قال: «ادخل.» وقد ظنه من معسكرهم وبخاصة أن لباسه كلباسهم فمشى مرقس وهو يتأمل المعسكر، فإذا هو مؤلف من عشرات من الخيام بعضها بدوي وبعضها روماني، فجعل يخطر بينها ينظر في حال الجند، فإذا هم من الروم وفيهم بعض البدو، فاستغرب ذلك واختلط بهم وتظاهر أنه واحد منهم كان قد تخلف في الطريق ثم لحق بهم، وما زال سائرا حتى أتى خيمة البطريق، فرأى الحراس محيطين بها بسلاحهم، وكانت فسطاطا كبيرا يتسع لجماعة، فقال: «لأنتظرن إلى الغد لأرى ماذا عسى أن يكون.»
ثم عرج إلى خيمة فيها جمع كبير، فدخل بينهم وتناول الطعام معهم، فظنوه من جندهم ولا عبرة بلونه وملامحه المصرية، فقد كان ذلك الجند خليطا من الروم وأهل حلب وما جاورها، وربما كان فيه بعض المصريين؛ لأن هرقل استنجد المقوقس في أثناء حروبه مع العرب في الشام، فأرسل المقوقس إليه مددا وفيهم بعض القبط.
فبات تلك الليلة وهو يسمع الأحاديث ويحفظها، فاستنتج منهم أن يوقنا في حلف مع العرب، وأن العرب قد أصبحوا على مقربة من هناك.
ولما أقبل الصباح بكر مرقس إلى فسطاط يوقنا، فإذا بالحراس وقوف عند بابه ويوقنا جالس في صدره وعليه رداء غير رداء الرومان، فتأمل الرداء فإذا هو يقرب شكله من الملابس التي جلبها معه، ولكنها أحسن حالا، وفوق الرداء جبة، وعلى رأسه عمامة، وسمع الناس إذا ذكروه سموه بغير اسمه الأصلي، فرجح لديه أن الرجل قد اعتنق الإسلام، أو هو في خدمة المسلمين، وأيد ظنه هذا خلو المعسكر من شعائر النصرانية، وأهمها الصلبان التي كان الروم يتخذونها شعارا لهم في الحروب، فيحملونها مع الأعلام في مقدمة الجند، فإذا عسكروا نصبوها بجانب الأعلام.
ثم تحول عن الخيمة وجعل يطوف المعسكر يتفقد حاله لعله يقف على شيء من أمر العرب، فوصل إلى أطراف الخيام فشاهد رجلا جالسا على ربوة بالقرب من المعسكر ينكت الأرض بعصا بيده كأنه يفكر في أمر أقلقه، وقد قبض في إحدى يديه على شيء يشبه الرق، فوقف مرقس عن بعد يتأمل في حركاته وسكناته، فإذا بالرجل في لباس جند يوقنا، ينكت الأرض تارة وينظر إلى ذلك الرق طورا، وهو يحاذر أن يراه أحد، ثم التفت إلى جهة المعسكر فرأى مرقس فعجل بإخفاء الرق وتظاهر بأمر يتشاغل به.
وأمعن مرقس النظر في وجهه فإذا هو ليس رومانيا ولا مصريا، فعجب لأمره، وأراد الدنو منه لعله يقف على خبر جديد فخاف أن تحول جرأته هذه بينه وبين ما يريد، فتجاهل وتحول عن المكان، ودخل المعسكر على أن يغتنم فرصة أخرى ليجتمع به ويستطلعه حاله، وما برح يراقبه حتى رجع إلى المعسكر في المساء واختلط بالجند، فلما أمسى المساء التقى به في بعض الخيام يتناول العشاء مع الجند، فتأمل وجهه فتذكر أنه يعرفه، ولكنه لم يذكر أين شاهده، ولا ما اسمه، فبقي صامتا ينظر إليه تارة ويتشاغل عنه تارة أخرى لئلا يلحظ منه ذلك، ثم رآه ينظر إليه كأنه يريد التعرف به، فتجاهل مرقس هذه النظرة خيفة انكشاف أمره ولكنه كان كثير التشوق إلى معرفة حاله وما هو قادم من أجله، فلبث ريثما مضى وقت العشاء، وأخذ الناس يتفرقون، فإذا بذلك الغريب قد خرج من تلك الخيمة ومشى إلى خيمة من خيام العرب ودخلها وجلس إلى بعض من فيها وجعل يكلمهم بلسانهم، فعجب مرقس لمعرفته اللغة العربية فضلا عن اليونانية، وازداد تشوقا لمعرفة حكايته، ولم يعلم كيف يبادئه الكلام، فصبر ينتظر الليل فقال في نفسه: «لننتظر إلى صباح الغد.» ثم ذهب إلى منامه.
الفصل السابع
عمرو بن العاص
وكان اليوم التالي، فاستيقظ مرقس على ضوضاء الجند، ونهض مذعورا، وإذا به يراهم قد تجهزوا وخرجوا من المعسكر ينظرون إلى جهة الصحراء، ثم رأى غبارا يتصاعد والناس يتطاولون بأعناقهم، وقد علا ضجيجهم، وفي مقدمتهم «يوقنا» يجر حسامه وراءه تيها، وقد أحاطت به حاشيته، وكلهم ينظر إلى جهة الغبار، فسأل مرقس عن ذلك، فقيل له: «إن العرب قادمون.» فأظهر أنه عالم بقدومهم لئلا يسيئوا الظن به، ثم علم أن القادمين هم جند عمرو بن العاص القادم لفتح مصر فلبث واقفا في جملة الواقفين، وقد نسي رجل الأمس، على أنه حاول أن يراه فيمن حوله من الناس، فلما لم يره عول على أن يستطلع مكانه بعد ذلك.
ونظر إلى موكب البطريق يوقنا فإذا هو مؤلف من حاشيته، وكلهم في اللباس الروماني إلا هو، فقد لبس العمامة وتقلد الحسام، وسمع الناس ينادونه باسم عبد الله، فتحقق لديه إذ ذاك أنه اعتنق الإسلام لا محالة، وبخاصة لما رآه مستبشرا بقدوم جيش العرب.
Unknown page