وقد أقام هذا الشاب على ذلك مع أصدقائه أعواما طوالا لم يغاضبهم ولم يغاضبوه. وكأنه أحس آخر الأمر أنه ليس من تلك الحلبة، وأنه لا يستطيع أن يجري في ذلك الميدان؛ فأخذ يتخلف قليلا قليلا عن الدروس، ويتكلف التعلات والمعاذير، لا يشارك القوم في مطالعتهم، ويكتفي بالمشاركة في الشاي والطعام أحيانا، والزيارات دائما.
وقد تقدمت السن بالصبي في أثناء ذلك، وتقدم به الدرس أيضا، وإذا هذا الشاب يظهر العطف عليه والقدر له، وإذا هو يعرض عليه أن يقرأ معه الكتب، ويعرض عن مشاركة أقرانه وأنداده إلى مشاركة هذا الغلام الناشئ، ويأخذ الغلام في أن يقرأ معه كتبا في الحديث وأخرى في المنطق وأخرى في التوحيد، ولكنه لا يجد عنده غناء. وليس الغلام فارغا للضحك منه والتندر به، وليس هو قادرا على ذلك ولا راغبا فيه، وإذا هو يحتال في التخلص منه والمضي لشأنه.
وإذا هذا الرجل يترك العلم أو يتركه العلم، ولكنه يظل محسوبا على الأزهر طالبا فيه مشاركا لأصحابه في الناحية الاجتماعية من حياتهم، وقد ارتقت حياتهم بعض الشيء؛ رقاها ذكاؤهم وجدهم وتفوقهم ورضا الأستاذ الإمام عنهم وتقريبه إياهم، وإذا هم يتصلون بفلان وفلان من أبناء الأسر الغنية الثرية الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر إذ ذاك، وإذا الزيارات تتصل بينهم وبين هؤلاء الشبان الأغنياء الأثرياء، وصاحبهم معهم يزور ويزار، وترتقي حياته الاجتماعية كما ارتقت حياة أصحابه. ولكن أصحابه لا يحسون هذا الارتقاء ولا يكادون يشعرون به، وهم إذن لا يتحدثون به ولا يتمدحون بزياراتهم لتلك البيوت الممتازة وجلوسهم إلى أصحابها النابهين، وإنما يرون ذلك شيئا طبيعيا مألوفا. فأما صاحبهم فهو الذي يراه المجد كل المجد، ويستمد منه الغبطة كل الغبطة والغرور كل الغرور، ويستغله لبعض منافعه المادية أحيانا، ويتحدث به دائما إلى من أراد أن يسمع له ومن لم يرد.
وتمضي الأيام ويتفرق هؤلاء الطلاب، وقد أخذ كل واحد منهم طريقه في الحياة. ولكن هذا الرجل لا ينساهم ولا يسمح لهم أن ينسوه، قد عجز عن تتبعهم في العلم فليتتبعهم في غيره مما تمتلئ به الحياة؛ يزورهم وإن لم يزوروه، ويلقاهم في زيارتهم عند فلان أو فلان من أصحاب المنزلة والثراء.
وقد خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك المحنة السياسية المعروفة، وإذا صاحبنا متصل بالأستاذ وشيعته، متصل بخصوم الأستاذ الإمام وشيعتهم أيضا. وقد أخذ الأزهر يضطرب، ودخلت السياسة في ذلك الاضطراب، واختصمت فيه السلطتان، وإذا صاحبنا يتصل بالمضربين مشاركا لهم في الإضراب، ويتصل بخصوم الإضراب مفشيا لهم أسرار المضربين، ويتكشف الأمر ذات يوم، ويا له من يوم! عن أن صاحبنا قد كان متصلا بالمحافظة، فتقطع الصلة قطعا عنيفا بينه وبين أصدقائه، ويرد عن البيوت التي كان يسعى إليها ويستقبل فيها، ويقبع في غرفته تلك في الربع قد خسر الناس جميعا ولم يخسره أحد. وقد قصرت به همته عن درجة الأزهر فهو ينفق حياته الخاملة وحيدا بائسا محتملا خموله على مضض مكتسبا عيشه في مشقة.
ثم ينبئ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات، أمات من علة؟ أمات من حسرة؟ أم مات من الحرمان؟ ولكن أصدقاءه يسمعون النعي فلا يأخذهم وجوم، ولا يمس نفوسهم حزن، وإنما يتلون هذه الآية الكريمة التي نتلوها دائما حين ينعى إلينا الناس:
إنا لله وإنا إليه راجعون .
الفصل التاسع
وكان الربع خاليا أو كالخالي حين أقبل الصبي عليه لأول مرة، لم يكن أهله قد عادوا إليه بعد إجازة الصوم. وقد عرف الصبي بعد ذلك أن طلاب الأزهر كانوا يستحبون الإبطاء في العودة إلى القاهرة بعد هذه الإجازة خاصة، ففي هذا الوقت كانت تبدأ السنة الأزهرية، وكأن الطلاب والعلماء كانوا يجدون شيئا من المشقة والجهد في مفارقة أهلهم وأوطانهم، فكانوا يطيلون إجازتهم يومين أو أياما، وربما أطالوها أسبوعا أو أكثر من أسبوع. ولم يكن عليهم من ذلك بأس؛ فقد كان الأزهر حينئذ في آخر أيامه السعيدة التي لم يكن النظام يحصي فيها على الأساتذة والطلاب أيام العمل وأيام الراحة، والتي لم يكن فيها النظام يأخذ الأساتذة والطلاب بهذه المواظبة القاسية على الدرس في جميع أيامه وفي جميع أوقاته. وإنما كان الأمر هينا سهلا؛ تعين المشيخة آخر الإجازة وأول العمل، والأساتذة أحرار يبدءون متى أرادوا أو متى استطاعوا. والطلاب أحرار يقبلون على الدروس متى أحبوا أو متى أتاحت لهم ظروفهم أن يقبلوا عليها.
كان الأمر هينا سهلا، وكان يعتمد على الرغبة والإرادة أكثر مما يعتمد على الدقة المقررة والنظام المحتوم، وكان أجدر أن يميز أصحاب الجد والعمل من أصحاب الكسل والعبث، وأن يدفع الطلاب إلى العلم حبا فيه وطموحا إليه لا طاعة للأمر ولا إشفاقا من العقاب.
Unknown page