بعد ما حدث، ساد العشاء جو من الحرج. فقد كان السيد لاكرستين عابسا، متعجبا، أي هراء هذا؟ الطريقة التي يتعالى بها هؤلاء النساء ويمنعنك من قضاء وقت ممتع! اللعنة، فقد كانت الفتاة على قدر من الجمال يكفي لتذكيره بالصور التي في مجلة «لا في باريزيان»! أوليس هو من يدفع نفقات معيشتها؟ يا للعار! أما من ناحية إليزابيث فقد كان الوضع خطيرا جدا؛ إذ كانت مفلسة وليس لديها ملجأ إلا منزل عمها. فقد سافرت ثمانية آلاف ميل لتقيم هنا. سيكون من الرهيب أن يصير منزل عمها غير صالح للإقامة بعد أسبوعين فقط.
بناء على ذلك، صار شيء واحد مؤكدا في ذهنها أكثر مما كان؛ وهو أنها ستوافق إذا طلب منها فلوري الزواج (وسوف يفعل، فليس هناك شك كبير في ذلك). في وقت آخر كان ثمة احتمال صغير أن تتخذ قرارا مغايرا. كانت في عصر ذلك اليوم، تحت تأثير تلك المغامرة الرائعة المثيرة «الجميلة» للغاية، قد اقتربت من أن تحب فلوري؛ بقدر ما استطاعت من القرب نظرا لحالته الخاصة. لكن ربما تعاودها شكوكها حتى بعد ذلك؛ فطالما كان ثمة شيء مريب بشأن فلوري؛ سنه ووحمته وأسلوبه الغريب النزق في الحديث، كلام «الثقافة الرفيعة» ذلك الذي كان مبهما ومربكا في الوقت ذاته. مرت عليها أيام بلغ بها الأمر أن كرهته. أما الحين فقد حسم تصرف عمها المسألة. مهما يكن من أمر عليها أن تهرب من منزل عمها، وعلى جناح السرعة. أجل، لا شك أنها ستتزوج فلوري حين يطلب يدها للزواج!
استطاع أن يرى الإجابة في وجهها حين دخل المكتبة. بدا مظهرها أرقا، أكثر استكانة مما عرفه. وكانت ترتدي نفس الفستان البنفسجي الفاتح الذي كانت ترتديه في ذلك الصباح الذي التقى بها فيه أول مرة، وقد منحته رؤية الفستان المألوف الشجاعة. بدا كأنه أدناها منه، مزيحا الغرابة والأناقة التي كانت توهن عزيمته أحيانا.
التقط المجلة التي كانت تقرؤها وقال ملحوظة ما؛ شرعا يثرثران لبرهة من الوقت نفس الثرثرة التافهة التي نادرا ما استطاعا تحاشيها. إنه لعجيب أن تستديم عادات الحديث التافه في كل اللحظات تقريبا. لكن بينما هما يثرثران وجدا نفسيهما منساقين إلى الباب ثم إلى الخارج، وبعد قليل إلى شجرة الياسمين الهندي الكبيرة لدى ملعب التنس. كانت ليلة اكتمال القمر. كان القمر متوهجا مثل عملة مشتعلة، ساطعا جدا حتى ليوجع ضوءه العيون، وهو يسبح عاليا في سماء في زرقة الدخان، انسابت في أنحائها خطوط قليلة من الغيم الأصفر. وكانت النجوم كلها خافية. أما شجيرات الكروتون، التي تبدو بشعة نهارا مثل أشجار غار أصابتها الصفراء، فقد حولها القمر إلى أشكال متداخلة بالأبيض والأسود مثل صور مذهلة مطبوعة من قوالب خشبية. عند سور المجمع كان ثمة عاملان درافيديان يسيران على الطريق، غير واضحي التفاصيل، فيما راحت أسمالهما البيضاء تشع وميضا. كانت شجرة الياسمين الهندي ترسل في الهواء الدافئ رائحة قوية.
قال فلوري: «فلتنظري إلى القمر، انظري إليه فحسب! كأنه شمس بيضاء. أشد ضوءا من النهار الشتوي الإنجليزي.»
رفعت إليزابيث ناظريها عبر فروع شجرة الياسمين الهندي، التي بدت كأن القمر قد حولها إلى قضبان من الفضة. انتشر الضوء سميكا، كأنه قابل للمس، على كل شيء، فكسا الأرض ولحاء الأشجار الخشن بقشرة مثل ملح براق، وبدت كل ورقة من أوراق الأشجار كأنها تحمل عبئا من الضوء الملموس، شبيه بالثلج. حتى إليزابيث، التي كانت لا تأبه لتلك الأشياء، كانت مبهورة. «إنه رائع! لا نرى ضوء القمر هكذا في الوطن مطلقا. إنه في غاية ... غاية ...» لما لم يواتها نعت سوى «ساطع»، لاذت بالصمت. كان من عاداتها أن تترك جملها دون أن تتمها، مثل روزا دارتل، وإن كان لسبب مختلف. «أجل، القمر العجوز يقدم أفضل ما عنده في هذا البلد. تلك الشجرة الكريهة الرائحة للغاية، أليس كذلك؟ شجرة مدارية بشعة! أبغض الشجرة التي تظل وارفة طوال العام، ألست كذلك؟»
كان يتحدث شارد الذهن إلى حد ما، ليملأ الوقت حتى يغيب العاملان عن مرمى البصر. وبمجرد اختفائهما وضع ذراعه حول كتف إليزابيث، ولما لم تجفل أو تنطق، أدارها وضمها إليه. صار رأسها مواجها لصدره وشعرها القصير ملامسا لشفتيه. وضع يده أسفل ذقنها ورفع وجهها ليقابل وجهه. لم تكن هي ترتدي نظارتها. «هل تمانعين؟» «لا.» «أقصد ألا تبالين ... بهذا الشيء لدي؟» وهز رأسه قليلا ليشير إلى الوحمة. لم يستطع تقبيلها دون أن يسأل هذا السؤال أولا. «لا، لا. بالطبع لا.»
بعد لحظة من تلاقي ثغريهما شعر بذراعيها العاريتين تستقران بخفة حول رقبته. وقفا متعانقين، وقد استندا إلى جذع شجرة الياسمين الهندي الناعم، جسده ملاصق لجسدها، وشفتاه ملاصقتان لشفتيها، طوال دقيقة أو أكثر. امتزجت رائحة الشجرة المثيرة للغثيان مع رائحة شعر إليزابيث. وقد أعطته الرائحة شعورا بالغفلة، بالبعد عن إليزابيث، مع أنها كانت بين ذراعيه. كل ما كانت تلك الشجرة الغريبة تمثله له؛ منفاه، السر، السنوات الضائعة. كانت مثل هوة لا سبيل لعبورها. كيف يمكنه يوما أن يجعلها تفهم ذلك الذي يريده منها؟ انفصل عنها ودفع بكتفيها برفق إلى الشجرة، وهو ينظر إلى وجهها، الذي استطاع رؤيته بوضوح شديد رغم أن القمر كان خلفها.
قال فلوري: «لا جدوى من أن أحاول إخبارك ماذا أنت بالنسبة إلي. ماذا أنت بالنسبة إلي! هذه العبارات التي فقدت وقعها! إنك لا تعلمين، ولا يمكن أن تدركي، كم أحبك. لكن يجب أن أحاول إخبارك. هناك أشياء كثيرة جدا يجب أن أخبرك بها. هل من الأفضل أن نعود إلى النادي؟ ربما يأتون للبحث عنا. يمكننا أن نتحدث في الشرفة.»
قالت هي: «هل تبعثر شعري؟» «إنه جميل.» «لكن هل صار مبعثرا. هلا هذبته لي أرجوك؟»
Unknown page