كان هذا القبر الذي التقوا عنده مستقرا لغانية حسناء رائعة الحسن، بارعة الجمال، فاتنة الظرف، ساحرة الطرف، تعودوا أن يلقوها في تلك الدار التي كانوا يأوون إليها من آخر الليل، ويستنفذون فيها ما بقي لهم من قدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاء سواء؛ تعدل بينهم فيما تهدي إليهم من ظرفها وخفتها ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودد الذي يغري ويطمع، حتى يخيل إلى المرء أنه مشرف على الغاية، ومنته إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المهلك، والقنوط الذي يملأ القلوب لوعة وعذابا، فكان كل واحد من خلانها يستطيع أن يتمثل قول جميل:
ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
ولكنهم كانوا أجهل جهلا، وأحمق حمقا، وأفرغ أفئدة، وأسخف عقولا من أن يتمثلوا الشعر أو شيئا يشبه الشعر، إنما كانوا أصحاب لذة غليظة جافية، يشقون لينعموا، وينعمون ليشقوا، ويألمون ليلذوا، ويلذون ليألموا، دون أن يوازنوا بين شقاء ونعيم، أو بين لذة وألم، قد دفعوا إلى الحياة وما فيها من نعيم وبؤس، فهم مندفعون إلى الحياة لا يفكرون في نعيم ولا بؤس، دفعهم إلى هذه الحياة المنكرة ثراء لم يجدوا في كسبه عناء، وتربية لم تمنحهم أحلاما راجحة، ولا بصائر نافذة، ولا قلوبا قادرة على أن ترتفع عن اللذات المادية الآثمة والشهوات المندفعة الجامحة.
فكانوا إذا يلقون صاحبتهم تلك فيمن يلقون من خليلات اللهو ورفيقات العبث والمجون يجدون في هذا اللقاء حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وإنجاحا وإخفاقا، ولكنهم قد اتصلت نفوسهم جميعا بهذه الفتاة اتصالا شديدا، وتعلقت قلوبهم بها تعلقا عنيفا، واشتدت آمالهم فيها، وعظم بأسهم منها، حتى أخذ بعضهم ينفس على بعض ما يصدر عنها من لفظ ولحظ وإشارة، وحتى كاد بعضهم يصبح فيها لبعض عدوا. وهم على ذلك كانوا يجتمعون ويفترقون، لا يزيدهم الاجتماع إلا تنافسا وتباعدا، ولا يزيدهم الافتراق إلا حرصا على التداني وكلفا باللقاء.
وقد أخذ كل واحد منهم يظن بصاحبه الظنون، يزعم أنها تؤثر فلانا من دونه، ويشتد حقده على فلان ومكره به وكيده له، حتى كاد الأمر ينتهي بهم إلى أعظم الشر، ولكن الأيام أراحتهم من هذا العناء المهلك، فردت عنهم هذا الشر المستطير؛ لأنها اختطفت من بينهم هذه الغادة الحسناء في حادثة من هذه الحوادث التي تنقل الناس من الدار الأولى إلى الدار الآخرة في طرفة عين، فاجتمعت قلوبهم على الحزن والثكل، وحزن هؤلاء وأمثالهم لا يتصل ولا يطول؛ فما هي إلا أيام حتى يستأنفوا حياتهم كما ألفوها عابثة ماجنة، وسخيفة فارغة.
ولكن أحدهم يفيق من نومه مروعا مفزعا شديد الذهول؛ فقد رأى طيف هذه الغادة الحسناء يلم به في أثناء نومه الثقيل، فيذود عنه النوم ويرده إلى يقظة شديدة، وإذا هو ينظر فيرى صاحبته كما تعود أن يراها؛ فاتنة ساحرة، تدنو منه وتتلطف له وتتودد إليه، وتقول له في صوتها العذب الذي يسحر القلوب: ما كنت أحسب أنك ستتركني حيث أنا وحيدة مستوحشة لا تهدي إلي زيارة ولا تحدث بي عهدا ... ما أسرع ما نسيتني، وإني على ذلك لم أنسك، ولا يمكن أن أنساك، ألمم بداري قبل أن يقبل الليل. ثم تنصرف عنه، وينظر فلا يرى شيئا، ويتسمع فلا يسمع شيئا، وينهض فيستأنف حياته كما تعود أن يستأنفها كل يوم؛ لا يلقي بالا إلى ما رأى، ولا يلقي بالا إلى ما سمع، فإذا كان الغد جاء الطيف كما جاء أمس، وتحدث إليه بمثل ما تحدث به أمس.
وقد تكررت هذه الزيارة مرة ومرة حتى لم يشك في أن من الحق عليه أن يلم بهذا القبر، وأن يهدي إليه تحيته في طاقة من الزهور، وقد فعل، فلم يكد يبلغ القبر حتى رأى صاحبه، ولم يكد يقوم على القبر مع صاحبه حتى أقبل صاحبهما الثالث، فلما انصرفوا عن القبر قص أحدهم على صاحبه ما رأى وما سمع، فإذا كل واحد منهم قد رأى مثل ما رأى، وسمع مثل ما سمع، وأبطأ مثل ما أبطأ، ثم أقبل على القبر كما أقبل عليه يحمل إليه التحية وطاقة من الزهر.
Unknown page