كان أحمر شفاه أيريس، وشعرها الممشط اللامع، وفستانها الملون، ودبوسها المزخرف الضخم، ونبرة صوتها وحديثها؛ كل ذلك كان جزءا من سياسة ليست بالسيئة: كانت تحب التنقل، والضوضاء، والتغيير، والبهرجة، والمرح الصاخب، والشجاعة. أمر ممتع. كانت ترى أن الآخرين يجب أن يحبوا هذه الأشياء أيضا، وحكت لي عن جهودها خلال رحلتها. «أنا من يبدأ المرح. البعض يشعر بالحزن خلال الرحلة، أو يصابون بعسر الهضم، فيتحدثون عن الإمساك. ودائما أحاول إبعاد أذهانهم عن ذلك. يمكنني أن ألقي بدعابة، أو أن أصدح بالغناء. كل صباح أستطيع فعليا أن أسمعهم يقولون: يا ترى، ما الأمر المجنون الذي ستفعله سليلة تشادلي اليوم؟»
قالت إنه ما من شيء ينغص عليها حياتها. وحكت لي عن رحلات أخرى. عن أيرلندا. خافت الأخريات من النزول لتقبيل حجر بلارني ، ولكنها قالت: «لقد قطعت كل هذه المسافة لأقبل هذا الشيء اللعين!» وهذا ما فعلته، بينما أمسك رجل أيرلندي ملحد بكاحليها.
شربنا وأكلنا، ثم جاء الأطفال فأثنت عليهم، وجاء ريتشارد وذهب، ولم ينغص شيء عليها أمسيتها. كانت محقة في هذا؛ لم يوقفها شيء عن سرد حكاياتها عن نفسها، وكان كم الوقت الذي قضته بلا كلام محدودا. حكت لي مجددا عن الحقيبة القماشية وعن أرملة المليونير. وأخبرتني عن الممثل الفاجر. كم حديث انطلقت فيه بهذا الشكل - تضحك وتلح وتنتقل من حكاية إلى أخرى وتعود بذاكرتها إلى الوراء. تساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كانت ستصف هذه الأمسية بالممتعة. بالتأكيد ستصفها؛ البيت والسجاجيد والأطباق وكل ما يوحي بالمال الوفير. قد لا يهمها أن ريتشارد قد تعامل معها بازدراء. ربما سيكون من الأفضل في رأيها أن يزدريها قريب ثري عن أن يرحب بها قريب فقير. ولكن هل كانت دائما على هذه الحال: دائما متهورة وطماعة وخائفة، لطيفة وربما حتى مثيرة للإعجاب، ولكنها تظل مع هذا شخصا تتمنى ألا تضطرك الظروف إلى الجلوس بجواره لمدة طويلة في حافلة أو حفل؟ لم أكن صادقة حين قلت: إنني تمنيت أن أقابلها في مكان آخر، وإنني تمنيت أن أقدرها حق قدرها، حين أشرت إلى أن أحكام ريتشارد هي العائق الوحيد. ربما كان بوسعي أن أقدرها أكثر، ولكني لم أستطع أن أبقى معها وقتا أطول.
كان من الضروري لي أن أتساءل عما إذا كان هذا هو كل ما وصل إليه الأمر، عن الابتهاج الذي أتذكره، الابتهاج والكرم، والانغماس في الشئون الدنيوية. سيكون من الأفضل أن أفكر في أن الزمن قد أفسد شيئا كان جميلا وأفقده قيمته، أو أن الصعاب قد غيرت كلتينا، دون أن يكون هذا التغيير للأفضل. قد تكون الأماكن والأشخاص القاسية هي ما جعلتنا قاسيتين في الأفعال والآراء؛ فقد كنت أحب في الماضي النظر إلى إعلانات المجلات التي تعرض نساء يرتدين الفساتين الشيفون، ومن فوقها الكابات فوق أكتافهن والرداءات الملفوفة حول خصورهن دون تثبيت، وهن يتكئن بمرافقهن على حاجز السفينة، أو يشربن الشاي بجوار نبتة موضوعة في أصيص. وكنت معتادة على فهم حياة الأناقة ورقة الشعور بفضلهن. فكن نافذتي على العالم، بينما كانت قريباتنا نافذة أخرى. في حقيقة الأمر كانت فساتين قريباتنا المكسوة بالأزهار تذكرني بهن، رغم أنهن كن أكثر امتلاء، وغير جميلات. حسنا، الآن وأنا أفكر في الأمر، ما الذي كانت هؤلاء السيدات في المجلات يتحدثن عنه، ويظهر في بالونات الحوار فوق رءوسهن؟ كن يناقشن مزيلات رائحة العرق، أو يشدن بحسن حظهن لأنهن ما عدن يصبن بالحكة لأنهن أصبحن يستخدمن فوط كوتيكس الصحية.
استعادت أيريس السيطرة على نفسها - أخيرا - وسألتني عن موعد آخر حافلة. كان ريتشارد قد اختفى مجددا، ولكني قلت لها إنني سأعيدها إلى فندقها في سيارة أجرة. إلا أنها رفضت وقالت إنها ستستمتع حقا برحلة الحافلة؛ لأنها دائما ما تنخرط في حوار مع أحد الركاب. جلبت جدول الحافلات ثم أوصلتها إلى المحطة. قالت إنها تأمل ألا تكون قد أرهقتني وريتشارد بحديثها، وسألتني عما إذا كان ريتشارد يتسم بالخجل. قالت لي إن بيتي جميل، وأسرتي لطيفة؛ مما جعلها تشعر بالسعادة لنجاحي في حياتي. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تضمني إلى صدرها لتودعني.
قال ريتشارد وهو يدخل إلى غرفة المعيشة بينما كنت أجمع فناجين القهوة: «يا لها من عجوز مثيرة للشفقة!» تبعني إلى المطبخ، مسترجعا أمورا قالتها - أمورا ادعتها - معظمها للتباهي. أشار إلى أخطائها النحوية، وإلى ما كان سيعتبر تنويعا مهذبا. تظاهر بالشك. ربما شعر بهذا حقا، وربما يكون قد ظن أنه سيكون من الأنسب أن يبدأ الهجوم فورا، قبل أن أوبخه على مغادرته الغرفة، وتصرفه بوقاحة، وعدم عرض توصيلها إلى الفندق.
كان لم يزل يتحدث في اللحظة التي ألقيت فيها طبق البيركس تجاه رأسه. كانت به قطعة من فطيرة مرينج الليمون. لم يصبه الطبق، واصطدم بالثلاجة، ولكن الفطيرة طارت وطالت جانب وجهه تماما مثل الأفلام القديمة أو برنامج «أحب لوسي». ظهرت على وجهه نفس أمارات الذهول التي تظهر في الأفلام، بالإضافة إلى البراءة المفاجئة، من جانبه . توقف عن الكلام، فاغرا فاه. أنا أيضا انتابني الذهول؛ لأن ما يعتبره الناس دائما مضحكا في مثل هذه المواقف يصبح حكما صادما للغاية في الحياة الواقعية.
جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
Unknown page