كثير من الأمور المتعلقة بهذه الرمزية مذكورة في الفصل الأول من هذا الكتاب. أما الأمر المميز إلى حد كبير، فهو أن لوحة الألوان نفسها فعليا كانت موجودة في كل الحضارات القديمة من أفريقيا إلى آسيا الصغرى، وآسيا، وأوروبا، وشعب المايا وشعب الإنكا في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. وبالنسبة للعمارة الإغريقية والنحت الإغريقي (وقد كان معظم هذه الأعمال ملونا بالمناسبة)، فقد استخدمت الألوان نفسها مرارا وتكرارا، ومرة تلو الأخرى على مدار قرون. وعلى الرغم من العثور على بعض صور الأشخاص الواقعية إلى حد كبير، فلا أحد من الفنانين القدماء (المجهولين في معظمهم) انغمس مطلقا في التعبير التجريدي أو الرومانسي الصرف - أي «روح» أي شيء مثل الحرية والأمل والخير والإلهام - التي أمتعت الكثيرين من فناني العصور الحديثة. وفي واقع الأمر، كانت هذه الزخارف القديمة مهتمة بأمور عملية مثل التناغم مع الطبيعة والآلهة، والتوسل من أجل هطول الأمطار، ووفرة المحاصيل، والنجاة من الأوبئة والأمراض، والحياة بعد الموت. (2) دافينشي وعصر النهضة
دعوني أبدأ قصتي عن المفاهيم الحديثة لتناغم الألوان بالحديث عن ليوناردو دافينشي، الذي كتب ببلاغة وبصيرة فائقة في كتابه «أطروحة عن الرسم». قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي بوقت طويل، أعلن دافينشي أن «الهدف الأول للرسام هو أن يجعل أحد الأجسام المدورة البارزة يبدو مجسما على السطح المستوي للصورة، ومن يتفوق على الآخرين في هذا الصدد يستحق أن يعتبر الأكثر مهارة من الآخرين في مهنته. ونظرا لأن إتقان هذا الفن يأتي من التنسيق الحقيقي والطبيعي للضوء والظل، أو ما يطلق عليه «كياروسكورو» (الضوء والظل)، فإذا ضن الرسام بالظلال عندما تكون ضرورية، فإنه يخطئ في حق نفسه ويجعل عمله وضيعا في عين الخبراء؛ كي يكسب احتفاء لا قيمة له يأتيه من السوقيين والجهلة الذي ينظرون فقط لسطوع وبهجة الألوان الموجودة في الصورة، ولا يهتمون مطلقا بالبروز.»
كان لدى دافينشي أفكار محددة عن الألوان والجمال والتناغم. وبدلا من تفسير وجهات نظره، سأدعه يتحدث بنفسه: «من بين الأجسام المختلفة المتساوية في البياض، والمتساوية في بعدها عن العين، سيبدو الجسم المحاط بأكبر قدر من الظلمة هو الأكثر بياضا، وعلى النقيض، فإن الظل الذي سيبدو أكثر ظلمة هو ذلك المحاط بلون أبيض بالغ السطوع.
من بين الألوان المتساوية في الإتقان، اللون الذي سيبدو أكثر تميزا هو ذلك الذي يرى بالقرب من نقيضه المباشر؛ لون باهت على لون أحمر، أسود على أبيض ... أزرق بالقرب من أصفر، أخضر بالقرب من أحمر؛ لأن كل لون يرى على نحو أكثر تميزا عندما يكون مقابلا لنقيضه، مقارنة بمواجهته لأي لون آخر مشابه له.
إذا أردت تقديم قدر كبير من الظل، فلا بد من فعل ذلك من خلال تباين كبير بينه وبين قدر كبير من الضوء، وإذا أردت تقديم قدر كبير من السطوع، فلا بد من مواجهته بظل قاتم للغاية؛ ولذلك فإن الأصفر الفاتح سيجعل الأحمر يبدو أكثر جمالا عما إذا كان مقابلا للون الأرجواني.
توجد قاعدة أخرى، من خلال مراعاتها - على الرغم من أنك لن تزيد من الجمال الطبيعي للألوان - يمكن بوضع لونين جنبا إلى جنب أن يعطيا مزيدا من التألق أحدهما إلى الآخر. كما هو الحال عند وضع الأخضر بالقرب من الأحمر، في حين أن التأثير سيكون العكس تماما إذا وضعنا الأخضر بالقرب من الأزرق.
يتحقق التناغم والتألق أيضا من خلال التنسيق الحكيم بين الألوان؛ مثل الأزرق مع الأصفر الفاتح أو الأبيض وما شابه ذلك.»
وفيما يخص طريقته في الرسم قال: «بعد الأسود والأبيض، يأتي الأزرق والأصفر، ثم الأخضر والأسمر المصفر أو العنبري، ثم الأرجواني والأحمر. هذه الألوان الثمانية كلها تنتجها الطبيعة. وبهذه الألوان أبدأ خلطات الألوان، الأسود أولا والأبيض، الأسود والأصفر، الأسود والأحمر، ثم الأصفر والأحمر.» ويضيف قائلا: «يزداد جمال الأسود في الظلال، والأبيض في الضوء البالغ القوة، والأزرق والأخضر في الألوان المتوسطة بين الظلمة والسطوع، والأصفر والأحمر في الضوء الأساسي، والذهبي في الانعكاسات، والأحمر الأرجواني في الألوان المتوسطة بين الظلمة والضوء.»
سيطر أسلوب دافينشي في الرسم المعروف باسم أسلوب الضوء والظل (كياروسكورو) على عصر النهضة، وعلى الأجيال التي تلته. لقد فهم الظلال الملونة، والظلال المتداخلة، والظلال الساقطة، وربما توقع ظهور الفن التجريدي عندما كتب: «عند رمي إسفنجة مشربة بألوان مختلفة على حائط، فإنها تترك عليه بعض البقع التي قد تبدو مثل منظر طبيعي. وصحيح أيضا أنه قد ترى مجموعة من التركيبات في تلك البقع وفقا لتوجه العقل الذي يتأمل هذه البقع؛ ومن أمثلة تلك التركيبات: رءوس الرجال، أو حيوانات متعددة، ومعارك، ومناظر جبلية، وبحار، وسحب، وغابات وما شابه ذلك.» لقد فضل دافينشي المعرفة والفهم على الإحساس الصرف فقال: «كل من يقنع نفسه بأنه يستطيع أن يحتفظ في ذاكرته بكل تأثيرات الطبيعة فهو مخدوع؛ لأن ذاكرتنا ليست واسعة لهذه الدرجة؛ لذلك استشر الطبيعة في كل شيء.» (3) السير جوشوا رينولدز
كل فناني العصور الحديثة كان لديهم إحساس قوي تجاه الألوان، وكلهم افتخروا بموهبتهم الاستثنائية في التعبير بالألوان. وأفضل تخصيص بقية هذا الفصل لنظريات تناغم الألوان الواسعة الاطلاع والأصلية إلى حد كبير، مع مقولة فاصلة قصيرة للسير جوشوا رينولدز. كتب رينولدز يقول: «من الضروري، في رأيي، أن نلاحظ أن مساحات الضوء في الصورة تكون دائما بألوان هادئة دافئة، أصفر أو أحمر أو أبيض مصفر، وأن يستبعد اللون الأزرق أو الرمادي أو الأخضر بشكل كامل تقريبا عن هذه المساحات، وأن تستخدم تلك الألوان فقط لدعم وإبراز تلك الألوان الدافئة، ومن أجل هذا الغرض، سيكون كافيا استخدام جزء قليل من الألوان الباردة. وعند عكس هذا السلوك، وجعل الضوء باردا والألوان المحيطة به دافئة، كما نرى غالبا في أعمال الرسامين الرومانيين والفلورنسيين، فلن يكون الفن قادرا، حتى لو كان ذلك على يد روبنز أو تيتيان، على أن يجعل الصورة رائعة ومتناغمة.» وكان رينولدز متأكدا للغاية من تعميمه، ويقال إن جينزبره دحض هذا المبدأ وعكسه عن عمد، وذلك عندما رسم رائعته الشهيرة «الولد الأزرق». (4) يوهان فولفجانج فون جوته
Unknown page