فقالت بربارة: «ما الخبر؟» فقال: «رأيت سفنا قادمة من الحصن.» فأطلت أرمانوسة من شرفة القصر، وأطل أركاديوس، فإذا السفن سفنهم، وفيها بعض رجالهم، فاختلج قلبه في صدره، وما لبث أن جاء قارب عليه بضعة من رجال المقوقس.
فاستقدمتهم بربارة إلى القصر، فصعدوا وهم يتأففون، وعلى وجوههم ملامح البغتة والخوف. فتقدمت أرمانوسة وكلمتهم وأركاديوس منزو يسمع، فقالت لهم: «ما وراءكم؟» فتقدم أحدهم وقال: «إن المقوقس بعثنا إليك لتكوني على أهبة السفر إذا اقتضت الحال.»
فوقف أركاديوس مذهولا، ولكنه لم يتكلم، فقالت أرمانوسة: «وما الداعي لهذا التأهب؟» قال: «لأن العرب دخلوا الحصن في هذا الصباح على حين غفلة، وخرج سيدي المقوقس ومن بقي من الجند إلى جزيرة الروضة على الجسر الذي كانوا قد نزعوه، فأعادوه ومروا عليه، ونحن نتوقع أن يتعقبهم العرب ويضطروهم إلى المجيء إلى هنا.»
فلما سمع أركاديوس بسقوط الحصن ترقرقت الدموع في عينيه، فتوارى وراء حائط الشرفة لئلا يلحظ أحد منه ذلك، وجعل يحرق أسنانه ويتأوه. أما أرمانوسة فرأته بهذه الحال، ولم يكن سقوط الحصن شيئا غير متوقع عندها، ولكنها تظاهرت بالاستغراب أمام أركاديوس لكي تنطلي الحيلة عليه، فلما رأته على هذه الحال تركت الجندي يتكلم مع بربارة، ودنت منه على الشرفة بحيث لا يراها أحد، وأمسكت بيده فإذا بدموعه تتساقط على خديه وهو لا يبدي حراكا، فقالت له: «أأركاديوس يبكي؟! لقد صدق القائل: «لا تذكر الحزن إلا إذا رأيت دموع الأبطال!» مالك يا حبيبي؟» فلم يجب لأن العبرات خنقته، فقالت: «ما بالك لا تجيب؟» فحرق أسنانه وتنهد، وهو يتميز غيظا، ولم يجب، فأمسكت بيده فإذا هي باردة ترتجف، وأراد جذبها منها فضغطت عليها وقالت: «لماذا لا تجيب يا أركاديوس؟»
فالتفت إليها والدمع ملء عينيه وقال: «كيف لا أبكي يا أرمانوسة وقد خرج الحصن من أيدينا، وأنا محبوس هنا لا أستطيع حراكا؟ ومن الغريب أن هؤلاء الرعاة لم يفعلوا ما فعلوه إلا وأركاديوس بعيد عنهم. ولكن آه يا أرمانوسة! آه من الحب! ما أعظم سلطانه، إن الحب وحده كان سبب سقوط هذا الحصن، فقد كان في وسعي ملاقاة الشر قبل وقوعه، ولكن حبي لأرمانوسة حملني على التجاهل، فالعرب لم يغلبونا، ولكنها خيانة أنا شريك فيها على غير قصد، والحب يعمي ويصم. آه منه!»
فأدركت أرمانوسة مراده، فعمدت إلى مغالطته لئلا يزداد غضبه فقالت: «اجلس يا حبيبي ريثما نسأل هذا الرسول عن كيفية سقوط الحصن لعلنا نكشف أمرا جديدا.»
قال: «وماذا عسى أن تكشفي؟! فقد كشفت الحقيقة، وعرفت سر الأمر، فهل أستطيع بعد هذا كله أن أواجه أبي وأنا لا أدري ما يكون ظنه في، ألا يعدني شريكا في الخيانة؟» قال ذلك وهو يحاذر أن يسمعه الرسول أو يعلم به، وقد شاقه أن يعرف كيف سقط الحصن، فقال لأرمانوسة: «اسأليه عن الحصن كيف سقط؟»
فعادت إلى الجندي، وكان في انتظارها مع بربارة، فقالت: «احك لنا كيف دخل العرب الحصن؟» فقال: «لا نعلم كيف دخلوه، ولكننا أصبحنا فإذا هم يتسلقون الأسوار، وكان سيدي المقوقس قد أمرنا بالخروج إلى جزيرة الروضة فعبرنا على الجسر وأقمنا هناك.»
فقالت: «ألم تدفعوا العرب عند دخولهم؟» قال: «فعلنا، ولكن جند الروم دافعوا قليلا، ولم يترك العرب لنا فرصة للدفاع.»
فقالت: «هل جاء أبي إلى جزيرة الروضة؟»
Unknown page