ووصل إلى الفسطاط وقد أغلقت أبوابها، فبات في مكان خارجها، ولما فتحت الأبواب دخلها متنكرا حتى أتى الخان، وأخذ يتأهب للسفر إلى دير أبي مقار عبر النيل والصحراء الغربية.
ورأى - لتمام الحيلة - أن يتنكر بلباس الرهبان وحدثته نفسه أن يركب جواد مرقس الذي أتى به من طاء النمل، ولكنه خاف أن ينم عليه فيذهب تنكره عبثا، فباعه لصاحب الخان واشترى هجينا خفيفا وضع عليه رحلا ونزل السوق فاشترى ثياب الرهبنة وأهمها الرداء الأسود الخاص بالرهبان والقبعة الخاصة برهبان دير أبي مقار، وقضى في ذلك يوما كاملا وفي المساء أعد كل شيء على أن يسافر في صباح الغد.
ولما عزم على السفر تذكر سعيدا وقال في نفسه: «كيف أتركه وأسافر بدون أن يعلم مصيري وما حدث لدميانة، فقد يذهب إلى حلوان فلا يقف على خبرها، فيظنني خدعته، أو ربما تولاه اليأس أو غير ذلك.»
قضى ليلته يفكر في سعيد ولم ينم إلا قليلا، وتعاظم الأمر عليه أثناء رقاده؛ لأن المرء إذا فكر في أمر يهمه وكان تفكيره في الظلام وهو راقد مغمض الأجفان تعاظم عليه الوهم، فرأى أن يطلع سعيدا على ما جرى فلما أصبح تنكر بغير لباس البادية الذي جاء يوم مقابلة سعيد وخرج إلى القطائع، وأخذ يسأل عن المهندس النصراني؛ إذ كان معروفا بهذا الاسم فلم يهتد إليه. ولكنه اهتدى إلى القصر الذي أعدوه له، وسأل حاجبه فقال له: «خرج مساء الأمس ولم يعد بعد.»
فأخذ يفكر فيما عسى أن يكون حاله، وكيف يخرج وإلى أين وابن طولون قد منعه من الخروج وخاف أن يكثر من السؤال فيشتبه الحاجب فيه فرجع. وخطر له أثناء رجوعه أن سعيدا قد يكون ذهب إلى حلوان بعد أن بلغه سطو البجة عليها؛ لأن خبر تلك الغزوة ذاع في أنحاء المدينة. فترجح لديه أنه ذهب إلى هناك، فاتجه إلى ذلك الطريق؛ لعله يلاقي سعيدا، وما مشى طويلا حتى شاهد فارسا قادما من طريق حلوان، وعرف من قيافته أنه سعيد، وما عتم أن وصل الفارس فإذا به هو بعينه فناداه زكريا فوقف، ولما عرفه أسرع إليه وترجل وسأله: «أين دميانة؟ لقد ذهبت إلى حلوان فلم أجدها ولا وقفت لها على خبر، هل كنت تقول الصدق؟»
قال: «نعم يا سيدي قلت لك الصدق. ألم تسمع بما أصاب حلوان؟»
قال: «سمعت أن بعض البجة سطوا عليها ونهبوها، فهل أخذوا دميانة في جملة السبي؟» قال ذلك وهو يتلعثم وقد جف حلقه.
قال: «يظهر أنهم أخذوها وكنت ذاهبا للتفتيش عنها دون أن أخبرك؛ لئلا أكدرك عبثا فأنت مقيد في منصبك، ولا سيما الآن، ولكني رجعت أمس، فرأيت الأفضل أن أراك قبل سفري.»
قال: «وماذا جرى؟»
فقص عليه حديثه منذ فارقه وسار إلى حلوان، ثم قال: «ولم أجد وسيلة لإنقاذ دميانة غير توسيط البطريرك لدى ملك النوبة، وسأذهب في الغد إلى دير أبي مقار.»
Unknown page