلة، ولا يميل إلى الأسفار، وأبغض شيء إليه أن يضطر إلى الانتقال من مدينة إلى مدينة داخل مصر، فأما العالم الخارجي فهو يعرفه سماعا لا عيانا، ولعله يعرف منه بالسماع أكثر مما نعرف نحن بالعيان. يأتيه ذلك من كثرة القراءة ومن حسن التعمق لما يقرأ، وجودة الاستقصاء لما يعنيه بين الأشياء الكثيرة التي يقرأها. وقد هممت غير مرة أن أحبب إليه الرحلة والانتقال من جو إلى جو، فلم أبلغ منه شيئا، وقد زينت له أمر الصيف في ربوع لبنان وفي أقطار فرنسا وإيطاليا؛ فأظهر الحب لهذا الصيف اللبناني والأوروبي، وود لو يصطاف هنا أو هناك، ولكنه أبغض القطار والسفينة والطائرة وعناء السفر ومنغصات الانتقال، فآثر العافية واختار البقاء حيث هو، لا يتحول ولا يريم.
هذا رأي صاحبي في الصيف والشتاء، والربيع والخريف، وهو رأي ذاتي كما ترى فيما يقول الكتاب المعاصرون، لا يصدر فيه إلا عن هوى نفسه، وراحة جسمه، وما يلائم مزاجه من الظروف. وأكبر الظن أن آراءنا جميعا في فصول السنة ذاتية؛ نصدر فيها عن أهواء أنفسنا، وما يلائم طبائعنا وأمزجتنا، ونترك حقائقها للعلماء يبدئون فيها ويعيدون، ويعلمون ويتعلمون، لا يعنينا من علمهم، أو لا يكاد يعنينا من علمهم إلا أهونه شأنا وأيسره خطرا؛ فالفصول بالقياس إلينا، هي: الأوقات التي نجد فيها الراحة والروح فنرضى، أو نجد فيها العناء والجهد فنسخط، أو نتردد فيها بين ذلك، فنسعد حينا، ونشقى حينا.
وأعترف بأن الصيف هو أبغض فصول السنة إلي إذا أقمت في مصر، وهو آثرها عندي، وأكرمها علي إذا عبرت البحر أو الصحراء، فرقيت الجبل في أوروبا أو في لبنان، ذلك أني لا أطيق القيظ إلا في جهد جهيد، وعناء شديد، ومشقة شاقة. تضيق به نفسي، ويغلق له قلبي، ويعقد له لساني، ويضطر له عقلي إلى جمود منكر لا أمل معه في تفكير أو شيء يشبه التفكير، ويسوء له خلقي، أو قل: يزداد له خلقي سوءا؛ فأصبح ثقيل العشرة، بغيض الصحبة، رديء المخالطة، لا أطمئن إلى أحد، ولا يطمئن إلي أحد. وإذا اضطررت إلى البقاء في مصر أثناء الصيف؛ فزعت إلى القراءة أعتصم بها من سوء الخلق، وأحتمي بها من لقاء الناس، ولكنها قراءة تمر بالذهن دون أن تترك فيه أثرا، كأنها تمر بشيء أملس صلد لا يستبقي مما يمر به شيئا.
وإذا اضطررت إلى البقاء في مصر أثناء الصيف، وحيل بيني وبين القراءة - ولا بد من وقت يحال فيه بيني وبين القراءة، حين يتعب الذين يقرءون لي، سواء تعبت أنا أم لم أتعب - هممت بالفزع إلى النوم، ولكن النوم لا ينفر مني في فصل من فصول السنة كما ينفر مني في فصل الصيف، وله في الصيف نفور بغيض أشبه شيء بالمزاح الثقيل؛ فهو يدعوني مغريا، ويتملقني محببا، حتى إذا أظهرت الاستجابة له ولى مدبرا، وكاد يسمعني ضحكا ساخرا عريضا، فإذا استيأست منه وأعرضت عنه أقبل مترضيا، وجعل يدور حولي من جميع أقطاري، يريد أن يأخذني من هنا وهناك، والغريب أني أنخدع له دائما، وأنه يعرف مني هذا الانخداع؛ فيقبل ويدبر، ويدنو وينأى، ويبسم ويعبس، لا يخلصني منه إلا أن يستريح الذين يقرءون لي. فإذا أقبلت على الكتاب فر النوم فرارا لا رجعة منه، كأنما الكتاب وقاء من النوم أي وقاء. ومن الناس قوم يقرءون ليناموا، ولكني لم أعرف قط كيف يكون الكتاب داعيا للنوم؟!
وإذا اضطررت إلى البقاء في مصر أثناء الصيف لم أكره شيئا كما أكره الخروج إلى حيث يستنشق الهواء الطلق ويتبرد من شدة القيظ ؛ ذلك لأني واثق بأن الأماكن التي يغشاها طلاب الهواء الطلق مزدحمة دائما، ولست آمن أن ألقى فيها من أحب ومن لا أحب، فأخشى أن أسوء هذا أو ذاك بما يلزمني أثناء الصيف من سوء العشرة وثقل المخالطة. فالصيف بغيض إلي في مصر؛ لأنه يبغض إلي كل شيء، ويبغضني إلى نفسي، فإذا عبرت البحر إلى أوروبا، أو نفذت من الصحراء إلى لبنان.
فالصيف أحب فصول العام إلي، وآثرها عندي، وأخفها على نفسي ظلا؛ لأن قمم الجبال تضفيني من القيظ، فتردني إلى نفسي وترد نفسي إلي، وأنا مقبل على القراءة في نهم لا أعرف له نظيرا في الفصول الأخرى. وإذا القراءة خصبة أي خصب، لا أكاد أقرأ الجملة أو الفصل حتى تتفتح لي أبواب من التفكير والحس والشعور، وإذا أنا في حاجة إلى أن أتحدث حتى أشق على أصحابي، وإذا أنا في حاجة إلى أن أملي حتى أشق على الذين يكتبون عني؛ والصيف يفتح لي خارج مصر فنونا من التجارب: يدعوني إلى المشي حتى أتعب وأتعب من معي، ويغريني بالانتقال من مكان إلى مكان، ومن مصطاف إلى مصطاف، ويحبب إلي شهود التمثيل والاستماع للغناء والموسيقى، ولست أبغض في مصر شيئا كما أبغض الخروج من داري والاختلاف إلى الأندية والجلوس في القهوات. ولست أحب خارج مصر شيئا كما أحب الخروج من الفندق وشرب القهوة هنا أو هناك. •••
فالصيف عندي إذا خرجت من مصر فصل الحياة الكاملة الحافلة المليئة، حياة العقل وحياة الحس وحياة الشعور، والصيف عندي إذا أقمت في مصر فصل الحياة الراكدة الخامدة التي لا تغني عني ولا عن الناس شيئا. ولست أعرف عاما خرجت فيه من مصر أثناء الصيف وعدت فيه إلى مصر فارغ اليدين؛ وإنما أنا أخرج من مصر فلا أكاد أستقر هنا أو هناك حتى يفتح الله علي بكتاب أمليه، أو بكتاب أعده في نفسي لأمليه إذا رجعت، ذلك إلا أن تحول الخطوب الثقال بيني وبين ما تعودت. والذين ينظرون فيما نشرت من الكتب يجدون أكثرها قد أرخ من قمة جبل أو مدينة في السهل الأوروبي.
أكثر كتبي بدئ أو أتم في جبال الألب، أو في لبنان، وأقلها بدئ وأتم في القاهرة. ولو استطعت لتمنيت أن تكون الحياة كلها صيفا، وأن أقضيها مطوفا في أقطار الأرض، وأن ألم بمصر بين حين وحين لألقى الأصدقاء والأخلاء، وأدفع إلى الناشر هذا الكتاب وذاك، وأكلف من الأصدقاء من يقوم على تصحيحه حتى تتم إذاعته في الناس. ولكن هيهات أن تكون الحياة كلها صيفا، وهيهات أن أنفقها كلها متنقلا بين الجبال والربى والسهول، إنما الحياة شتاء وربيع، وعلينا أن ننفقهما حيث يجتمع المجمع اللغوي والمجمع العلمي المصري، وحيث يلتقي الناس ليقول بعضهم لبعض ويسمع بعضهم من بعض، دون أن ينتفع أحد بما يسمع أو يقال، وحيث نلقي المحاضرات أو نستمع للمحاضرات، فلا نكاد نفيد ولا نكاد نستفيد. ثم صيف وخريف نفر فيهما من أنفسنا إلى أنفسنا، ومن أنفسنا الفارغة إلى أنفسنا العاملة، ومن حياتنا التي تقوم على اللغو والعبث إلى حياتنا التي تقوم على الجد والنشاط. •••
قلت هذا كله لصاحبي، فابتسم في سخرية، وقال في فتور: أقم ما طابت لك الإقامة، وارحل ما طاب لك الرحيل، فأنت رجل بدوي تكره على الحضارة إكراها، وأنا رجل حضري لا أحب النقلة ولا الارتحال. وكل ميسر لما خلق له، فأحبب صيفك، ودعني أبغض صيفي، فلن تغيرني، ولن أغيرك.
1948
دين
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
كذلك قال أبو الطيب حين أهدى إليه فاتك ما أهدى إليه من المعروف، فلم يكافئه إلا بالحمد والثناء.
وكذلك هممت أن أقول حين أهدى إلي لبنان ما أهدى من المعروف، ولكن لم ألبث أن تبينت أن بين أبي الطيب وبيني فرق ما بين الشاعر والكاتب، أحدهما يقول فتحفظ الكتب وتروي الأيام. والآخر يملي فيقرأ الناس ثم ينسون، وتسمع الأيام ثم تنسى، ويظل ما أملى دفينا في الصحف والأسفار كأن أحدا لم يمله، وكأن أحدا لم يقرأه، وكأن أحدا لم يلتفت إليه. ومع ذلك فالمعروف الذي أهداه إلي لبنان أبقى بقاء، وأعظم نماء، وأبعد أثرا، وأرفع ذكرا من ذلك الذي أهداه فاتك إلى أبي الطيب.
فقد أهدى فاتك إلى أبي الطيب دنانير سرته حين تلقاها، ثم اختلطت بما كان عنده من مال، وذهبت فيما ذهب من ماله أثناء حياته أو بعد وفاته. وأهدى إلي لبنان معروفا يتصل بالعقل والقلب جميعا، ضن به علي قوم هم أقرب إلي قرابة من لبنان، وهم أكثر منه حصى، وأوسع منه يدا، وأبعد منه قدرة، وأطول منه باعا، حتى تمثلت - حين انصرف عني مستشار المفوضية اللبنانية بعد أن دعاني باسم حكومته إلى بيروت لألقي فيها محاضرة أثناء شهر «الأونسكو» - قول الحطيئة:
سيري أمامة إن الأكرمين أبا
والأكثرين حصى من آل شماس
نعم، لم ترد الحكومة المصرية أو لم يخطر لها أني أستطيع أن أمثلها بين من مثلها في مؤتمر الأونسكو، وهي تعلم حق العلم أن بين الأونسكو وبيني صلات متصلة وأواصر متينة، وأني كنت من خبرائها مرتين في أقل من نصف عام، وأني مثلت مصر في مجلس التعاون الفكري الذي كان يقوم مقام الأونسكو قبل الحرب العالمية الثانية، أنشأته عصبة الأمم القديمة، كما أنشأت الأونسكو عصبة الأمم الحديثة.
فكنت خليقا أن أشهد باسم مصر مؤتمر الأونسكو في بيروت، ولكن الحكومة المصرية أبت إلا أن تصانع السياسة في أمر لا ينبغي أن تصانع فيه السياسة. وأصبح ذات يوم، فإذا مستشار المفوضية اللبنانية في مصر يطلب إلي موعدا، فإذا تفضل بزيارتي أبلغني أن حكومته تدعوني إلى بيروت؛ لأحاضر أثناء شهر الأونسكو في: «أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوروبية».
فأقبل الدعوة شاكرا بعد قليل من التردد في أعماق الضمير، فقد كنت أود لو زرت مؤتمر الأونسكو وحاضرت فيه موفدا من الوطن العزيز، ولكن الوطن العزيز لم يرد، أو لم يستطع، أو لم يخطر له الأمر على بال.
فأسافر إلى بيروت، ولا أكاد أصعد إلى السفينة حتى أرى قنصل لبنان في الإسكندرية يبلغني تحية الوزير وأمانيه، فأتمثل بيت الحطيئة الذي رويته آنفا.
ولا تكاد السفينة تصل إلى بيروت، حتى أرى مندوبا من وزارة الخارجية اللبنانية أقبل يتلقاني باسم الوزير، ويهدي إلي تحيته، فأهبط من السفينة، وأنا أتمثل بيت الحطيئة الذي رويته آنفا.
وهذه السيارة تقلني وتقل من معي إلى أفخم فنادق بيروت، فننزل فيه أحسن منزل وأكرمه، ونلقى فيه خير ما يلقى الضيف من مضيفه من قرى لا يرضي الحياة المادية وحدها، وإنما يرضي حياة العقل والقلب والذوق والشعور.
ثم لا أكاد أستقر في الفندق حتى تتصل الزيارات، كلها كريمة وكلها حفية، وإذا أنا أجد نفسي في بيئة أخص ما توصف به أنها تعرف كيف تبذل الحب، وكيف تهدي العطف، وكيف تكرم الضيف، وكيف تأسو القلب المكلوم.
كرامة أصبح بها قبل أن يرتفع الضحى، وكرامة أمسي بها قبل أن يقبل الليل، وتلطف أغمر به بين ذلك.
ويأتي موعد المحاضرة الموعودة، فسل ما شئت عن رفق الحكومة وظرفها ورقتها، وعن كريم عنايتها وحسن رعايتها، وسل ما شئت عن تهافت الناس على البطاقات واستباقهم إلى الأماكن، وازدحامهم في القاعة ومن حولها، حتى أمسى المستمعون لا يحصون بالمئات، وإنما يحصون بالألوف. ليس في ذلك تكثر ولا تمدح ولا غلو، وإنما هو الحق الواقع الذي نطقت به الألسنة كلها، والصحف كلها، فتصور عطفا يصدر عن هذه الجموع، وتحية تصدر عن هذه القلوب، وتصور جوا عشت فيه اثني عشر يوما لم أجد فيه إلا مودة ومحبة وتلطفا وإيناسا.
والقارئ يعرف أني لم أتحدث قط عن نفسي بهذه اللهجة التي أتحدث بها اليوم، وأني لم أعرف قط أني أستحق أن أشغل نفسي أو أشغل الناس بنفسي على هذا النحو، ولكني مع ذلك أتبسط في هذا الحديث كما ترى، لا أتحفظ ولا أتحرج؛ لأني أحب أن تعرف مصر كيف تلقى لبنان رجلا من أبنائها، وكيف أكرمه، وكيف أنزله أحسن منزل، وتقبله أجمل قبول. فليس غريبا أن ينوء بي هذا المعروف، وأن يعجزني حمل هذا الجميل، وأن أعرض ما أعرض من أمره على المواطنين ليحملوا معي هذا العبء، وليعرفوا معي للبنان هذا الجميل .
فلبنان لم يكرمني لنفسي فحسب؛ وإنما أكرمني؛ لأني مصري، فتحيته موجهة إلى مصر، وجميله مطوق لعنق مصر، فمن حق مصر أن تعرف هذا الجميل، وتقدر هذه العارفة، وتعين ابنا من أبنائها على احتمال هذا الدين الذي لا سبيل إلى أدائه.
ولا أفرغ من المحاضرة الفرنسية التي تحدثت فيها إلى اللبنانيين وضيفهم من الأجانب، حتى تطلب إلي محاضرة عربية أتحدث فيها إلى اللبنانيين وضيفهم من العرب، وإذا حفاوة بهذه المحاضرة العربية تشبه الحفاوة بتلك المحاضرة الفرنسية ... وأريد أن أعود إلى مصر، فلا أبلغ ما أريد إلا بعد الجهد كل الجهد، والمشقة كل المشقة، ويأبى وزير الخارجية والتربية الوطنية إلا أن يختصني بمأدبة يفيض علي فيها من كرمه ووده ما عجزت بأدق معاني كلمة العجز عن شكره، ثم أغدو إلى الطائرة؛ فإذا مندوبه في المطار يودعني ومعه هذه الزهرات التي لا تزال تبتسم في داري إلى الآن، قد صحبنا أرجها في الطائرة، وما زال هذا الأرج ينشر من حولي مودة وحبا وإيناسا، ويردد في الدار قول الشاعر العربي القديم:
ونكرم ضيفنا ما حل فينا
ونتبعه الكرامة حيث كانا
فهل ينكر القارئ المصري الذي ورث عن قديمه حسن الشكر وحسن الاعتراف بالجميل؟ ...
هل ينكر القارئ المصري علي أن أتمثل بشعر الحطيئة مرة أخرى حيث يقول:
وإن التي نكبتها عن معاشر
غضاب علي إن صددت كما صدوا
أتت آل شماس بن لأي وإنما
أتاهم بها الأحلام والحسب العد
فإن الشقي من تعادي صدورهم
وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادث
من الدهر ردوا بعض أحلامكم ردوا
وقد لامني أفناء سعد عليهم
وما قلت إلا بالذي علمت سعد
أما بعد، فإني أفزع إلى المصريين ؛ لأشهد على أن أخاهم قد لقي من كرم لبنان وعطفه ما يعجز عن أداء حقه، ويستعينهم على أداء هذا الحق، وما أرى إلا أنهم سيفعلون.
وأما بعد، فإن من حقي أن أشكو وزير المعارف المصري إلى نفسه، وإلى رئيسه، وإلى وطنه؛ فقد كنت أحب أن تكون الثقافة بمنأى عن السياسة، وأن يذكر وزراؤنا دائما قول من قال:
إذا أنت تابعت الهوى قادك الهوى
إلى بعض ما فيه عليك مقال
1948
شياطين الإنس ... والجن
تستطيع أن تضحك إن كان مزاجك يغريك بالضحك، وتستطيع أن تبكي إن كان مزاجك يدفعك إلى البكاء، وتستطيع أن تتوسط بين ذلك إن كنت رجلا معتدل المزاج. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك، ولا ينبغي لك أن تضعه موضع البحث والجدال؛ هو أن حياة الناس كرة يتقاذفها نوعان من اللاعبين في أكثر الأحيان!
فأما أحد النوعين: فهم شياطين الجن الذين لا نراهم ولا نحسهم، وإنما نرى آثارهم ونحسها، وهم يستخفون بأعمالهم فيلقون الغرور في القلوب، ويشيعون الكبرياء في النفوس، ويملئون الضمائر صلفا وتيها ... وأما النوع الآخر من اللاعبين: فهم شياطين الإنس الذين نستطيع أن نراهم، ونحس أعمالهم وآثارهم وإن تكلفوا التستر والاستخفاء، وهم يستغلون ما يلقى في القلوب من الغرور، وما يشاع في النفوس من الكبرياء، وما تفعم به الضمائر من الصلف والتيه ... أولئك يدبرون ويقدرون، وهؤلاء يعلمون وينفذون، والناس بين أولئك وهؤلاء كرات لا تستقر إلا لتنتقل، ولا تثبت إلا لتزول ... وعلى غير هذا النحو من التفسير يعسر جدا أن تفهم أعمال الناس، وما يجني بعضهم على بعض من الشر، وما يدبر بعضهم لبعض من الكيد، وما يهدي بعضهم إلى بعض من النكر والمكروه. •••
يقبل شيطان الجن على «فلان» في خلوة من خلواته، فيلقي في قلبه أنه أنفذ الناس ذكاء، وأصدقهم فطنة، وأبعدهم نظرا، وأدقهم فهما، وأصدقهم حكما، وأحدهم شعورا، وأرهفهم حسا، وأصفاهم ذوقا، وأفصحهم لسانا، وهو إذن أجدرهم أن ترتفع به المكانة، وترقى به المنزلة، ويقصر عليه الامتياز! وما يزال به يقلب على هذا الغرور قلبه ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، حتى يستقر ذلك في ضميره استقرارا، وإذا هو يؤمن بامتيازه ذاك كما يؤمن بطلوع الشمس حين تطلع، وغروبها حين يجنها الليل، بل كما يؤمن بأنه إنسان موجود يحس نفسه ويحس غيره، ويحس ما بينه وبين غيره من الصلات. فهو إذن قد أعد إعدادا حسنا لتتلقاه شياطين الإنس فتفعل به الأفاعيل، وهو لا يكاد يخرج من خلوته ويلقى الناس حتى يسمع منهم جهرة بعض ما سمع من شياطين الجن خفية، وإذا هو يقبل منهم ما يقولون ويراه قليلا، ويغريهم - عن شعور أو عن غير شعور - بأن يزيدوه ويزيدوه، حتى يكون وحيهم الظاهر مطابقا أو مقاربا لذلك الوحي الخفي الذي ألقته شياطين الجن في روعه منذ قليل.
وقد أغري المسكين بهذا العبث واطمأن إليه، حتى أصبح به كلفا، وإليه ساعيا، وعليه حريصا، لا يستلذ النوم إلا إذا داعبته فيه أحلام الغرور، ولا يستحب اليقظة إلا إذا لاعبته فيها آمال الصلف والتيه، وهو كذلك كرة تقذفها شياطين الجن أثناء الخلوة، فتتلقاها شياطين الإنس أثناء الاجتماع، ثم تقذفها شياطين الإنس أثناء الاجتماع، فتتلقاها شياطين الجن أثناء الخلوة، وهو كذلك تعب متعب، لا يستريح ولا يريح!
ويقبل شيطان الجن على «فلان» في خلوة من خلواته، فيلقي في قلبه أنه أبصر الناس بدقائق السياسة، وأقدرهم على احتمال أثقالها، وأبرعهم في حل مشكلاتها وتيسير معضلاتها، وأحبهم للشعب وأبرهم به وأعطفهم عليه، وأعرفهم بحاجاته، وأمهرهم في إرضائها، وأنه من أجل ذلك أحق الناس بالحكم، بل هو من أجل ذلك ميسر للحكم لم ييسر لغيره وصوله إليه ملائم لطبائع الأشياء، واستمساكه به بعد الوصول إليه واجب تفرضه الوطنية، ويفرضه الخلق، ويفرضه حق الكفايات الممتازة في الاستئثار بتصريف الأمور. ثم لا يكاد يخرج من خلوته حتى تلقاه شياطين الإنس، فتقول له مثل ما قالت شياطين الجن، فيحب هذا الحديث الظاهر كما أحب ذلك الحديث الخفي، ويستزيد أولئك وهؤلاء من أحاديثهم الرائعة البارعة التي أصبحت عنده أصدق الأحاديث؛ لأنها تلائم إيمانه بنفسه، وثقته بتفوقه وامتيازه، ويقينه بأن الله لم يخلق غيره ليدبر أمور الناس ومرافقهم كأحسن ما يمكن أن يكون التدبير. ثم يصبح المسكين كرة تقذفها شياطين الجن لتتلقاها شياطين الإنس، وتقذفها شياطين الإنس لتتلقاها شياطين الجن، وهو من أجل ذلك تعب متعب، لا يستريح ولا يريح!
وقل مثل ذلك في أصحاب الاقتصاد، وفي أصحاب المال، وفيمن شئت من الناس حين ينهضون بالأعباء العامة، أو يفرغون للأعمال الخاصة ... كلهم كرات بائسة تتقاذفها شياطين الجن وشياطين الإنس بما تلقي إليها من زخرف القول وأحاديث الغرور ...!
ولو قد اطلعت هذه الكرات على شياطين الجن والإنس حين يخلو بعضهم إلى بعض، وحين يلقى بعضهم بعضا، وحين تنفجر أفواههم البشعة عن ضحك مروع من هذه الكرات التي يتقاذفونها عابثين بها، ساخرين منها، مزدرين لها، لجاز أن يثوب إلى هذه الكرات شيء من عقل، وفضل من رشد، وقليل من صواب، فتثوب هي إلى شيء من التواضع، وتخفف من ثقل الغرور. ولكن شياطين الجن والإنس لا يكتفون بتقاذف هذه الكرات، وإنما يعبثون بها ألوانا من العبث تضحك منه أنت، وأضحك منه أنا، وترى فيه الكرات نفسها الجد كل الجد، والنجح كل النجح، والامتياز كل الامتياز؛ فشياطين الجن والإنس لا يكادون يتلقون الكرة من هذه الكرات حتى يقذفوها إلى يمين ثم إلى شمال، ثم إلى السماء، حتى إذا شبعوا من العبث بها دفعوها إلى أمام؛ ليتلقاها الفريق الآخر، فيعبث بها مثل ذلك العبث.
وعلى هذا النحو تستطيع أن تفهم سعي الساعين بين رجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال، وكيد الكائدين لهم، ومكر الماكرين بهم، وتحبب المتحببين إليهم، وتهالك المتهالكين عليهم، وتملق الذين يبتغون إليهم الوسائل ويمدون إليهم الأسباب ... ورجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال يفرحون بهذا كله ويبتهجون له: يرونه آية من آيات المجد، ومظهرا من مظاهر الجاه، ودليلا من أدلة التفوق والامتياز، ولكنهم لا يطلعون ولا يرون تلك الأفواه البشعة التي تنفجر عن ضحك مروع بشع، يتلهى به اللاعبون من شياطين الجن والإنس جميعا! •••
فمن يبلغ المؤمنين بأنفسهم والراضين عنها، والمطمئنين إلى ما تتيح لهم الظروف من تفوق طارئ وامتياز عارض وتسلط موقوت، والمغرورين بما ينظم لهم من عقود المدح، وما يدبج من فنون الثناء، والمستيقنين لأن الأيام أقبلت عليهم أنها لن تدبر عنهم، من يبلغ هؤلاء من رجال السياسة والأدب، والاقتصاد والمال أن الدنيا توكل بالناس - وبالضعاف منهم خاصة - شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأن الذين ينظمون لهم عقود المدح، ويجبرون لهم فنون الثناء لا يكاد يخلو بعضهم إلى بعض، ولا يكاد كل واحد منهم يخلو إلى نفسه حتى يسخروا من عقود المدح التي نظموها، ومن حلل الثناء التي نسجوها، ومن الذين حلوا أجيادهم بتلك العقود، وزينوا أعطافهم بهذه الحلل؟!
ومن يبلغ المغرورين والمفتونين من رجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال أن الأيام تقبل لتدبر، وتدبر لتقبل، وأن الرجل الأديب الأريب والحازم الرشيد هو الذي يضن بنفسه على أن يكون كرة تتقاذفها وتعبث بها شياطين الإنس والجن، وإنما يقبل على الحياة جادا في العمل، مؤمنا بالحق، ساعيا إلى الخير، متواضعا لا يزدهيه الغرور، واثقا لا تنال منه الفتن والمحن، مستذكرا دائما أن الله قد وعظ الناس فأحسن وعظهم حين قال:
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .
1948
جوع وأحاديث
لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نشق عليهم في القول ونعنف بهم في الحديث، فقد يجب أن يقال الحق وإن لم يبلغ من نفوسهم موضع الرضا، وقد يجب أن يقال الحق وإن بلغ من نفوسهم موضع الغضب، وأثار في قلوبهم موجدة وغيظا، والمواطنون الأعزاء قد تعودوا أن يكال لهم المدح كيلا، ويهال عليهم الثناء هيلا، حتى رضوا عن أنفسهم أعظم الرضا، وسخطوا على غيرهم أشد السخط، وناموا ملء جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهين لاهين تتخطفهم النوائب، وتعبث بهم الخطوب، فلا يغير ذلك من رأيهم في أنفسهم وحياتهم شيئا؛ لأنهم قد ألفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان إلى حياتهم، فأصبح من أعسر العسر أن نخرجهم من هذا الرضا أو نزعجهم عن هذا الاطمئنان ... ولا بد مع ذلك من أن يبصروا بحقائق الأمر، ومن أن يخرجوا من رضاهم ويزعجوا عن اطمئنانهم، ويعلموا أنهم يعيشون أبغض العيش، ويحيون أبشع الحياة، وأن هذا المثل العربي القديم الذي اتخذته عنوانا لهذا الحديث لم يوضع إلا لهم، ولم يضرب إلا فيهم، ولم يصور إلا ما دأبوا عليه وتورطوا فيه من كلام كثير لا يغني، وعمل قليل لا يفيد!
ولعل المواطنين الأعزاء قد فطنوا ليومين من أيام الأسبوع الماضي كان أحدهما عيد الجهاد، والآخر عيد الهجرة. وكان من قبلهما يوم له في حياتهم خطره الخطير، وشأنه العظيم؛ وهو يوم افتتاح البرلمان.
ولعل المواطنين الأعزاء، قد لاحظوا أن هذه الأيام الثلاثة قد انقضت كما تنقضي غيرها من أيامهم المتصلة التي يتبع بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا كما تشبه قطرة الماء، حتى كأن أيامهم على اختلافها وتعاقبها يوم واحد.
ومضت هذه الأيام الثلاثة كما يمضي غيرها من أيامهم: كلام كثير، وعمل قليل، واضطراب في غير حركة، ونشاط في غير إنتاج، وجعجعة في غير طحن، ورضا بعد ذلك عن النفس، واطمئنان بعد ذلك إلى هذه الحياة المطردة المملة، التي لا تنفع الناس ولا تنفع أصحابها، والتي لا تغني عن الناس ولا عن أصحابها شيئا! •••
كانت رائعة بارعة خطبة العرش التي ألقاها رئيس الوزراء في البرلمان، صورت لنا الحياة المصرية كأحسن ما تكون حياة الأمم: حكومة جادة لا تنام ولا تنيم، وشعب عامل لا يريح ولا يستريح! وقد رضيت الحكومة عن نفسها، فأثنت على نفسها، ورضي البرلمان عن الحكومة فصفق للحكومة، وسمع الشعب للحكومة تقول وللبرلمان يصفق، فرفع الأكتاف وهز الرءوس، وترك الخلق للخالق، وأقبل المترفون على ترفهم ينعمون بغير حساب، وأقبل المحرومون على حرمانهم يألمون بغير حساب، وتذبذب بين أولئك وهؤلاء فريق من أوساط الناس يأكلون في غير شبع، ويشربون في غير ري، وكلهم راض بما كان، مطمئن لما هو كائن، مستعد لما سيكون، واثق بأن مصر هي كنانة الله في أرضه، وهي جنة الدنيا، وزينة العالم، وقائدة الشعوب العربية إلى المجد المؤثل الذي لا يشبهه مجد، والفخار الذي لا يدانيه فخار!
وفي أثناء هذا كله كان المواطنون يموتون مئات، ويمرضون مئات، يتخطفهم هذا الموت الطارئ، ويصرعهم هذا الموت الطارئ، ومن حولهم ألوف وألوف يتخطفهم الموت العادي الذي لا يحمله الوباء، ويصرعهم المرض العادي الذي لا يحمله الوباء أيضا. وفي أثناء هذا كذلك كانت ملايين من المواطنين تنعم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة، فلا ترى ما هي فيه، ولا توازن بين حياتها وحياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى ... وكانت هذه الملايين في أثناء ذلك أيضا تنعم بفقرها الذي يشغلها بالتماس القوت، وإطعام العيال وكسوتهم دون أن تجد ما تسعى إليه، ولكنه يشغلها على كل حال بذلك عن التفكير في حياتها، والموازنة بينها وبين حياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى!
كان هذا كله يحدث في الصحف من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر، بينما كان رئيس الوزراء ينبئ البرلمان بما فعلت الحكومة وبما ستفعل، موفقة في الماضي والمستقبل لإنقاذ الشعب من الموت والمرض، ومن الفقر والجهل، ولتمكين مصر الخالدة المجيدة من أن ترفع رأسها العظيم الكريم بين الأمم الراقية، التي لم تبلغ ولن تبلغ ما بلغت مصر من المجد والفخار! ••• «جوع وأحاديث»، كما يقول المثل العربي القديم في يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر! و«جوع وأحاديث» في يوم الخميس الثالث عشر من شهر نوفمبر، حين استراح الموظفون من العمل احتفالا بعيد الجهاد الوطني! وأي احتفال بالجهاد يعدل الراحة لا من الجهاد، فقد انقضت أيام الجهاد، ولكن من العمل اليومي اليسير الذي يتيح لهم أجورهم آخر الشهر؟! وأي احتفال بالجهاد يشبه الحصول على الأجر من غير عمل، وإن كان هناك قوم آخرون تفرض عليهم الراحة احتفالا بالجهاد ثم يحرمون أجورهم في ذلك اليوم؛ لأنهم أكرهوا على الراحة احتفالا بالجهاد!
في ذلك اليوم خطب الخطباء، وتكلم الزعماء، وذكرت الثورة، وأثني على الشهداء ! وفي أثناء هذا كله كان الجيش البريطاني مرابطا في أماكنه المقسومة له، لا يحتفل بعيد الجهاد؛ لأن الجهاد لم يرزأه قتيلا!
و«جوع وأحاديث» يوم الجمعة الأول من شهر المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة ... في ذلك اليوم كتبت المقالات المدمجة، والفصول المنمقة، وأقيمت الحفلات الرائعة، وذكر المسلمون هذا الحدث الإنساني الخطر الذي تغير له التاريخ؛ وهو الهجرة، وذكروا ما في الهجرة من موعظة وعبرة، بكى بعضهم وتباكى بعضهم الآخر، واصطنع سائرهم الوقار، فلم يتكلفوا تباكيا ولا بكاء! ثم لم ينقض يوم الجمعة إلا كما تعودت الأيام أن تنقضي: خمود وجمود، وكسل وركود، ونوم عميق، وإمعان فيما تعود الناس أن يمعنوا فيه من هذه الحياة الفارغة التي لا تغني عن الناس ولا عن أصحابها شيئا! ••• «جوع وأحاديث» في هذه الأيام الثلاثة، وجوع وأحاديث فيما سبقها وفيما سيتلوها من الأيام!
صحف لا تحصى ولا يحصى ما فيها من الكلام تصابح الناس وتماسيهم، وثرثرة لا تحصى في الراديو تصابح الناس وتماسيهم، وهراء كثير لا يحصى، يشغل الناس عن أنفسهم وعن حياتهم وعن آمالهم وعن آلامهم، لا يصرفهم عنه النوم، بل هم إذا ناموا وألمت بهم الأحلام لم يخرجوا من هذا الهراء!
جوع ... وأحاديث! فنحن أفصح الناس كلاما، وأرفع الناس صوتا، وأبرع الناس في الحركات والتمثيل ... ونحن مع ذلك مضرب المثل في البؤس، والجهل، والمرض، والتهافت في الموت، كما تتهافت الفراش في النار! والله يعزي الناس عن آلامهم، ويسليهم عن مصائبهم بالعمل الذي يزيل الآلام، ويكشف المصائب، كما يسليهم بالقول الذي لا يمحو ألما، ولا يكشف ضرا، ولا يجلي خطبا، وإنما يجعل أصحابه ضحكة الضاحكين، وهزء الهازئين!
فلنبتهل إلى الله في أن يبرئنا من علة الكلام الكثير، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا في العمل الذي يزيل الآلام، ويمحو الكوارث، ويجلي الغمرات!
1947
Unknown page