واستمر الحصار وأركاديوس لا يدري ما الذي يصيبه من عواقب تلك الحرب، فإن كانت الغلبة للروم، وهذا ما يتمناه قلبه، خاف أن ينتقم الروم من المقوقس، فيفتكوا به وبأهله، فيصيب أرمانوسة سوء لا يستطيع دفعه، وإذا كانت الغلبة للعرب وتصور دخولهم الإسكندرية واستيلاءهم على قصورها وخزائنها وأسواقها وخيراتها اسودت الدنيا في عينيه، ولكنه كان يرى من خلال تلك الظلمات سلامة أرمانوسة تشرق كالقبس في الديجور، فلبث ينتظر ما يجيء به القضاء.
وطال الحصار أشهرا، ومل العرب الانتظار فأجمعوا على الهجوم وتسلق الأسوار، وجاء من أبلغ أرمانوسة الخبر فخافت على أركاديوس، فأرسلت من جاءها بمرقس فقالت له: «هل أتاك خبر العرب؟»
قال: «قد علمت، ثم ماذا؟»
قالت: «ماذا علينا أن نعمل وأركاديوس في المدينة في خطر القتل؟»
قال: «أيحتاج مرقس إلى تنبيه وقد وقف حياته وسخر عواطفه وقواه وجوارحه لخدمتك؟! إني محتاط محاذر، فألقي عنك القلق واتكلي على الله.» ثم ودعها وقصد إلى معسكر العرب وتفهم خططهم، فعلم أنهم مهاجمون المدينة في الصباح الباكر من جانبها الغربي، ففتقت له وسيلة ينقذ بها أركاديوس من الخطر، فذهب إلى الإسكندرية على عادته، ووقع ذلك في عيد مريم العذراء، فلقيه أركاديوس وسأله: «ما خبرك؟»
قال: «كانت سيدتي قد نذرت يوم حصار الحصن أن تجعلك توقد شموعا للعذراء مريم بيدك لكي ينقذك الله من الخطر فنجوت، وشغلتم بالأسفار والنذر باق لم يوف، وقد رأت سيدتي بالأمس مريم العذراء كما يرى النائم، فعتبت عليها هذا الإهمال، فأفاقت مذعورة للإخلاف في وفاء النذر وأنت في خطر، ولما كانت ذكرى سيدتنا مريم تقع غدا فأستحلفك بمحبتها أن تأتي معي إلى كنيسة العذراء في الصباح لتفي بالنذر.»
قال: «وأين الكنيسة؟ وكيف أفارق حصني؟»
قال: «أما الكنيسة ففي طرف المدينة بالقرب من الرابية التي كانت المكتبة عليها قبل احتراقها، فلنذهب معا، ونعود قبل الضحى، أما حصنك فقد مضى أشهر والعرب ساكنون لا يبدون حراكا، فهل يتفق أن يهجموا اليوم وأنت غائب؟ فهب أنك لا تزال نائما.» فأذعن أركاديوس. وفي فجر الغد أيقظه مرقس واخترقا المدينة حتى انتهيا إلى كنيسة العذراء، فقرع مرقس الباب وطلب القسيس، فاستغرب هذا لأن الكنيسة للأقباط اليعاقبة، والذين أرسلوا يدعونه من الروم الملكيين، ففتح الباب بمفتاح ضخم ويداه ترتجفان ضعفا وخوفا، ودخلا من باب ضيق، فكلمه مرقس بالقبطية وطمأنه، فرحب بهما، فأفهمه مرقس أنهما آتيان لوفاء نذر للعذراء والصلاة وإضاءة الشموع، وأوعز إليه أن يطيل الصلاة إجابة لرغبة الطالب، فوقفا وأركاديوس قلق على معقله، وخاف أن يراه أحد من الروم هناك فيشي به إلى البطريق، وكان مرقس يحتال في أثناء الصلاة فيخرج من الكنيسة ويتسلق الأكمة فوق أنقاض المكتبة فيشرف على الأسوار، فعلم من حركات الجند هناك أن العرب قد هاجموا المدينة باكرا جدا، ولم يأذن بانتهاء القداس حتى انقضى الهجوم ورجع العرب عن الأسوار، فما كاد القسيس يفرغ من صلاته حتى خرج أركاديوس مسرعا يلتمس السور، وكان الوقت ضحى، ومرقس معه فما وصلا إلى الطرق العامة حتى رأيا الناس في هرج يهرعون إلى قصر الحكومة فبغت أركاديوس واستفهم، فأخبروه الخبر، فأسرع يلتمس معقله، ومرقس في أثره فمرا بدار البطريق فرأيا الناس يتزاحمون بالمناكب رجالا ونساء كأنهم يتطلعون إلى شيء غريب هناك، فسأل مرقس عن السبب فعلم أن ثلاثة من العرب دخلوا المدينة فقبضوا عليهم وسيقوا إلى الحاكم.
فقال أركاديوس: «وهل دخل العرب الإسكندرية؟»
قالوا: «كلا، ولكن هؤلاء الثلاثة دخلوها من ثغرة في السور، ثم أقفلت الثغرة فظلوا أسرى، وتقهقر رفاقهم وانتهى الهجوم.» •••
Unknown page