فقالت: تذكرت ضياع أخ لي منذ 19 سنة أثناء الحادثة المشئومة التي حدثت في دمشق الشام سنة 1360 ولم أكن أعرف أباك بعد.
فقالت: كيف ذلك يا أماه؟ وهل لم تقفوا على خبره بعد. وأقبلت بكليتها لاستطلاع الخبر.
فقالت والدتها وقد مسحت دموع عينيها: اعلمي يا ابنتي أنني من عائلة معروفة في دمشق، وكان لي أخ غض الشباب، حسن الأحدوثة، شهم شجاع، وكنا عائشين في بسطة ورغد تحت كنف والدينا، حتى كانت سنة 1860، فجرت ثورة في دمشق قام فيها فتيان المسلمين على النصارى، فحصلت مذبحة هائلة عرفت بمذبحة سنة 60، دارت فيها الدائرة على النصارى، وكان خالك في جملة أولئك الفتيان، فخرج صباح يوم في جملة من خرج للقتل والفتك، ولم نعد نراه أو نسمع عنه شيئا. وا حسرتاه! لقد كان وحيد العائلة، فبقيت أنا وحدي مع والدي؛ جديك، وفي السنة التالية للمذبحة، جاء والدك إلى دمشق في مهمة، فتعرف بوالدي وخطبني منهما. ونظرا لما هو فيه من الشهرة والغنى أجاباه، فتزوجني وجاء بي، وللآن لم نعلم خبرا عن خالك.
فلما سمعت فدوى من والدتها هذا الكلام تذكرت ضياع شفيق، ففقدت صوابها ولم تتمالك عن البكاء، ولكنها قالت: إن ضياع خالي قد أحزنني، فكيف تكون حال ذينك الوالدين بعد فقد ولدهما الوحيد؟ ثم أردفت كلامها لئلا تلحظ منها شيئا من الاضطراب: كيف يمكنك التصبر، يا أماه، على بعد والديك كل هذه المدة والمسافة بين مصر وسورية قصيرة لا تحتاج إلى أكثر من بضعة أيام ذهابا وإيابا؟ آه لو نذهب لتمضية بضعة أيام هناك! لأني أميل من كل قلبي إلى مشاهدة جدي اللذين قسم لي الدهر ألا أراهما حتى الآن.
فتأوهت والدتها عن كبد حرى وقالت: أطلب إلى الله أن يستجيب دعوتك وينيلك مرامك.
لندع فدوى ووالدتها يتحدثان، ولنأت إلى عزيز.
الفصل التاسع والعشرون
دليلة وعزيز
ما برح عزيز يزداد هياما بعد تلك الإهانة من بخيت على شارع العباسية، فكأن الإهانة في مثل هذه الأحوال تحمل الإنسان على الانتقام لنفسه، فيستعمل ما لديه من الوسائط السافلة لاستطلاع أسرار خصمه، ويتخذها سلاحا له ليذلله بها، وهكذا فعل عزيز، فذهب إلى المفتش الذي أقامه العرابيون في مصلحة البوسطة لفض الرسائل المرسلة من أعيان البلاد ورجال حكومتها، والرسائل الواردة إليهم؛ استطلاعا لضمائرهم نحوه، وأوصاه سرا إذا عثر على كتاب مرسل إلى بلاد الإنكليز بعنوان كذا أن يطلعه عليه، إلى أن قال: إن عرابي باشا يريد ذلك. وقد كان هذا المفتش من الملكية، ولم يقبل تلك المهمة إلا خوفا من صولة الجهادية إذ ذاك.
وفضلا عن ذلك، فإن عزيزا أقام الأرصاد على فدوى، حتى إذا خرجت من بيتها يسعى إلى اكتسابها بأي طريقة كانت. ولما لم ينل جدوى قصد صديقته دليلة، وعرض لها الأمر وقال: لا بد من نيل هذه الفتاة على أي الطرق؛ فالذين كنت أخشاهم بعيدون عنها الآن، وقد ساعدتني جميع الأحوال، ولم يبق إلا رضاها، فالحوادث العرابية قضت بإبعاد والدي شفيق إلى أجل غير مسمى، وقد سعيت إلى إبعاد والدها إلى الإسكندرية، فظننت أنها تذل بعد هذا وتخاف الجهادية، فاعترضت لها مرة في شارع العباسية فقابلني خصيها بشراسة، وهي لم تفه ببنت شفة، ولا أدري إذا كان سكوتها احتقارا لي أو خوفا من خصيها؛ لئلا يوصل كلامها إلى مسامع والدها.
Unknown page