قالتا إنها ربما تعاني الآن من انهيار عصبي آخر، وهو في طريقه للخروج من المدينة. أعربتا عن سعادتهما للتخلص من الاثنين. •••
لدي صورة التقطت لطاقم العمل بالحظيرة عشية عيد الميلاد. التقطت الصورة باستخدام آلة تصوير وميضية كانت أحد مظاهر بذخ أحدهم في عيد الميلاد. أعتقد أنها كانت ملكا لأيرين. لا بد أن هيرب آبوت هو من التقط الصورة؛ فهو الشخص الذي يمكن الوثوق به في معرفة أو تعلم كيفية تشغيل أي جهاز جديد فورا، وآلات التصوير الوميضية كانت حديثة إلى حد ما في ذلك الوقت. التقطت الصورة نحو الساعة العاشرة عشية عيد الميلاد، بعد أن عاد هيرب ومورجي من توصيل آخر طلب، وكنا قد نظفنا منضدة استخراج الأحشاء وكنسنا ومسحنا الأرضية الإسمنتية. خلعنا أثوابنا الملطخة بالدماء وستراتنا الثقيلة ودخلنا الغرفة الصغيرة المسماة بغرفة الغداء، حيث كان بها منضدة ومدفأة. كنا لا نزال نرتدي ثياب العمل: الأردية السروالية والقمصان. ارتدى الرجال قبعات والنساء أوشحة مربوطة على النحو نفسه الذي ترتدى به وقت الحرب. أبدو في الصورة ممتلئة بعض الشيء ومبتهجة واجتماعية، وكأني تحولت إلى شخصية لا أذكر أنني كنت عليها أو أنني تظاهرت بها. أبدو أكبر سنا بكثير من الرابعة عشرة. أيرين الوحيدة التي خلعت وشاحها، لينسدل شعرها الأحمر الطويل. تظهر في الصورة بمظهر مغر داعر مهادن، وهو ما قد يتناسب مع سمعتها، وإن كان لا يشبه أي مظهر أذكره لها. لا بد أن آلة التصوير كانت تخصها؛ فقد تعمدت اتخاذ وضعية خاصة من أجل الصورة أكثر من أي شخص آخر. كانت مارجوري وليلي تبتسمان، كعادتهما، لكن كانت ابتسامتهما باهتة. بدتا - بشعرهما المستتر وجسديهما المتدثرين - أشبه بعاملين صارمين مرحين، لكن سريعا الغضب. لم يكن وشاحاهما مناسبين؛ ربما كانت القبعات مناسبة لهما أكثر. يبدو هنري منشرح الصدر، سعيدا لكونه جزءا من فريق العمل، يبتسم ابتسامة عريضة ويبدو أصغر من سنه بعشرين عاما. وهذا مورجي، يطل من الصورة بنظرة بؤس، غير مؤمن بسخاء تلك المناسبة، بينما مورجان متورد الوجه تبدو عليه أمارات السيطرة والشعور بالرضى. كان قد كافأ كلا منا للتو بديك حبش. كانت جميع الديوك تفتقر إلى ساق أو جناح، أو كانت مشوهة بشكل من الأشكال؛ ومن ثم لم يكن يستطيع بيعها بالسعر المتعارف عليه. لكن مورجان حاول جاهدا إقناعنا بأننا نحصل غالبا على أفضل اللحم من الديوك المشوهة، وأرانا أنه أخذ واحدا منها إلى بيته.
جميعنا نمسك أكوابا أو فناجين خزفية كبيرة، لا تحتوي على الشاي كالعادة، بل على ويسكي الجاودار. كان مورجان وهنري يحتسيان الويسكي منذ العشاء. قالت مارجوري وليلي إنهما لا تريدان سوى القليل، وإنهما تحتسيانه فقط لأن اليوم هو عشية عيد الميلاد، وإنهما متعبتان للغاية. قالت أيرين إنها متعبة أيضا، ولكن هذا لا يعني أنها تريد القليل. لم يصب هيرب بسخاء لها فقط، بل لمارجوري وليلي كذلك، ولم تعترضا. صب الويسكي في كوبي وكوب مورجي في نفس الوقت بشح شديد، وأضاف إليهما الكوكاكولا. كان هذا أول شراب أحتسيه في حياتي، ولذلك سأعتقد لسنوات أن الجاودار والكوكاكولا هو المشروب التقليدي الذي سوف أطلبه دوما، إلى أن ألاحظ أن قلة من الأشخاص هم الذين يحتسونه، وأنه يشعرني بالغثيان، مع أني لم أشعر بالغثيان في تلك الليلة؛ إذ لم يعطني هيرب الكثير. وباستثناء المذاق الغريب، وشعوري الخاص بما سيلي من تبعات، كان الأمر أشبه بشرب الكوكاكولا.
لا أحتاج إلى ظهور هيرب في الصورة كي أتذكر شكله، أقصد أنه لم يتغير شكله عما كان عليه طوال الوقت في الحظيرة وفي المرات القليلة التي رأيته فيها في الشارع، باستثناء مرة واحدة.
المرة الوحيدة التي بدا فيها مختلفا إلى حد ما عما كان عليه عندما كان مورجان يكيل السباب لبراين، وعندما فر براين على الطريق لاحقا. كيف بدت تلك النظرة المختلفة؟ حاولت أن أتذكر لأني تأملتها بإمعان في ذلك الوقت. لم يكن مظهره مختلفا كثيرا؛ إذ بدا وجهه آنذاك أكثر تأثرا وعبوسا، ولو كان علي وصف التعبير المرتسم عليه فسأقول إنه تعبير الخزي. لكن ما الذي يمكن أن يشعره بالخزي؟ أيشعر بالخزي من براين بسبب تصرفاته؟ بالتأكيد كان الأوان قد تأخر على حدوث ذلك؛ فمنذ متى وبراين يتصرف على نحو مختلف؟ أيشعر بالخزي من مورجان لانفعاله بحدة وتكلف هكذا؟ أم يشعر بالخزي من نفسه لأنه كان معروفا بقدرته على حل النزاعات والمشاجرات من هذا النوع في مهدها ولم يستطع فعل ذلك هنا؟ هل يشعر بالخزي لأنه لم يدافع عن براين؟ هل توقع من نفسه فعل هذا؛ أعني الدفاع عن براين؟
هذا ما فكرت فيه آنذاك. فيما بعد، عندما عرفت أكثر - على الأقل عن الجنس - فكرت في أن براين كان عشيق هيرب، وأن جلاديس كانت تحاول فعلا جذب انتباه هيرب، ولهذا السبب أهانها براين؛ سواء بتشجيع هيرب وموافقته أو دونهما. أليس صحيحا أن الأشخاص المتحفظين الذين يبدو عليهم الوقار والهيبة - أمثال هيرب - يختارون دوما شخصا مثل براين، ويهدرون حبهم البائس على شخص أبله وفاسد أخلاقيا لا يتصف حتى بالشر أو الوحشية، لكنه مجرد مصدر إزعاج دائم؟ فكرت في أن هيرب، بكل رقته وحذره، كان ينتقم لنفسه منا جميعا - ليس فقط من جلاديس ولكن منا جميعا - عن طريق براين، وأن ما كان يشعر به عندما تأملت وجهه لا بد وأنه كان ازدراء فظا مشوبا بالنشوة. كان شعورا بالحرج أيضا؛ الحرج لبراين ولنفسه ولجلاديس، ولنا جميعا إلى حد ما؛ إحساس بالخزي لنا جميعا؛ هذا ما فكرت فيه وقتذاك.
رغم هذا، تراجعت عن هذا التفسير فيما بعد. لقد وصلت إلى مرحلة من التراجع عن الأشياء التي لم أستطع معرفة حقيقتها. يكفيني الآن أن أفكر في وجه هيرب بهذا المظهر الغريب المغموم، وأن أفكر في عبث براين في ظل الوقار الذي كان يميز هيرب، وأن أفكر في تركيزي الذي يشوبه الغموض على هيرب، واحتياجي إلى الإمساك به متلبسا لو أتيحت لي الفرصة، ثم التسلل إليه والبقاء قريبة منه. كم هي جذابة ومبهجة فكرة الارتباط الحميمي بشخص لن يقبل أبدا على عرضها! ما زلت أستطيع الإحساس بجاذبية رجل كهذا، بجاذبية وعده بالمستقبل السعيد ورفضه لي. ما زلت أرغب في فهم الأمور دون اكتراث بالحقائق ولا بالنظريات.
عندما أنهيت شرابي أردت أن أقول شيئا لهيرب. وقفت إلى جواره وانتظرت لحظة لا ينصت فيها هيرب لأحد أو يتحدث مع أحد، ويكون فيها حديث الآخرين على درجة من الصخب لا يسمع معه ما سأقول. «آسفة لاضطرار صديقك إلى الرحيل.» «لا بأس.»
تحدث هيرب بنبرة ودودة لاهية؛ وهكذا لم يعطني أي فرصة للاهتمام بحياته أو الحديث عنها. كان يعلم ما أفكر فيه. لا بد وأنه اختبر ذلك مسبقا مع كثير من النساء. كان يعرف كيف يتعامل مع الأمر.
صبت ليلي لنفسها المزيد من الويسكي، وأخبرتنا كيف تنكرت هي وأعز صديقاتها (التي ماتت الآن بسبب مرض في الكبد) في زي رجال ذات مرة ودخلتا الركن المخصص للرجال في الحانة؛ ذلك الركن المكتوب فوقه «للرجال فقط» لأنهما أرادتا معرفة ما يحدث هناك. جلستا في أحد الأركان تحتسيان البيرة بأعين وآذان منتبهة، دون أن يشك أحد في أمرهما، لكن سرعان ما ظهرت مشكلة. «إلى أين سنذهب؟ لو ذهبنا إلى الركن الآخر الخاص بالسيدات، ورآنا أي أحد ونحن نتجه إلى هناك، فسيصرخ فينا. ولو ظللنا في ركن الرجال فسيلاحظ أحدهم أننا لا نتصرف كالرجال. وفي نفس الوقت كان مفعول البيرة اللعينة يسري فينا!»
Unknown page