وكان زكريا أكثرهم رغبة في الوصول؛ فقد كانت الصحراء تذكره بدميانة وأنها أخذت إلى مثلها وألحت عليه هواجسه لكي يحث هجينه للوصول إلى الدير، لكنه لم يشأ أن يترك رفاقه؛ لأن جمال الحمل تبطئ بخلاف الهجن، فخطر له أن يستأذن رفاقه صباح اليوم التالي ليسبقهم، فأنكروا عليه انفراده فوافقهم، ثم شدوا رحالهم في الصباح وساروا يقطعون منخفضات ومرتفعات ليست بالأودية وبالجبال وإنما هي تعاريج لا يبرح المسافر كيفما توجه يجد نفسه محاطا بالتلال الصخرية أو بروابي الرمل.
وعند الأصيل أطلوا من حافة السهل على واد عظيم فيه آثار من الأبنية المتفرقة وبعض الأشجار المبعثرة، وأول بناء كبير وقع نظرهم عليه من بعيد دير أبي مقار بقرب فتحة الوادي. وحالما أطلوا عليه أشرقت وجوههم، وقال أحدهم: «هذا هو الدير.»
فقال زكريا: «لا بد من الوصول إليه الليلة.» وكانت رغبته في الوصول تجعله يردد ما يجول في ذهنه خوف تباطؤ القافلة، فقال له أحد الراهبين: «أظننا نصل الليلة أو صباح الغد، وإذا كانت الليلة مقمرة نواصل السير ليلا حتى نصل؛ إذ يظهر أنك مستعجل في مهمتك يا أخ.» وضحك فعلم زكريا أنه يمزح؛ لأن الليلة مظلمة والقمر في أواخر أيامه، فلم يجبهم، وتشاغل بإصلاح رحل جمله تحته. وبينما هم سائرون وعينا زكريا نحو الدير وقع نظره عند أول الوادي على أشباح راكبين على هجن، ولم يستطع تمييزهم لبعد المسافة، فقال لأقرب الراهبين إليه: «كأني أرى أناسا ودواب؟»
فنظر الراهب إلى الوادي وتفرس قليلا، ثم قال: «ألا تراهم خارجين من الوادي؟ إنهم من التجار يحملون أحمال الملح والنطرون، أو ربما حملوا القش الذي يصنعون منه الحصر؛ فإنه كثير هنا.»
فقال: «لا أرى معهم أحمالا مما ذكرت. وإذا كانت معهم أحمال فينبغي أن تكون أقل من ذلك كثيرا.»
وكان الراهب الآخر يتفرس في الأشباح فلما سمع جواب زكريا قال: «صدقت أحسبهم من تجار الزجاج لأن في هذا الوادي معملا يصنعون فيه الزجاج بنفقة أقل من نفقته في الفسطاط فيبتاع التجار من هنا كميات كبيرة يحملونها إلى الأسواق.»
فقال زكريا: «لم أكن أعلم أن الزجاج يصنع في هذه الأرض المنقطعة.»
فقال الراهب: «كان يصنع هنا من عهد دولة الروم، ولا يزال.»
فسكت زكريا وبعد هنيهة توارت تلك الأشباح وراء التلال ولم يعودوا يرونها، وطفقوا سائرين في طريقهم وعيونهم نحو الدير، ولا سيما زكريا فإنه كان أكثرهم رغبة في الوصول وزاد قلقه لما شاهد الشمس تقترب من الأفق خوفا من تخييم الظلام قبل الوصول.
وفيما هم في ذلك رأوا هجانا من وراء رابية وعليه العباءة والكوفية، ثم وقف هجينه لحظة وأشار إشارة وتقدم فظهر وراءه بضعة جمال على كل منها راكب وكلهم مسلحون بالرماح، ورآهم زكريا يتقدمون فخاف غدرهم إذ لم ير معهم أحمالا. فالتفت إلى رفيقيه الراهبين فرآهما قد تغير وجهاهما فقال: «يظهر أن هؤلاء ليسوا تجارا، وأظنهم من الأعداء؛ فإن ألبستهم عربية.»
Unknown page