Amal Wa Yutubiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Genres
وقد اكتشف بلوخ منذ شبابه ثلاثة موضوعات أساسية تجمعت في ظاهريات هيجل وكونت فيما بعد محور فلسفة بلوخ نفسه: (1) الذات، أو الأنا الثورية التي ظهرت في التاريخ العملي والسياسي لأول مرة مع الثورة الفرنسية. (2) الموضوع أو إنتاج مضمون المعرفة تحت تأثير المعرفة العلمية في العلوم الطبيعية، أو بمعنى آخر إنتاج العقل لمضمون المعرفة متأثرا بطبيعة المعرفة العلمية. (3) التاريخ، أي أخذ التاريخ مأخذا جادا مع التأثر بالنزعة التاريخية
36
كما تمثلت عند أصحاب المدرسة التاريخية الذين أحالوا كل شيء إلى تاريخه. وقد رأي بلوخ أن هذه العناصر الثلاثة متمثلة بصورة متوازنة في ظاهريات هيجل، وأنها تستحوذ على اهتمام المفكرين خصوصا في فترات التحول التاريخي وهنا ينشأ هذا السؤال: كيف تفاعل الذات والموضوع في التاريخ بحيث تمخض عنهما التغير الثوري في مرحلة تاريخية معينة؟ وكيف يمكن أن يتفاعلا في المستقبل لإحداث مثل هذا التغيير الثوري؟ وسوف يبين البحث كيف أن مشكلة الذات والموضوع، والوجود الفعلي والماهية، ظلت أهم المشكلات التي دارت حولها فلسفة بلوخ التي حاولت أن تزيل الاغتراب بين الذات والموضوع، وأن تصل بمبادئها اليوتوبية والمقولاتية إلى الماهية الحقيقية في وجود مستقبلي أكمل وأفضل.
إن التوحيد بين هذه العناصر الفلسفية الثلاثة (الذات - الموضوع - التاريخ) بالإضافة إلى اكتشاف وتحليل النزعات والاتجاهات الكامنة في الواقع والتي تنتظر الإرادة الثورية والدراسة الواعية لدفعها نحو الوجود اليوتوبي أو نحو الأمل، هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلت بلوخ الفيلسوف الفينومينولوجي أو الظاهراتي - بالمعنى الهيجلي - للمستقبل الإنساني والاشتراكي، كما جعلت كتابه «مبدأ الأمل» هو «ظاهريات الروح» الجديد في تاريخ الفلسفة المعاصرة. فليس هذا الكتاب في نهاية الأمر سوى رصد دقيق وشامل لمراحل تطور المادة والوعي معا - تبعا لمقولة ال «ليس-بعد» الأساسية - نحو الكل اليوتوبي الذي يتحقق فيه المجتمع الإنساني العادل، ولا حاجة للقول بأن هناك فرقا كبيرا بين ظاهريات ترصد التطور المعرفي نحو الوعي المطلق بالروح، وظاهريات ترصد التطور المادي والإنساني والمعرفي على السواء نحو الكل اليوتوبي أو الأمل اليوتوبي الممكن. (ه) كارل ماركس (1818-1883م)
قال بلوخ في المجلد الثاني عشر من مجلدات الطبعة الكاملة لأعماله: «إن فلسفتي مدينة لأخي شيلنج، ولأبي هيجل ولماركس ابن هذا العالم.»
37
وقد سبق الحديث عن أهم نقطة أثرت عليه من فلسفة شيلنج، وهي التمييز بين الوجود الفعلي والماهية التي تتحقق خلال العملية التاريخية، وكذلك عن مشكلة الذات والموضوع عند هيجل - لا سيما في ظاهريات الروح - حيث رأي بلوخ أن هيجل لم يفصل بينهما من الناحية المعرفية، بل اشترط أن يكون تحرر الموضوع من الاغتراب عن الذات أو الوعي ووحدتهما الميتافيزيقية هي البداية الحقيقية للفلسفة. وإذا كان بلوخ قد أخذ على هيجل كما رأينا فيما سبق: أنه يصبغ العنصر المشترك بينهما بصبغة صوفية ويسميه بالتسمية الغامضة (الروح أو العقل المطلق)، فإن هذه الصبغة الصوفية ربما كانت من أهم أسباب اتجاه بلوخ - العلماني أو الدنيوي - إلى ماركس الدنيوي مثله. فمن الطبيعي لبلوخ الذي لم يتقيد بالروح المطلق أن ترتبط فلسفته بفلسفة ماركس، إذ تحول الاغتراب الهيجلي على يد ماركس إلى برنامج سياسي ثوري، وأصبحت «ظاهريات الروح» - التي أوقفت على قدميها - هي تاريخ الصراع الطبقي، وغدت «هوية الروح» مع ذاتها هي هوية الإنسان العامل المنتج، بل هوية العالم الطبيعي مع نفسه، والعلامة المميزة «للمجتمع الخالي من الطبقات». بذلك تصور ماركس أن الشيوعية في نهاية الصراع والشقاق بين الإنسان والطبيعة، وأن تحقيقها رهن بإرادة الطبقة العاملة التي تعي دورها الثوري ومسئوليتها التاريخية فتحول مسار التاريخ.
ومن الطبيعي أيضا - باعتبار بلوخ فيلسوفا ماركسيا - أن تكون الوقفة عند ماركس أطول، وأن يكون التأثير مباشرا بشكل لا يدع مجالا للشك. والحق أنه يصعب تحديد الجانب أو الجوانب التي أثرت على تفكير بلوخ من فلسفة ماركس، فإذا كان العامل المشترك الذي يجمعهما بوجه خاص هو الفلسفة المادية الجدلية والتوجه الثوري نحو تغيير العالم ونحو المستقبل، فإن هنالك جوانب تفصيلية متعددة تكشف عن الكثير من أبعاد هذا التأثر ويشير إليها هذا البحث في موضعها. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين الماركسيين الحرفيين قد أنكروا أن يكون هناك أي شيء مشترك بين ماركس وبلوخ، كما زعموا وزعم غيرهم أن ماركسية بلوخ هي ماركسية وجودية أو صوفية أو رومانسية ولم يبق فيها شيء من ماركس الحقيقي والعلمي ... إلى آخر هذه الاتهامات التي استندت - فيما استندت إليه - إلى نقد بلوخ للماركسية السوفيتية، وإلى تأكيده للدور اليوتوبي للماركسية، على الرغم من هذا كله فإن وجوه التطابق بين الفيلسوفين الماديين الجدليين أكثر من أن تحصى . ويمكن الاكتفاء في هذا الموضع بجانب واحد لعله أن يكون من أهم الجوانب التي لا يمكن إنكارها بجانب إشارات بلوخ الكثيرة إلى اسم ماركس وأعماله وأفكاره الأساسية في مؤلفاته، ويتعلق هذا الجانب «بأصول» الاغتراب بين الذات والموضوع أو الوعي والطبيعة أو الوجود والماهية.
ربما كانت تحليلات ماركس - في رأس المال ونقد الاقتصاد السياسي - للقيمة وأشكالها المختلفة من أهم الأفكار في رأي «دتليف هورستر»، التي انطلق منها بلوخ وأصبحت من الأفكار المحورية في فلسفته. فمن المعروف عن التحليلات الماركسية أن الإنتاج الرأسمالي قد تطور عن طريق الدورة السلعية التي بدأت على حافة التجمع البشري الفطري أو الطبيعي. وقد بين ماركس - خصوصا في رأس المال، ومن خلال العرض التاريخي لتطور الأشكال المختلفة للقيمة - أن أبسط هذه الأشكال قد ظهر من الناحية العملية مع البدايات الأولى التي تحولت معها منتجات العمل إلى سلع من خلال التبادل العرضي والاتفاقي.
38
Unknown page