لقي الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط إلا ضحك منه ضحكا شديدا، وأضحك منه أخاه وأصدقاءه جميعا؛ فقد جلس الشيخ على كرسيه وأخذ في القراءة، فقال: «المقصد الثاني في التصديقات.» يقلقل القاف ويفخم الصاد، ويمد الألفات والياءات مدا متوسطا. ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الألفات والياءات. ثم يعيد الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويمد الألف والياء في «الثاني»، ولكنه لا يقول «في التصديقات»، وإنما يقول: «في مين؟» فلا يرد عليه أحد، فيرد على نفسه ويقول: «في التصديقات»، ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه، فإذا انتهى إلى قوله: «في مين؟» ولم يرد عليه أحد، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول: «ردوا يا غنم، ردوا يا بهائم، ردوا يا خنازير!» يفخم الغين والخاء إلى أقصى ما يستطيع فمه أن يبلغ من التفخيم، فيقول الطلاب جميعا: «في التصديقات».
لقي الغلام من نفسه عناء شديدا؛ فقد كان هذا كله خليقا أن يضحكه، وكان يخاف أن يضحك بين يدي الأستاذ. ولقي من شيخه بلاء عظيما بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنطق عند هذا الشيخ باب القضايا.
تحول عن هذا الدرس في أثناء العام، وقرر أن يحضر مكانه درسا في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية. وكان أصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الإلقاء، ويقولون: إن علمه يخدع من حدثه أو سمع عنه، فإذا تعمقه لم يجد عنده شيئا، وكان يقرأ «شرح الخريدة» و«متنها» للدردير، فسمع الغلام منه درسا وأعجب بصوته وإلقائه وظرفه، وجعل ينتظر أن يعجب بعلمه وفنقلته، ولكن الشيخ صرف عن الدرس؛ لأنه نقل من القاهرة وأرسل إلى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء، فلم يتح للغلام أن يعلم علمه، ولا أن يقضي في أمره بشيء إلا أنه كان لبقا ظريفا حلو الصوت عذب الحديث.
وإذن فقد ضاعت السنة في حقيقة الأمر على الغلام، ولم يحصل فيها أو لم يكد يحصل فيها من العلم شيئا جديدا، إلا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من أولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون أو يتناظرون.
فلما عاد إلى الأزهر من قابل، عاد إليه ضيق النفس به، شديد الزهد فيه، حائرا في أمره لا يدري ماذا يصنع، لا يستطيع أن يقيم في الريف، وماذا يفعل في الريف؟! ولا يجد نفعا من إقامته في القاهرة واختلافه إلى الشيوخ. وفي هذا العام اتصل بدرس الأدب، ولكن لحديث هذا الدرس ساعة:
من الدهر ما حانت ولا حان حينها
كما تقول بثينة في سلوها عن جميل.
الفصل الثامن عشر
وفي الحق أن إقبال الفتى على درس الأدب لم يصرفه عن علومه الأزهرية أول الأمر؛ فقد كان يظن أنه يستطيع الملاءمة في نفسه بين هذين اللونين من ألوان المعرفة. وهو لم يرسل إلى القاهرة ولم ينسب إلى الأزهر ليكون أديبا ينظم الشعر أو ينشئ النثر، وإنما أرسل إلى القاهرة وانتسب إلى الأزهر ليسلك طريقه الأزهرية الخالصة، حتى يبلغ الامتحان ويظفر بالدرجة، ويسند ظهره إلى عمود من الأعمدة القائمة في ذلك المسجد العتيق، ويتحلق الطلاب من حوله فيسمعوا منه درسا في الفقه أو في النحو أو فيهما جميعا.
كذلك كان يتمنى أبوه، وبذلك كان يتحدث إلى الأسرة في شيء من الأمل والإعجاب بابنه هذا الشاذ الغريب. وكذلك كان يريد أخوه، وكذلك كان يريد هو. وماذا كان يمكن أن يريد غير ذلك وقد فرضت الحياة على أمثاله من المكفوفين الذين يريدون أن يحيوا حياة محتملة إحدى اثنتين: فإما الدرس في الأزهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة بهذه الأرغفة التي تؤخذ في كل يوم، وبهذه القروش التي تؤخذ آخر الشهر لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشا إن كانت الدرجة الثالثة، ولا عن مائة قرش إن كانت الدرجة الثانية، ولا عن خمسين ومائة قرش إن كانت الدرجة الأولى، وإما أن يتجر بالقرآن فيقرأه في المآتم والبيوت كما أنذره بذلك أبوه في وقت من الأوقات.
Unknown page