كان «الكولا» عبارة عن بيت رائع من الأحجار الخشنة يحتوي على إسطبل في الطابق السفلي وأماكن المعيشة في الطابق العلوي. وثمة شرفة كانت تحيط به في كل الجهات، وكانت هناك دوما امرأة عجوز تجلس بالشرفة تحمل أداة غريبة مزودة ببكرة، تطير كطائر حائر من يدها اليمنى إلى اليسرى تاركة شريطا أسود لامعا. أميال متتابعة من الشرائط السوداء اللامعة التي تزين جميع سراويل الرجال. ثمة نساء أخريات كن يعملن على الأنوال، أو يرقعن الصنادل الجلدية معا. لم يجلس أحد هناك ليحيك شيئا؛ لأن أحدا لم يفكر في الجلوس لإنجاز أعمال الحياكة. الحياكة عمل كن يضطلعن به كلما ذهبن إلى ينبوع الماء ويرجعن منه ودلاء المياه مربوطة على ظهورهن، أو كلما سلكن الدرب المؤدي إلى الحقول أو إلى غابة أشجار الزان حيث كن يجمعن الفروع الساقطة. كن يغزلن الجوارب - باللونين الأسود والأبيض، أو باللونين الأحمر والأبيض - بخطوط متعرجة كضربات البرق. يجب ألا تترك النساء بلا عمل. قبل الفجر، كن يعجن دقيق الخبز في وعاء خشبي استحال لونه إلى السواد، ويشكلنه في صورة أرغفة من الخبز على الصاج المعد لذلك، ويخبزنه على الموقد (كان خبزا غير مختمر من الذرة، يؤكل ساخنا وينتفخ كالفطر النفاث في المعدة). وبعدها، كن يكنسن «الكولا»، ويلقين بالسراخس العفنة، ويجمعن حمل أذرعهن من السراخس النضرة للنوم عليها الليلة التالية. كانت هذه عادة إحدى المهام التي اضطلعت بها لوتار بما أنها لم تكن بارعة فيما خلاها من مهام. الفتيات الصغار كن يقلبن الزبادي حتى لا يتكتل وهو يتخمر، أما الفتيات الأكبر سنا، فربما ينحرن عنزة صغيرة، ويخطن بطنها بعد أن يحشينها بالثوم البري والمريمية والتفاح، أو قد يذهبن معا؛ النساء والفتيات من كل الأعمار، ليغسلن الأوشحة البيضاء للرجال في مياه النهر القريب، الباردة والصافية صفاء الزجاج. كن يتعهدن محصول التبغ بالرعاية، ويعلقن أوراقه الناضجة لتجف في الحظيرة المعتمة، ويعزقن الذرة والخيار، ويحلبن النعاج.
بدت النساء صارمات، لكنهن لم يكن كذلك في واقع الأمر؛ جل ما في الأمر أنهن كن منشغلات، ومتفاخرات بأنفسهن، وكلهن حماس للمنافسة؛ من يقدر على رفع أكبر حمل من الخشب؟ من الأسرع في الحياكة وفي قطع أكبر عدد من صفوف أعواد الذرة؟ كانت تيما، التي تعهدت لوتار بالرعاية في مرضها، أبرز النساء العاملات على الإطلاق؛ فقد كانت تقطع المنحدر المؤدي إلى «الكولا» عدوا حاملة على ظهرها حملا من الخشب بدا أنه عشرة أمثال حجمها، وكانت تقفز من صخرة إلى أخرى في النهر، وتزيح الأوشحة وكأنها تنهال ضربا على الأعداء. كان النسوة يهللن «أوه، تيما، تيما!» بإعجاب ساخر، و«أوه، لوتار، لوتار!» بالنبرة نفسها تقريبا عندما تركت لوتار - التي هي على العكس تماما من تيما فيما يتعلق بجدواها - الملابس تنجرف بعيدا في النهر. أحيانا كن يضربن لوتار بعصا كما يضربن الحمير، لكنه ضرب يحمل في طياته السخط لا القسوة، وأحيانا ما كان الصغار يقولون: «تحدثي بلغتك!» فتتحدث الإنجليزية لتسليتهم. كن يتجهمن ويبصقن تأففا من تلك الأصوات الغريبة التي تصدرها. حاولت أن تعلمهن بعض الكلمات - «يد» و«أنف» وما إلى ذلك - لكن هذه الكلمات بدت مضحكة بالنسبة إليهن، فكانت الواحدة منهن ترددها على مسامع الأخريات، فيقعن على الأرض من فرط الضحك.
كانت النساء ترافقن النساء، والرجال بصحبة الرجال، باستثناء بعض الأوقات ليلا (النساء اللائي كن يتعرضن للسخرية بشأن تلك الأوقات كن يشعرن بحالة من الإحراج الشديد والرفض، وأحيانا ما كن يصفعن من يمازحهن بشأنها)، وفي أوقات الوجبات التي تقدم فيها النساء الطعام للرجال. ولم يكن للنساء أي دخل بما يفعله الرجال طوال اليوم؛ كان الرجال يصنعون ذخائرهم، ويولون عناية خاصة لبنادقهم التي كانت توضع في صناديق جميلة مزدانة بنقوش فضية، وكانوا ينسفون الصخور بالديناميت أيضا لإخلاء الطريق، ويتحملون مسئولية الجياد. أينما كانوا، كانت ضحكاتهم وأناشيدهم تتعالى، وتمتزج بأصوات إطلاق العيارات الفارغة، والأوقات التي كانوا يمضونها بالبيت، كانت بمنزلة إجازة بالنسبة إليهم، ثم كان بعضهم ينطلق على صهوة حصانه في رحلة لإنزال العقاب بأحدهم، أو لحضور مجلس كان يعقد لوضع حد لسلسلة من عمليات القتل. ولم تكن تؤمن أي من النساء بأن تلك المجالس تجدي نفعا؛ كن يضحكن ويقلن إنها ستفضي فحسب إلى مقتل 20 آخرين. وكلما انطلق شاب في أول مهمة قتل له، كانت النسوة يحدثن جلبة كبيرة بشأن ملابسه وتسريحة شعره لتشجيعه. وإذا أخفق، لم يكن يجد لنفسه زوجة؛ فأي امرأة مهما بلغت منزلتها كانت تخجل أن تتزوج رجلا لم يسبق له أن قتل. والجميع كانوا تواقين لوجود عرائس جدد بالبيت ليساعدن في أعماله.
ذات ليلة، بينما كانت لوتار تقدم الطعام لواحد من الرجال - وكان ضيفا؛ حيث جرى العرف دوما على دعوة ضيوف لتناول الوجبات على الطاولة المنخفضة التي يسمونها «سفرة» - لفت انتباهها كم كانت كفاه صغيرتين، ومعصماه خاليين من الشعر، وعلى الرغم من ذلك لم يكن صغيرا، لم يكن صبيا؛ كان وجهه بلا شارب، مليئا بالتجاعيد. أنصتت لصوته وهو يتكلم، فبدا لها أجش ولو أنه أنثوي، لكنه كان يدخن، ويتناول طعامه بصحبة الرجال، ويحمل بندقية.
سألت لوتار زميلتها في تقديم الطعام: «أهذا رجل؟» هزت المرأة رأسها معربة عن عدم رغبتها في الكلام؛ حيث يمكن للرجال سماعهما، لكن الفتيات اللائي سمعن سؤالها لم يكن حريصات قط؛ أخذن يقلدن لوتار: «أهذا رجل؟ أهذا رجل؟ أوه، لوتار، يا لك من ساذجة! ألا تميزين العذراء عندما ترين واحدة؟»
لم تسألهم عن شيء آخر، لكن في المرة التالية التي وقعت فيها عيناها على القس الفرنسيسكاني، جاءته هرولة لتطرح عليه سؤالها: ما العذراء؟ كان عليها أن تتعقبه؛ لأنه لم يكن يتوقف ويتبادل معها أطراف الحديث كما كانت عادته لما كانت طريحة الفراش في الكوخ. كانت دوما تعمل حين يحضر إلى «الكولا»، ولم يكن بوسعه تمضية وقت طويل مع النسوة على أية حال؛ فقد كان يجالس الرجال. لاحقته عندما رأته يهم بالرحيل بخطواته السريعة على الطريق المحاط بأشجار السماق، متجها نحو الكنيسة الخشبية العارية، وصولا إلى البيت المتاخم للكنيسة حيث كان يقيم.
قال: إنها كانت امرأة، ولكنها امرأة صارت كالرجال؛ فهي لم ترد أن تتزوج، وقطعت على نفسها عهدا على مرأى ومسمع من الناس بأنها لن تتزوج أبدا، ثم ارتدت ثياب الرجال، وأصبحت لديها بندقيتها الخاصة. بإمكانها اقتناء حصان إن استطاعت، وهي تعيش كيفما يحلو لها. كانت فقيرة عادة، ولم تكن هناك نساء يعملن لديها، لكن أحدا لم يكن يضايقها، وصار بإمكانها مشاركة الرجال الطعام على «السفرة».
لم تعد لوتار تتحدث مع القس بشأن الذهاب إلى سكودرا؛ فقد استوعبت أن المسافة التي تفصلها عنها لا بد أنها طويلة جدا. كانت أحيانا تسأله عما إذا كان سمع خبرا يعنيها، وما إذا كان أحد بصدد البحث عنها، فيجيبها بتجهم أن لا أحد فعل. وكلما فكرت كيف كانت تتصرف خلال الأسابيع الأولى التي عاشتها هنا - تملي على الآخرين الأوامر، وتتكلم الإنجليزية دون حرج، وتعتقد يقينا أن حالتها الخاصة جديرة بالاهتمام - خالجها شعور بالخزي من ضيق أفقها وقلة استيعابها للأمور. وكلما طال بها الأمد في «الكولا»، برعت أكثر في استخدام لغة قومها، واعتادت على العمل، وبدت لها فكرة الرحيل أمرا مستغربا. يوما ما سيتعين عليها الرحيل، لكن كيف يتسنى لها ذلك الآن؟ كيف ترحل في منتصف موسم جمع التبغ، أو حصاد السماق، أو في خضم التجهيزات للاحتفال بعيد نقل رفات القديس نيكولاس؟
في حقول التبغ، كن يخلعن ستراتهن الضيقة وقمصانهن، ويعملن نصف عاريات تحت أشعة الشمس الحارقة، متخفيات بين صفوف النباتات العالية. كانت عصارة التبغ داكنة وثخينة كدبس السكر، وكانت تسيل على أذرعهن وتلطخ صدورهن. في الغسق، كن يقصدن النهر ويغتسلن، ويخضن في المياه الباردة، فتيات ونساء؛ حيث كانت الواحدة منهن تحاول دفع الأخريات ليفقدن توازنهن، وسمعت لوتار اسمها يتردد بنبرات تحذير وانتصار دون احتقار، شأنه شأن غيره من الأسماء: «لوتار، حذار لوتار!»
أطلعنها على أشياء. قلن لها إن الأطفال يموتون هنا بسبب «ستريجا»، حتى الكبار يصيبهم الوهن ويموتون أحيانا عندما تلقي عليهم ال «ستريجا» تعويذتها. تبدو «ستريجا» وكأنها امرأة عادية؛ لذا لا يمكن لأحد الجزم بهويتها. إنها تمص الدماء، وإن شئت أن تأسرها، فلا بد من وضع صليب على عتبة الكنيسة في عيد الفصح عندما يكون الجميع بالداخل؛ حينئذ، سيتعذر على المرأة التي هي ال «ستريجا» الخروج، أو من الممكن تعقب المرأة المشتبه بها لتراها وهي تستفرغ دما. وإذا استطعت أن تأخذ عينة من هذا الدم على عملة فضية، وتحملها في جعبتك، فلن تمسك أي «ستريجا» أبدا بسوء.
Unknown page