فأثر قولها في نفسه وقال: «بل أرجو ألا تستأنفوا البكاء يا أماه.» وترك الصندوق عندها، وحول شكيمة جواده ومضى. ولم يسر إلا قليلا حتى انتبه لنفسه ورأى أنه سيق إلى ذلك الرحيل خجلا من أمه بينما قلبه لا يطاوعه على ترك مرو قبل مشاهدة دنانير واستطلاع حال ميمونة، ونقم على سلمان لأنه لم يبسط خبرها في كتابه. وما زال سائرا في أسواق مرو والجواد دليله حتى خرج من المدينة، فلما صار خارجها أخذ يعلل نفسه بملاقاة أهل بيت المأمون قادمين بقافلتهم في طريقه.
وقضى في ذلك أياما، وكلما رأى قافلة أو جماعة أو فارسا ظن أهل بيت المأمون قادمين، حتى صار على بضع مراحل من مدينة الري حيث يقيم عسكر طاهر بن الحسين.
وأصبح ذات يوم فرأى قافلة عرف عن بعد أنها تحمل نساء من أهل البيوتات، لما فيها من الهوادج وأحمال الثياب والخيام، وما في خدمتها من الغلمان والعبيد، فدنا منها وسأل مقدمها فأخبره أنها تحمل بعض أهل المأمون. فطلب مشاهدة دنانير فأخذوه إليها. فلما رأته أمرت القوم بإناخة الأحمال قليلا فأناخوها، وقصت على بهزاد خبر ميمونة كما وقع منذ جاءها الشاكري إلى أن عادت هي وزينب من عند الأمين دونها. فقال «وماذا جرى لها بعد ذاك؟» فقالت: «لا بأس عليها في بيت الخليفة، فقد وعد مولاتي أم حبيبة بألا يمسها ضر، وسلمان خادمك حريص على راحتها.» فقال: «وهل تعلمين أين سلمان؟»
قالت: «لا أدري من أمر هذا الرجل شيئا؛ فهو يغيب أشهرا ثم يظهر بغتة، وقد رأيته قبل سفرنا وأوصاني بأن أطمئنك على ميمونة، ولعله كتب إليك فوصل كتابه قبلنا؛ لأن الكتاب يرسل على هجين ونحن نسير بالأحمال والأثقال.»
فقال: «وهل رأيتم جنود الأمين؟»
قالت: «رأيناها ورافقناها في معظم الطريق.»
قال: «وأين هي الآن؟»
قالت: «على عشرة فراسخ من الري، وبلغني أن قائدها ابن ماهان مغرور بقوته معتز بكثرة جنده، وإذا كان ما بلغني صحيحا كان طاهر في خطر.»
قال: «وما ذلك؟»
قالت: «بلغني أن جند ابن ماهان يزيد على خمسين ألف مقاتل، بينما لا يزيد جند طاهر على أربعة آلاف.»
Unknown page