173

وقال الأستاذ وهو يلقي هذا الموضوع إلى الفتى: وأريد أن أناقشك في النصوص فلا تكتف بفهم التاريخ.

في ذلك اليوم عاد الفتى إلى أهله يرعد من الخوف والسخط جميعا. كان يظن أنه قد فرغ من اللغة اللاتينية وعنائها، وإذا أستاذ التاريخ ذاك يرده إليها ويفرض عليه أن يدرس طائفة من رسائل ذلك الكاتب اللاتيني القديم.

وأقبل الفتى على رسائل ذلك الكاتب فقرأها كلها مترجمة إلى الفرنسية أولا، واستخرج منها الرسائل التي تمس موضوعه فعاد إليها يدرسها في نصوصها اللاتينية درسا دقيقا عميقا؛ لأنه كان يعرف الأستاذ، ويعلم أنه لا يحب المزاح ولا يكتفي بالقليل.

ولم يرتعد الفتى في امتحان قط إلا في هذا الامتحان حين أخذ الأستاذ يناقشه في هذه الرسائل، ونسي حكام الأقاليم وقضاياهم، ولم يحفل إلا بالنص اللاتيني من حيث هو نص أدبي يجب فهمه أولا وذوقه ثانيا وتحليله ونقده بعد ذلك.

ولولا فضل من شجاعة واستحياء من الرفاق ومن زوجه التي كانت تشهد الامتحان ومن سائر النظارة لاصطكت أسنانه ذعرا وهلعا، ولكنه ثبت للخطب على كل حال، وإن رأى الأساتذة والنظارة أن فرائصه كانت ترتعد، وأنه كان شديد الاضطراب، وثابت نفسه إليه حين سكت عنه أستاذ التاريخ وأخذ أستاذ الفلسفة في مناقشته وجرت ريح الامتحان له رخاء حتى رفعت الجلسة.

وخلت اللجنة للمداولة وعادت بعد لحظات فأعلن إليه رئيسها، وهو أستاذ التاريخ، أن الكلية ترشحه لدرجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الممتازة ومع تهنئة اللجنة.

ولأول مرة سمع الفتى تصفيق النظارة من الفرنسيين لشخصه المتضائل الضعيف.

وعاد إلى أهله جذلان فرحا، وظن أن قد حطت عنه أثقال الدراسة، وأن ما بقي له منها لن يكون شيئا ذا بال.

ولكن الأيام كشفت له عن أنه كان مغاليا في تفاؤله بل مسرفا في الغلو؛ فقد بقي عليه أن يظفر بدبلوم الدراسات العليا، وأراد حظه أن يعد رسالته لهذا الدبلوم بإشراف أستاذ التاريخ ذلك الذي أرهقه من أمره عسرا.

الفصل السابع عشر

Unknown page