ويقول مؤلفو كتاب «الكأس المقدسة والدم المقدس» الذين ناقشنا أفكارهم في بحثنا السابق «هل كان يسوع متزوجا؟» ما يلي: «ينص إنجيل متى بشكل واضح على أن يسوع كان ملكا أصيلا يجري في عروقه الدم الملكي، وهو السليل المباشر لداود وسليمان. وإذا كان الأمر كذلك فإنه كان يتمتع بحق شرعي في عرش فلسطين الموحدة. من هنا يجب ألا ننظر إلى النقش الذي كتبه الوالي الروماني على الصليب: «يسوع ملك اليهود» على أنه مجرد سخرية لأن يسوع ربما كان في الحقيقة ملك اليهود الذي قاد بالفعل حركة معارضة استنادا إلى دوره هذا، دور الملك الكاهن الذي سيوحد البلاد والشعب اليهودي. ولهذا فقد شكل يسوع تهديدا خطيرا لهيرود أنتيباس ملك الجليل وللسلطة الرومانية على حد سواء ... وخلال المحاكمة التي أجراها الوالي بيلاطس دعي يسوع مرارا بملك اليهود، وبيلاطس نفسه أمر أن ينقش هذا اللقب على الصليب. وهذا النقش، على ما يقول البروفيسور براندون من جامعة مانشستر، يجب اعتباره صحيحا كأي شيء آخر في العهد الجديد. فلقد ورد لقب ملك اليهود في الأناجيل الأربعة، ومن غير الممكن أن يكون مؤلفو الأناجيل قد ابتكروا أمرا كهذا.»
4
في ردنا على مثل هذه الطروحات نقول ما يلي:
في البحث عن يسوع التاريخي تتخذ أقوال يسوع نفسه مصداقية أعلى من الأقوال المنسوبة إلى معاصريه، لأن أقوال يسوع التي وضعت في مجموعة أو أكثر (على ما شرحنا في أبحاث سابقة) هي أقدم سجل مكتوب عن يسوع، وقد كانت متداولة قبل تدوين وتداول الأناجيل بعدة عقود، وصارت بعد ذلك مصدرا رئيسا لمؤلفي الأناجيل عندما كتبوا سيرة مطردة ليسوع تحتوي على أكثر من الأقوال. فهل ادعى يسوع أنه ملك أو أنه ابن داود ووريثه على عرش إسرائيل؟
إذا تابعنا ورود هذين اللقبين في الأناجيل الأربعة، لوجدنا أن يسوع لم يستخدم أيا منها في الإشارة إلى نفسه بينما استخدمها الآخرون في الإشارة إليه؛ فمؤلف إنجيل متى يقول في مطلع الإصحاح الأول: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود». ويقول لوقا في قصة الميلاد على لسان ملاك البشارة: «ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه» (لوقا، 1: 32). كما يرد هذا اللقب على لسان أناس عاديين: «وفيما هو مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود» (متى، 9: 27). «وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه كان بارتيماوس الأعمى جالسا على الطريق يستعطي، فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع يا ابن داود ارحمني» (مرقس، 10: 46-47). أما يسوع فلم يكتف بتجنب هذا اللقب وإنما قال صراحة: إن المسيح ليس ابنا لداود: «وبينما الفريسيون مجتمعون سألهم يسوع: ما قولكم في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. فقال لهم: فكيف يدعوه ربا وهو (أي داود) يقول بوحي من الروح: قال الرب (= يهوه) لربي (= المسيح) اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك. فإذا كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (متى، 22: 41-46). ويسوع يشير هنا إلى ما ورد في المزمور 109: 1 على لسان داود: «قال الرب لربي ... إلخ».
وفيما يتعلق بلقب الملك فقد وضع متى على لسان المجوس في قصة الميلاد قولهم: «أين هو ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق ... إلخ» (متى، 2: 2). وفي قصة الميلاد عند لوقا قال ملاك البشارة لمريم: «ويملك على بيت يعقوب ولا يكون لملكه نهاية» (لوقا، 1: 33). وعندما جاء اليهود بيسوع إلى بيلاطس طالبين محاكمته قالوا له: «وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلا إنه مسيح ملك» (لوقا، 23: 2). ولكن يسوع لم يدع الملوكية لا قولا ولا فعلا، فبعد معجزة تكثير الخبز والسمك التي شهدها عدة آلاف من الناس على شاطئ طبريا، يقول لنا مؤلف إنجيل يوحنا: «فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم. وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا ابتعد عنهم وعاد وحده إلى الجبل» (يوحنا، 6: 14-15). وعندما سأله الوالي بيلاطس عما إذا كان ملك اليهود كما يدعي متهموه، أوضح يسوع بكل جلاء مفهومه عن مملكة الله التي يبشر بحلولها، فهي مملكة سماوية لا علاقة لها بممالك الأرض السياسية: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من ها هنا» (يوحنا، 18: 33-36). وفي قول آخر لافت للنظر يوضح يسوع لتلاميذه طبيعة هذا الملكوت الروحاني الذي ينمو في داخل النفس الإنسانية قبل أن يتجلى في خارجها: «وسأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ فأجابهم: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون لكم هوذا هنا أو هوذا هناك، لأن ملكوت الله فيكم» (لوقا، 17: 20-21).
وفي الحقيقة لو أن يسوع كان يملك طموحات سياسية من أي نوع لتجلى ذلك في تعاليمه لتلاميذه وفي مواعظه وخطبه العامة. ولكننا لا نعثر على أي أثر لتحريض سياسي علنيا كان أم مبطنا في كل ما قاله يسوع، والهموم السياسية الآنية غائبة تماما عن تفكيره، وبدلا من التفكير في مقاومة السلطة الزمنية والدينية المتمثلة بسلطة روما وسلطة الهيكل، فقد انصب اهتمامه على مقاومة الشيطان الذي كان يرى فيه سيد هذا العالم (يوحنا، 12: 31). ولم يكن إخراجه للشياطين من أجساد الممسوسين إلا مقدمة للقضاء على حكم الشيطان: «إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متى، 12: 28). والجمع الذي التأم حول يسوع وسار معه إلى أورشليم لم يكن تجمعا سياسيا بل تجمعا روحانيا حول معلم روحاني. وقد وصف يسوع جماعته بالكلمات المعبرة التالية: «لا أدعو لهم وحدهم (أي التلاميذ)، بل أدعو أيضا للذين سيسمعون كلامهم فيؤمنون بي، فليكونوا بأجمعهم واحدا، وكما أنت أيها الآب في وأنا فيك، كذلك فليكونوا فينا واحدا ليؤمن العالم بأنك الذي أرسلني. المجد الذي أوليتني أوليتهم إياه ليكونوا واحدا كما نحن واحد؛ أنا فيهم وأنت في لتكون وحدتهم كاملة ويعرف العالم أنك أرسلتني وأنك تحبهم مثلما تحبني» (يوحنا، 17: 20-23).
5
فأين هذا الكلام المغرق بالصوفية الشرقية من الهموم السياسية لليهود في ذلك الوقت؟
ولدينا ما يشير إلى التزام يسوع بواجباته المدنية وتأديته الضريبة المفروضة من الهيكل والأخرى المفروضة من السلطة الرومانية (متى، 17: 24-27). كما أعلن يسوع في باحة الهيكل أمام الجميع أنه ليس خصما للسلطة الرومانية عندما أفتى بدفع الجزية لها، قائلا: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مرقس، 12: 17).
Unknown page