وكان صاحبنا مقسم النفس بين السعادة المشرقة والشقاء المظلم في أثناء سفره هذا الطويل منذ ترك القاهرة إلى أن بلغ باريس.
كان سعيدا لأن الغمرة قد انجلت عنه، فاتصل من إقامته في فرنسا ما انقطع، وأذن الله له في أن يتم ما بدأ من الدرس، ويحاول تحقيق ما كان يداعب من الآمال، ويسمع من جديد ذلك الصوت العذب يقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي وأوليات التاريخ اليوناني الروماني، ويعينه على درس اللاتينية.
وليس هذا كله بالشيء القليل، وبعض هذا كان جديرا أن ينسيه كل ما لقي من جهد، وكل ما احتمل من عناء، ولكنه كان يحمل في نفسه ينبوعا من ينابيع الشقاء لا سبيل إلى أن يغيض أو ينضب إلا يوم يغيض ينبوع حياته نفسها؛ وهو هذه الآفة التي امتحن بها في أول الصبا، شقي بها صبيا، وشقي بها في أول الشباب. وأتاحت له تجاربه بين حين وحين أن يتسلى عنها، بل أتاحت له أن يقهرها ويقهر ما أثارت أمامه من المصاعب وأنشأت له من المشكلات، ولكنها كانت تأبى إلا أن تظهر له بين حين وحين أنها أقوى منه، وأمضى من عزمه، وأصعب مراسا من كل ما يفتق له ذكاؤه من حيلة.
والغريب من أمره وأمرها أنها كانت تؤذيه في دخيلة نفسه وأعماق ضميره. كانت تؤذيه سرا ولا تجاهره بالخصومة والكيد، لم تكن تمنعه من المضي في الدرس، ولا من التقدم في التحصيل، ولا من النجح في الامتحان حين يعرض له الامتحان، وإنما كانت أشبه شيء بالشيطان الماكر المسرف في الدهاء الذي يكمن للإنسان في بعض الأحناء والأثناء بين وقت ووقت، ويخلي له الطريق يمضي فيها أمامه قدما، لا يلوي على شيء. ثم يخرج له فجأة من مكمنه ذاك هنا أو هناك، فيصيبه ببعض الأذى، وينثني عنه كأنه لم يعرض له بمكروه بعد أن يكون قد أصاب من قلبه موضع الحس الدقيق والشعور الرقيق، وفتح له بابا من أبواب العذاب الخفي الأليم.
كان حين ركب السفينة لأول مرة وخرج من زيه ذاك الأزهري ودخل في زيه الأوروبي الجديد قد نسي شيئا واحدا لم يحسب له حسابا لأنه لم يكن يخطر له ببال، نسي بصره ذاك المكفوف، وأجفانه تلك التي كانت تتفتح ولكن على الظلمة المظلمة.
وكان قد قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنه كان يقول: إن العمى عورة. وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه. فكان يتحرج في كثير من الأشياء أمام المبصرين ، وكان يستخفي بطعامه وشرابه كما كان يستخفي بهما أبو العلاء حتى لا يظهر المبصرون منه على ما يثير الإشفاق والرثاء، أو السخرية.
ولم يخطر له قط أن الحياة الحديثة تفرض عليه أن يستر أجفانه تلك التي لا تغني عنه شيئا سترا ماديا. وقد أنفق أيامه في السفينة الأولى على هذا النحو، ولكنه لم يلق كيدا؛ لأنه لبث تلك الأيام قابعا في غرفته لا يتجاوز بابها مهما تكن الظروف، إلا أن يضطر إلى ذلك اضطرارا، فكان لا يخرج في تلك الحال إلا حين يتقدم الليل.
فلما بلغ مارسيليا نبهه رفاقه في تلطف أي تلطف أن تقاليد الفرنسيين تقضي على مثله أن يضع على أجفانه تلك غطاء من زجاج أسود، واشتروا له غطاء من تلك الأغطية الزجاجية السود التي يتقي بها المبصرون ضوء الشمس، ولم يؤذه تنبيه الرفاق له إلى ذلك وإنما رأى فيه تجديدا، وارتاح إليه بعض الارتياح، وكاد يعفى من الشقاء بعينيه المظلمتين، ثم لم يفكر في شيء من أمرهما ولا من غطائهما ذاك الأسود حتى عاد إلى مصر. وفي مصر لقيه أكبر إخوته رحمه الله، وكان مطربشا ميالا إلى الترف على ضيق ذات يده وضآلة مرتبه، فلما رآه أنكر غطاء عينيه وقال: إنه رخيص حقير لا يليق بمثلك.
قال الفتى: وما علي أن يكون رخيصا أو حقيرا، فما ينبغي لمثلي أن يزين بمثل هذا الغطاء.
قال أخوه: ولكن غطاءك هذا لا يزيد ثمنه على قرشين اثنين، وأنا مهد إليك خيرا منه؛ أستر لعينيك وأليق بمكانتك بين الذين تلقاهم من الرفاق والصديق، وبين الذين تزورهم من أصحاب المكانة الظاهرة في مصر.
Unknown page