هم يعجبون معا ويسخطون معا وكأنهم يعجبون أو يسخطون لسبب يشعرون به جميعا، ولكن سل كل واحد منهم عن هذا السبب فستجد بينهم اختلافا كثيرا، ذلك لأنهم يختلفون في حظوظهم من العقل والشعور والثقافة وظروف الحياة المختلفة، فيقدر كل واحد منهم الأشياء قدرا ملائما لحاله فلا يتفقون إذا حكموا فرادى، ولكنهم على كل حال يشتركون في مقدار ما من هذا العقل وهذا الشعور وظروف الحياة الأخرى، وكأن هذا المقدار الذي يشتركون فيه هو الذي يمكنهم من أن يتفقوا على السخط أو الإعجاب، هذا المقدار الضئيل هو الذي يشترك فيه أفراد الجماعة فيكون ذوقهم العام مختلفا في نفسه أيضا باختلاف الظروف التي تحيط به وتؤثر فيه، ولست أشير إلى اختلاف الأذواق العامة باختلاف الأجيال ، فقد كان الذوق العام منذ ثلاثين سنة في مصر شيئا غير الذوق العام الذي نشهده الآن، كان يعجب بشيء من الشعر والنثر نراه نحن سخيفا، ولو قد عرض عليه ما ينشئ كتابنا وينظم شعراؤنا لما ذاقه ولما أساغه، ويكفي أن تعرض على جماعاتنا الآن ما يكتب أو ينظم منذ ثلاثين سنة لترى نفورها منه وإنكارها له، لا أشير إلى اختلاف الذوق باختلاف الأجيال، ولا إلى اختلاف الذوق باختلاف البيئات، فهذا طبيعي يسير الفهم والتعليل، وإنما أشير إلى أن الذوق العام الواحد في جيل بعينه يختلف باختلاف الظروف الوقتية الطارئة التي تعرض له فتؤثر فيه، فلو قد مثلت القصتان اللتان أشرت إليهما آنفا في باريس منذ عشر سنين لما أعجب بهما النظارة، بل لسخطوا عليهما أشد السخط؛ ذلك لأن ظروف الحياة التي كانت تحيط بالباريسيين في ذلك الوقت كانت تدعو الجماعات إلى بغض الأثرة وحب الإيثار، وكيف لا وقد كانت الحرب قائمة والجهود كلها موجهة إلى التعاون على دفع العدو وإنقاذ الوطن.
فالأثرة لا تلائم التعاون والتوفيق بين الجهود المختلفة، ولو أعيد الآن تمثيل القصص التي أنتجتها ظروف الحرب وأعجب بها الباريسيون حينئذ لما أعجبوا بها الآن إلا متكلفين؛ لأنهم يكرهون أن يقال عنهم أو أن يقولوا هم عن أنفسهم إنهم قد نسوا الحرب وأهوالها، فترى أن جيلا واحدا يعجب ويسخط إعجابا وسخطا مختلفين باختلاف الظروف التي تؤثر في ذوقه العام.
ومعنى هذا كله أن هاتين القصتين يجب أن تكون كل واحدة منهما مرآة صادقة إلى حد ما لطبيعة الخلق الفرنسي في هذه الأيام لهذه الأثرة التي أنتجتها الحرب بما دعت إليه من جهاد وصراع بين هؤلاء الذين كانوا يتعاونون منذ سنين، كانوا يتعاونون لدفع العدو الطارئ، فلما خلصوا منه فرغ بعضهم لبعض، وكانوا قد لقوا في الحرب خطوبا وأهوالا وصنوفا من الحرمان والبؤس، فهم يريدون الآن أن يعوضوا ما فاتهم وأن يستمتعوا من اللذات بما يعدل ألوان البؤس والحرمان التي خضعوا لها من قبل، وإذن فهم أثرون، ويجب أن تكون الأثرة هي الطابع الذي يطبع أخلاقهم، وأعمالهم، وذوقهم، وآثارهم الفنية.
ومن المحقق أن هذا الطور من أطوار الحياة الفرنسية سيزول كما زال غيره من أطوارها السابقة، ويومئذ لا يطبع الذوق العام في فرنسا بطابع الأثرة هذا، ولا يعجب الفرنسيون بهاتين القصتين، ولا يتخذ الكتاب والممثلون الأخلاق والعرف وسيلة إلى إرضاء الأثرة وحب النفس.
ومثل هذا يمكن أن يقال في كل ذوق عام وفي كل جيل من أجيال الناس، وكم أحب أن أعرف الطابع الذي يطبع ذوقنا المصري العام في هذه الأيام التي نعيش فيها.
من عمل الشيطان
كان هذا من عمل الشيطان ليس في ذلك شك، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء، ولأن السماء ترتفع عن العناية بهذه الصغائر، فالحب يسعى إلى القلوب من طريق العيون أو من طريق الآذان، من طريق الصورة التي تراها العين فتنقلها إلى النفس بما تحمل من دواعي الميل والنفور، أو من طريق الصوت الذي تحمله الأذن إلى القلب بما يشيع فيه من أسباب الحنان أو القسوة، فأما أن يصل الحب إلى القلوب وينتهي البغض إلى النفوس من طريق الأيدي التي تلطم والوجوه التي تتلقى اللطم فشيء غير مألوف لم تبتكره الأشياء، ولم تهبط به إرادة السماء، وإنما اخترعه عبث شيطان ماكر أو كيد عفريت من هذه العفاريت التي تلعب بقلوب الناس ونفوسهم وتصرف عواطفهم وأهواءهم كما تشتهي في كثير من الأحيان.
وهذا الحب الذي أتحدث عنه، وهذا البغض الذي جاء في أثره لم تنشئهما نظرة من هذه النظرات الحادة الفاترة التي يقول فيها الشاعر القديم:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
Unknown page