174

Bayn Qasrayn

بين القصرين

Genres

فقال السيد وهو يهز منكبيه العريضين: كلا ولكنه يوزع المنشورات، لما ضيقت عليه زعم أنه يكتفي بالتوزيع على خاصة أصدقائه. - ما له ولهذه الأعمال! ... إنه الوديع ابن الوديع، ولهذه الأعمال رجال من صنف آخر، ألم يعرف أن الإنجليز وحوش لا تتطرق الرحمة إلى قلوبهم الغليظة؟ ... وأنهم يتغذون صباح مساء بدماء المصريين المساكين؟ ... كلمه بالحسنى، عظه، بين له النور من الظلام، قل له إنك أبوه وإنك تحبه وتخاف عليه، أما أنا فسأعمل من ناحيتي على إعداد حجاب من نوع خاص، وأدعو له في صلاتي، وخاصة صلاة الفجر، والله المستعان من قبل ومن بعد.

قال السيد بحزن: إن أنباء القتلى تتواتر كل ساعة معلنة آي التحذير لمن يعتبر، فما الذي أصاب عقله؟ لقد ضاع ابن الفولي اللبان في غمضة عين، فشهد مأتمه معي وعزى والده المسكين، كان الشاب يوزع سلاطين اللبن الزبادي، فصادف في طريقه مظاهرة، فأغراه القضاء بالاشتراك فيها بلا وعي، وما هي إلا ساعة أو نحوها، حتى خر صريعا في ساحة الأزهر، لا حول ولا قوة إلا بالله ... إنا لله وإنا إليه راجعون، لما تأخر عن ميعاد عودته قلق أبوه، فمضى إلى زبائنه يسأل عنه، قال له بعضهم إنه جاءهم بالزبادي وذهب، وقال آخرون إنه لم يمر عليهم كعادته، حتى بلغ حمروشا بائع الكنافة، فوجد عنده الصينية وما تبقى من السلاطين التي لم توزع، وأخبره الرجل بأنه تركها عنده واشترك في مظاهرة المساء، فجن جنون المسكين وقصد من توه قسم الجمالية، فوجهوه إلى قصر العيني، وهناك عثر على ابنه في المشرحة، لقد علم بالقصة بحذافيرها كما قصها علينا الفولي ونحن في بيته نعزيه، علم كيف فقد الشاب وكأن لم يوجد، ولمس حزن أبيه المبرح، وسمع صوات أهله، هلك المسكين فلم يعد سعد ولم يخرج الإنجليز، لو كان حجرا لعقل، ولكنه خير أبنائي فلله الحمد والشكر.

فقال الشيخ متولي بصوت أسيف: أعرف ذلك الشاب المسكين، إنه أكبر أبناء الفولي، أليس كذلك؟ ... كان جده مكاريا، وكنت أكتري حماره للذهاب إلى سيدي أبي السعود، إن للفولي أربعة أولاد، ولكن الفقيد كان أحبهم إلى قلبه.

هنا اشترك جميل الحمزاوي لأول مرة في الحديث قائلا: أيامنا هذه مجنونة وقد تلفت عقول الناس حتى صغارها، بالأمس قال ابني فؤاد لأمه إنه ود لو يشترك في مظاهرة!

فقال السيد بقلق: يعملها الصغار ويقع فيها الكبار! ... ابنك فؤاد صديق ابني كمال وكلاهما في مدرسة واحدة، ألا تحدثه نفسه ... ألا تحدثهما نفسهما مرة بأن يسيرا في مظاهرة! ... هه؟ ... ما من عجيبة تعد الآن عجيبة!

فقال الحمزاوي وقد ندم على ما فرط منه: ليس إلى هذا الحد يا سي السيد، على أني أدبته بلا رحمة على تمنياته الساذجة، إن سي كمال لا يخرج إلا مصحوبا بأم حنفي حفظه الله ورعاه.

ساد الصمت فلم يعد يسمع في الدكان إلا خشخشة الورقة التي يلف فيها الحمزاوي هدية الشيخ متولي عبد الصمد، ثم تنهد الشيخ وقال: فهمي ولد عاقل، لا ينبغي أن يمكن الإنجليز من نفسه العزيزة، الإنجليز! ... حسبي الله ... ألم تسمع بما فعلوا في العزيزية والبدرشين؟

كان السيد على حال من القلق لم يجد معها رغبة صادقة في التساؤل، إلا أنه لم يتوقع جديدا فوق ما يقرع سمعه هذه الأيام، فاكتفى بأن يرفع حاجبيه متظاهرا بالاهتمام، فأنشأ الشيخ يقول: كنت أول أمس في زيارة الحسيب النسيب شداد بك عبد الحميد بسرايه العامرة بالعباسية، دعاني إلى الغداء والعشاء فأتحفته بأحجبة له ولآل بيته، وهناك حدثني بحديث العزيزية والبدرشين.

سكت الشيخ قليلا، فتساءل السيد أحمد: تاجر الأقطان المعروف؟ - شداد بك عبد الحميد أكبر تاجر قطن، لعلك عرفت ابنه عبد الحميد بك شداد؛ فقد كان يوما على صلة وثيقة بالسيد محمد عفت؟

فقال السيد ببطء ليملي لنفسه في التذكير: أذكر أني رأيته مرة في مجلس السيد محمد عفت قبل نشوب الحرب، ثم سمعت عن إبعاده عن القطر عقب عزل أفندينا، أما من جديد عنه؟

Unknown page