ولم يكن يخفي إذا تحدث إلى أصدقائه الشباب أنه كان يعرف الطريق المأمونة المضمونة إلى الدرجة، وأنه كثيرا ما راود نفسه عن سلوكها، ولكن نفسه لم تطب قط عن بيع قيراط أو قيراطين ليظفر بهذه الدرجة التي تمنحه لقلب العالم، وتزيد جرايته أرغفة، وتغل عليه آخر الشهر خمسة وسبعين قرشا.
وكان من أجل هذا كله ينتظر أن تصفو له الأيام، ويبتسم له وجه الحظ، كما ابتسم لصديقه ومواطنه فلان في العام الماضي؛ فقد أقام صديقه هذا طالبا للعلم ربع قرن، وكان ذكيا بارعا، ثم تقدم فجأة إلى الامتحان فلم يجزه ناجحا فحسب، ولكنه ظفر بالدرجة الثانية لا بالدرجة الثالثة، ولو أنه أحسن التقرب إلى فلان من أعضاء اللجنة لظفر بالدرجة الأولى.
فلينتظر إذن كما انتظر صديقه، ولعل الحظ أن يواتيه كما واتى صديقه، فالأمر كله إلى الحظ أيها الأصدقاء؛ فقد درست كما تدرسون وتعبت كما تتعبون، وأنا أتمنى أن يكون حظكم خيرا من حظي وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمع فيه.
وكان هؤلاء الشباب يسمعون من صاحبهم هذه الأحاديث فيحفظونها ويثبتون في أنفسهم طريقته في إلقائها، وكانت طريقته طريفة حقا؛ فقد كان يتحدث في هدوء شديد وصوت هو إلى الخفوت أقرب منه إلى الجهر، وكان يعتمد على ألفاظه كأنما يريد أن يثبتها في آذان سامعيه. وكان يفصل بين أحاديثه هذه بكثير من الفكاهات والنوادر التي كان يراها غريبة مضحكة، فيضحك لها ويطيل الضحك، وقد مرت على أصدقائه فلم تضحكهم ولم تلفتهم، ولكنهم رأوه يضحك فوجموا، ثم رأوا ضحكه متصلا فضحكوا، ثم رأوا إغراقه في الضحك فأغرقوا فيه. وكان ضحكه غريبا مضحكا حقا إن جاز هذا التعبير؛ فقد كان يبدؤه عاليا ثم يقطعه ويضحك صامتا لحظة، ثم يستأنفه عاليا ثم يقطعه ويمضي فيه صامتا، ثم يستأنفه، وهكذا.
وكان الطلاب إذا خلوا إلى أنفسهم أعادوا أحاديثه، ورددوا ألفاظه، وقلدوا ضحكه وقضوا في ذلك ساعة مسلية سارة.
ولكن الذي كان يعجب هؤلاء الشباب من صديقهم هذا شيء آخر؛ فقد كان صاحب لذة بل صاحب إغراق في اللذة وتهالك عليها. وكان يحب الحديث عن لذاته، ويستمتع بتفصيل هذا الحديث كما يستمتع بلذاته نفسها أو أكثر مما يستمتع بلذاته نفسها. وكانت اللذات التي يمعن فيها ويتحدث عنها بريئة إن شئت، وآثمة إن شئت أيضا. كان يذكر لذاته إذا خلا إلى أهله ويفصل ذلك تفصيلا منكرا يقطعه بضحكه الغريب. وكان يذكر لذاته إذا جلس إلى طعامه الدسم في القرية وإلى طعامه الخشن في المدينة، ويفصل ذلك بفكاهاته النادرة الفاترة وضحكه المتقطع المتصل.
وكان يذكر لذاته إذا سعى في شوارع المدينة وفي حاراتها، وإذا وقف في الربع نفسه يستنشق الهواء وألقى عينيه إلى الطبقة السفلى، فلم يكن يرى امرأة في الشارع أو الحارة أو الربع إلا فصلها بعينه تفصيلا، وحللها في نفسه تحليلا، وجردها من ثيابها تجريدا، ووجد في هذا الجهد الآثم لذة لا تقل عنه إثما. ولم يكن يسمي المرأة امرأة ولا سيدة ولا أنثى، ولا شيئا مما تعود الناس أن يسموها، وإنما كان يسميها فخذا. ولم تكن المرأة النحيلة تعدل عنده شيئا، وإنما المرأة كل المرأة من ضخمت حتى اكتظت أعضاؤها بالشحم واللحم، وكان يشبهها بالوسائد حينا وبالحشايا حينا آخر.
وكان يستدل على مذهبه هذا بقول كعب بن زهير في صاحبته سعاد:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
Unknown page