فقال: «ليس عندي شيء من نبيذ قطربل، ولكنني أسقيكما نبيذا مصنوعا من الذوشاب البستاني مع العسل.» وجاءهما بخمر قوية مظهرا الترحيب بهما، بينما هو يستعيذ منهما وهما يضحكان لا يباليان، فلا يسعه إلا أن يشاركهما الضحك.
وفيما هم كذلك سمعوا رجلا ينادي في الطريق: «السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان.» وهي مناداتهم على السمك في ذلك العهد؛ فوثب العيار يقول: «لقد سنحت لنا الفرصة لنكافئك يا معلم سمعان.» ثم تناول حصاة من المخلاة وضعها في المقلاع، وخرج من باب الخمارة وقال: «أسرع والتقط السمك من الأرض.» فعلم سمعان أن العيار سيرمي ذلك البائع المسكين بالمقلاع، فأخذته الشفقة به، وأمسك العيار بيده فأوقفه عن الرمي، ثم تفرس في البائع وهو لا يكاد يراه في العتمة فوجده فقيرا عاري الساقين والذراعين لا يستره غير ثوب خلق وعلى رأسه فوق العمامة طبق من القش ظهر فوقه السمك. فجذب العيار يده من يد الخمار وقال: «دعني أعوضك عن سمكتك سمكتين.»
فقال: «أخاف أن تقتل الرجل، لا حاجة لي بالسمك.»
فضحك العيار وقال: «لا تخف، إني أرمي السمك فقط ولا أمس الرجل ولا طبقه، وسترى!» قال ذلك وأطلق الحجر من المقلاع فأصاب أعلى السمك فقط، فسقط بعضه والرجل ماش لم يشعر. وللعيارين مهارة عظيمة في رمي الحجارة. وكان بيد السماك رغيف فقال العيار للخمار: «وأرمي لك الرغيف إذا شئت.» فوقعت كلمته في أذني البائع فالتفت إليه، وما كاد يراه حتى ذعر ورمى الرغيف إلى الأرض وقال: «هذا هو الرغيف خذه ودعني.» ثم ولى هاربا؛ فأشار العيار للخمار أن يأخذ السمكتين والرغيف، ففعل وهو يعجب من مهارة رميه، ودخل ليشوي السمكتين وهو يدعو الله من قلبه عسى أن ينقذه من هذه الورطة.
وكأن الله استجاب دعاءه، فما عتم أن سمع وقع حوافر دابة عند باب بستانه، فالتفت نحو الباب وعيناه تدمعان ويكاد الدخان يحجب بصره، فرأى رجلا طويل القامة مع انحناء قليل تدل هيئته على السكينة والوقار، وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة الحجم، وقد ارتدى جبة طويلة تحتها ثوب عسلي اللون حوله زنار مشدود، وهو لباس أهل الذمة في ذلك العصر، وقد شك في الزنار دواة من الفضة. وكان وجهه صبوحا مع رقة ونحافة حتى كاد جلده يلصق بالعظم مع بروز الوجنتين، وعيناه سوداوان براقتان تدلان على الذكاء، وأنفه كبير منحن قليلا، وله لحية كثيفة مسترسلة قد دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثين.
ودخل الرجل يتوكأ على عكاز بيمينه وقد تأبط بالأخرى شيئا تحت الجبة، فلما رآه الخمار أدرك أنه من وجهاء الصابئة أو أحد علمائهم، فاستغرب مجيئه إذ ليس للحانات نصيب من زيارة أمثال هذه الطبقة من الناس. وتنحى العيار والجندي للرجل بينما تقدم الخمار وانحنى كأنه يسأله ما يريد، فقال الرجل بصوت خشن هادئ: «أليس هذا خان المعلم سمعان؟»
فسر الخمار لاشتهار اسمه عند كرام القوم وقال: «بلى يا سيدي.»
قال: «وهل في بستانك مكان للاستراحة؟»
قال: «نعم يا مولاي، تفضل.»
ودخل الخمار مهرولا فتبعه الرجل وقال: «إذا سألك مقدم العيارين الليلة عن «الملفان» سعدون فقل له إني في انتظاره هنا.» والملفان رتبة علمية عند السريان تقابل رتبة دكتور أو علامة اليوم.
Unknown page