بعد الإفطار، سار إليس إلى مكتبه، حاملا في يده خيزرانة، وقد اشتد وهج الحر لدرجة تعمي العيون. كان إليس قد تحمم وغير ملابسه فارتدى قميصا وسروالا قصيرا، فقد عاد إليه الطفح الجلدي بأبشع صوره لارتدائه بذلة ثقيلة مع أنه كان لساعة فقط. أما ويستفيلد فكان قد خرج، في زورقه البخاري، مع مفتش ونفر من الرجال، للقبض على القتلة. وكان قد أمر فيرال بمصاحبته، ليس لأن وجود فيرال كان ضروريا، لكن لأنه يحسن بذلك الوضيع الصغير أن يؤدي القليل من العمل، كما قال ويستفيلد.
أخذ إليس يلوي كتفيه؛ فقد كاد الطفح الجلدي لديه يفوق قدرته على الاحتمال. وكان الغضب يفور بداخله كأنه شراب الحنظل. كان قد ظل طوال الليل يتفكر فيما حدث. لقد قتلوا رجلا أبيض، قتلوا رجلا أبيض، الأراذل الملاعين، الخنازير السفلة الجبناء! الخنازير، الخنازير، كم لا بد أن يعانوا على ما اقترفوه! لماذا وضعوا هذه القوانين المتساهلة اللعينة؟ لماذا نرضخ لأي شيء؟ ماذا لو كان هذا قد حدث في مستعمرة ألمانية، قبل الحرب! الألمان الرجال الأشداء! كانوا يعرفون كيف يعاملون الزنوج. بالهجمات الانتقامية! وسياط من جلود الخرتيت! كانوا يغيرون على قراهم، ويقتلون مواشيهم، ويحرقون محاصيلهم، ويبيدونهم، ويقذفونهم من المدافع.
نظر إليس محدقا في شلالات الضوء الرهيبة المتدفقة من خلال الفجوات في الأشجار. كانت عيناه الضاربتان للون الأخضر متسعتين ويملؤهما الحزن. مر به رجل بورمي هادئ المحيا في منتصف العمر، حاملا خيزرانة ضخمة، كان ينقلها من كتف إلى الآخر في امتعاض أثناء مروره بإليس. هنا أحكم إليس قبضته على عصاه. ليت ذلك الخنزير يعتدي عليك، أو حتى يسبك، أي شيء، حتى يكون لك الحق أن تضربه! ليت هؤلاء الأوغاد الرعاديد يبدون استعدادا للقتال بأي طريقة ممكنة ولو مرة! بدلا من التسلل خلفك، ملتزمين بالقانون حتى لا تتسنى لك الفرصة للانتقام منهم مطلقا. ليت تمردا حقيقيا يقوم، فتعلن الأحكام العرفية من دون رحمة! جرت في ذهنه صور دموية جميلة؛ أهل البلد وهم مكومون في تلال يصرخون ألما، والجنود يذبحونهم، ويطلقون عليهم النيران، ويطئونهم بالخيل، فتدهس حوافرها أمعاءهم حتى تخرج من أجسادهم، ويمزعون وجوههم إربا بالسياط!
جاء على الطريق خمسة طلاب في المدرسة الثانوية يسيرون جنبا إلى جنب. رآهم إليس قادمين، صف من الوجوه الصفراء الحاقدة، وجوه مخنثة، ناعمة نعومة كريهة ونضرة، تبتسم له ابتسامة عريضة بصفاقة متعمدة. أرادوا في قرارة أنفسهم أن يستفزوه، لكونه رجلا أبيض. من المرجح أن يكونوا قد سمعوا بحادثة القتل، واعتبروها انتصارا، لكونهم وطنيين، مثل كل طلبة المدارس. افترت ثغورهم عن ابتسامات عريضة في وجه إليس أثناء مرورهم به. كانوا يحاولون إثارة غيظه صراحة، مدركين أن القانون في صفهم. شعر إليس بصدره يعلو، فقد كان منظر وجوههم وهي تسخر منه مثل صف من الصور الصفراء يثير الحنق، فتوقف عن السير فجأة. «مهلا! علام تضحكون يا أيها الرعاع الصغار؟»
التفت الصبية. «قلت علام تضحكون بحق الجحيم؟»
رد أحد الصبية بوقاحة، لكن ربما جعلته لغته الإنجليزية الركيكة يبدو أكثر وقاحة مما قصد. «ليس من شأنك.»
مرت لحظة لم يدر إليس خلالها ما الذي كان يفعله. في تلك اللحظة شن هجوما عنيفا بكل ما أوتي من قوة، فهوت العصا، طاخ، على عيني الصبي مباشرة. ارتد الصبي صارخا، وفي نفس الآونة ألقى الأربعة الآخرون بأنفسهم على إليس. لكنه كان أشد من أن يقدروا عليه؛ إذ أبعدهم عنه ووثب متراجعا، وهو يضرب بعصاه بعنف شديد حتى إنه لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب. «الزموا أماكنكم أيها ال...! ابتعدوا وإلا أقسم بالله أن أصيب واحدا آخر منكم!» رغم أنهم كانوا أربعة فقد كان هو مهيبا للغاية حتى إنهم تدافعوا متراجعين في ذعر. أما الصبي الذي أصيب فقد خر على ركبتيه مغطيا وجهه بذراعيه، وهو يصرخ: «لقد عميت! لقد عميت!» استدار الأربعة الآخرون بغتة وانطلقوا نحو كومة من اللاتريت المستخدم في إصلاح الطرق، كانت على بعد عشرين ياردة. ظهر أحد كتبة إليس في شرفة المكتب وراح يتوثب في توتر. «اصعد يا سيدي، اصعد في الحال. سوف يقتلونك!»
مع أن إليس كان يحتقر الفرار، فقد اتجه نحو سلم الشرفة. طارت في الهواء كتلة من اللاتريت وتحطمت على العمود، فهرع الكاتب إلى الداخل. أما إليس فظهر في الشرفة ليواجه الصبية، الذين كانوا في الأسفل، يحمل كل منهم ملء يده لاتريت، وهو يقهقه من السعادة.
جعل يصيح فيهم من أعلى: «أيها الزنوج الصغار الأقذار الملاعين! لقد تفاجأتم هذه المرة، أليس كذلك؟ اصعدوا هذه الشرفة وتعاركوا معي، أنتم الأربعة! لا تجرءون. أربعة أمام واحد لكنكم لا تجرءون على المواجهة! هل تحسبون أنفسكم رجالا؟ أيها الجرذان الصغار الوضعاء الحقراء!»
ثم تحول إلى اللغة البورمية ناعتا إياهم بأبناء الخنازير المسافحين. كانوا طوال ذلك الوقت يقذفونه بكتل من اللاتريت، بيد أن أذرعهم كانت كليلة فلا يرمون بمهارة. وكان هو يتفادى الحجارة، وكلما أخطأته واحدة قهقه انتصارا. بعد قليل تصاعدت صيحات آتية من أول الطريق؛ إذ كان الصوت قد سمع في قسم الشرطة، فخرج بعض الكونستابلات ليروا ما الأمر، وهنا ولى الصبية الفرار منطلقين، تاركين إليس منتصرا تماما.
Unknown page