87

Afkar Wa Rijal

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

Genres

وإذا كانت صفات النظر إلى العالم الآخر، واعتقاد ما ليس بالطبيعي، والسعي إلى اللانهائي، والعنف، والتباين بين المثل المسيحية والعمل الذي ليس كله مسيحيا، إذا كان لا بد من بقاء هذه الصفات، فلا بد لنا - مع هذا - من أن ندخل فيها تعديلات عديدة. فأولا: بالرغم من أن جانبا كبيرا من ثقافة العصور الوسطى يبدو كأنه ثقافة عصر غير ناضج - ففيه التصديق، وحب التطرف، والصفات البهيجة كجدة الخيال، وانطلاق السرور، والبساطة التي أسرت لب الرومانسيين المتأخرين - إلا أن الاعتقاد بأن ثقافة العصور الوسطى قد بلغت درجة حقيقية من النضج ليس اعتقادا خاطئا البتة، ويظهر هذا النضج واضحا في أي شكل من أشكال الفن في العصور الوسطى تقريبا. وربما اشتد اهتمامنا عند سرد تاريخ هذه العصور بالمعالجة التحليلية التي أهملت التطور الزمني لثقافة العصور الوسطى. إن العصور الوسطى لم تكن صورة موحدة البتة. كان لها شبابها، ومرحلتها البدائية التي نسميها العصور المظلمة. وقد ازدهرت في القرن الثالث عشر، وهو في نظر المدرسيين الجدد «أعظم العصور». ثم كان لها عصر انهيارها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

وإليكم بعض الأمثلة: كان لعالم «أغاني رولاند»، عالم القرن التاسع كما احتفظت به الملاحم، صفات الشباب، صفات البدائية. كان عالما بسيطا جليلا من أقوياء الرجال، يعرف كل منهم حق المعرفة لمن يعطي ولاءه. كان عالما بسيطا من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، بقدر ما نستطيع التوغل في هذه الأمور، ولكني لا أحسب أن أحدا عاقلا يسمي العالم الذي تصوره الكوميديا الإلهية لدانتي عالما بسيطا شابا. كان دانتي - كما كان أكويناس - رجلا ناضجا يعيش في حضارة غاية في التعقيد. وإذا وصلنا إلى القرن الخامس عشر وجدنا شاعرا مثل فرانسوا فيون، الذي نجد في إنتاجه وعيا بعالم بلغ سن الشيخوخة، كان فيون يعيش في العالم السفلي من باريس، التي تم تمدينها. وكتب عن المتسولين واللصوص، والعاهرات، ممن ليس لديهم ذرة من براءة. كان رجلا مثقفا في مجتمع لم يعد معنى المثقف فيه أن يكون بالضرورة قسيسا، له - تبعا لذلك - مركز ثابت في المجتمع. كان مثقفا انحدر إلى أدنى السلم. وللفرنسيين تعبير أفضل من هذا، فهم يقولون ما معناه: «هبط من طبقته.» وإن حياة عملية كالتي عاشها فيون لم تكن ممكنة إلا في مجتمع أدركته الشيخوخة فعلا.

وهذه الدورة من الشباب إلى الشيخوخة تظهر على أوضح صورة في فن بناء الكنائس في العصور الوسطى؛ فهذا الفن في بدايته يتبين في الأقواس المستديرة الرومانسية الثقيلة في الفترة الأولى من العصور الوسطى. وباختراع القوس المدبب يبدأ الفن الغوطي الصحيح. وفن البناء الغوطي في عهده الأول - الذي يعده بعضهم اليوم ذروة هذا الفن - بسيط نسبيا. وهو يقنع بتسقيف أخف وأعلى من الرومانسي، وهو تسقيف لا يجاهد فيما يبدو في سبيل الارتفاع. والنحت فيه طبيعي رشيق، خاضع لخطوط البناء. وتماثيله قد أعدت كذلك بمهارة لتقابل هدف المهندس المعماري. وأحسنها - كتلك التي تراها مثلا في الجبهة الغربية في شارتر - تتميز بتلك الصفة التي يطلق عليها مؤرخو الفن البدائي، وهي صفة تجدها كذلك في النحت الأثيني قبيل عصر فيدياس العظيم. ولا تزال زخرفة النوافذ بسيطة، وربما كانت هذه الزخرفة في الحجر أيسر علامة يستدل بها الرجل العادي على فترة غوطية معينة. ويأخذ الطراز تدريجا في التعقيد وفي زيادة الزخرفة. وهناك فترة متوسطة ناضجة يستخدم فيها مهندسو العمارة الدعامات السامقة وغيرها من الحيل استخداما جريئا يمكنهم من طبع المشاهد بأثر الارتفاع العظيم، ومن نشر الضوء في كنائسهم من عدة نوافذ. إن فن النحت يبلغ كما لا يختلف عن واقعية الإغريق، ولكنها واقعية سامية أخرى لا تجد فيها أثرا من التحريف البدائي لأعضاء الجسم الإنساني. على هذه الصورة نجد - على سبيل المثال - التماثيل في كاتدرائيات أميان وريمز. هنا نجد كذلك زخرفة النوافذ أكثر حرية، وأشد انطلاقا، وأكثر زينة.

ولما تحل القرون الأخيرة في العصور الوسطى نجد زيادة في النضج، وهو دليل على أن طراز البناء قد أدركته الشيخوخة؛ فهناك جهاد نحو بلوغ ارتفاع مستحيل - وبخاصة في فرنسا - وهو ارتفاع يجلب الكوارث، كما حدث عند سقوط البرج المركزي في بوفيه. كما أن الزخرفة، داخل البناء وخارجه، تخرج عن سلطان اليد، حتى إنك لتجد الجبهات الغربية - كجبهة روان - مزخرفة كأنها كعكة العرس. ولم تعد العذراء تبتسم ابتساما طبيعيا، وإنما ابتسامتها تفوق الوصف. وهنا أيضا نجد الطبيعي محرفا، ولكنه تحريف ميلودرامي، وليس تحريفا بسيطا كما كان في العصر البدائي. أو قل إن التحريف كان «واقعيا»، وتبدو العذراء شبيهة بفتاة ريفية جذابة. وزخرفة الحجر في النوافذ، التي توحي إيماء مركبا باللهب، هي بداية الصفة التي كانت تسمى في فرنسا خاصة بالفترة «الملتهبة» من الفن الغوطي المتأخر. وهذه الصفة - الملتهب، أو الزاهي - أدت بهذه الطريقة إلى الإيحاء بالمبالغة في التعقيد وفي التظاهر. أما في إنجلترا فإن الغوطي المتأخر لم يحذ حذو النماذج الفرنسية في تطلعها إلى الارتفاع الشاهق. وأولئك الذين يعتقدون أن الإنجليز معتدلون بالوراثة يحبون أن يقولوا إن من خصائص المهندسين المعماريين الإنجليز ألا يحاولوا قط بناء القباب والأبراج الشاهقة كما فعل الفرنسيون. ولكن الفن الغوطي الإنجليزي - مع ذلك - ينم عن المبالغة التي يتصف بها الطراز الفني بعدما يستنفد أغراضه. ونحن نجد زخرفة النوافذ - في هذا الفن الغوطي الإنجليزي في نهاية عهده - تتأثر بالخطوط الرأسية، بدلا من تأثرها باللهب، وتسمى ب «العمودية». وهكذا نجد أن العمودية الإنجليزية في زخرفتها متأثرة أشد التأثر بفكرة الارتفاع، وهي تعبر عنه في زخرفة النوافذ وفي قباب المباني.

وكذلك يستطيع المرء أن يلمس في كثير من أوجه الحياة الثقافية الأخرى في أواخر العصور الوسطى هبوطا عن ذلك الاتزان والنضج مما اتصفت به في أوائلها. وحتى في التفكير الفلسفي الشكلي، بدأت المدرسية - بعدما بلغت أوجها في القرن الثالث عشر تتخلى عن اعتدال أكويناس، وتنسج حججها في منطق يفتت الشعرة مما أعطى خصومها الإنسانيين في عهد النهضة أسلحة ماضية للهجوم عليها. وقد لاحظنا من قبل كيف أن الفروسية في تدهورها أمست سلسلة من الأعمال منفصلة عن الحياة الجديدة من حولها.

بقيت مشكلة أقل خطورة مما قد تبدو لأول وهلة؛ ذكرنا أن العصور الوسطى وبخاصة في عهدها العظيم كانت مجتمعا به من الأوضاع ما يكفل للفرد فيها مكانة مطمئنة، مجتمعا يعرف المرء فيه واجباته، وحقوقه، و«جذوره». كان الإنسان في العصر الوسيط - على نقيض مجتمعنا الحديث المتنافس - كما بينا من قبل على هدوء من العقل، لا يجده أكثرنا نحن أبناء هذا العصر الحديث، ومع ذلك فإن مميزات العصور الوسطى كما حاولنا أن نلخصها توحي بأي شيء إلا الاتزان، والاعتدال، والطمأنينة. ذلك أن الإنسان في العهد الوسيط يبدو في الظاهر غير مطمئن إلى درجة لا تحتمل، وهو يكافح في سبيل اللانهائي، وما يفوق الوصف، ويتوقع المعجز كما توقع المستقر بالإحصاء، ويعيش في عصر العنف والموت المفاجئ، لا يتحرر قط من خوف المجاعة والمرض، ولا يحتمي حماية كافية بما لا يزيد إلا قليلا على العادات والمشاعر الدينية من إساءة السلطات الإقطاعية لاستخدام النفوذ.

ويخفف من حدة هذا التناقض ثلاثة اعتبارات؛ الأول: أن الاتزان الذي لمسناه في الحياة الوسيطة لم يبلغ ذروته إلا في فترة وجيزة، عندما بلغت ثقافة العصور الوسطى أوجها في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، وأوائل الرابع عشر. وحتى آنئذ كان هناك قدر كاف من العنف وعدم الاطمئنان، ولكنه لم يكن عنفا وتغيرا على درجة من سعة الانتشار كالتي نجدها في القرن الخامس عشر، الذي كان زمنا من المتاعب للإنسان في الغرب بصورة واضحة.

والاعتبار الثاني: أن تلك العبارة التي استعملناها آنفا، وهي «ما لا يزيد إلا قليلا على العادات والمشاعر الدينية» تحرف الأمور تحريفا حديثا مضللا. وأقول هنا مرة أخرى إن العادات والمشاعر الدينية كانت لها قوة تفوق في شدتها كثيرا ما نستطيع نحن المحدثين أن ندركه. انظر إلى العلاقة بين السيد الإقطاعي والرقيق، إذا اعتدى السيد على الرقيق بالضرب، أو أغوى ابنته، أو استولى على ما يملك من أرض، فلم يكن هناك في أكثر الغرب الوسيط محاكم، أو قوة للشرطة، أو تنظيم مدني، يستطيع الرقيق أن يلجأ إليها لرد حقه، لم يكن هناك «دستور»، ولم يكن هناك «قانون يكفل الحقوق» بالمعنى الحديث. وحتى «الميثاق الأعظم» في إنجلترا الذي أعلن في عام 1215م لم يكن في الواقع وثيقة قانونية لحماية الرجل العادي. بيد أن أكثر السادة لم يعتدوا في الأغلب بالضرب على الرقيق، أو يغووا بناتهم، أو يسلبوهم عيشهم. وهناك مجموعة بسيطة واحدة من الحقائق تثبت ذلك، وتدحض الفكرة الشائعة بأن العصور الوسطى كانت فوضى من الفقر والمظالم تحرر منها الغرب بطريقة غير مفهومة إلى حد ما بالنهضة والإصلاح الديني؛ فقد أخذت حالة الفلاح الأوروبي في الغرب تتحسن باطراد منذ القرن الحادي عشر، بالرغم من الحروب الخاصة، ومن الأوبئة، والمجاعات، وحماية التجارة حماية ناقصة، وذلك على الأقل حتى انتهاء الاقتصاد الإقطاعي الذي كان يقوم نسبيا على الاكتفاء الذاتي، عندما بدأ الانتقال من هذا الاقتصاد يتمخض عن القلق الحديث الذي يرتبط بالإنتاج من أجل البيع بالمال. إن الرقيق في فرنسا وفي إنجلترا بلغوا بالتدريج مرحلة الأحرار، لا عن طريق قانون يكفل التحرير الشامل كما حدث في روسيا في القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق التأثير البطيء للتطورات الاقتصادية والقضائية التي مكنت الرقيق الأوروبي في الغرب أساسا من «اكتساب» حرياتهم. وما كان لهم أن يستطيعوا ذلك في مجتمع فوضوي دون قوة القانون والعادة الثابتة، أو في مجتمع طبقي ثابت ثبوتا مطلقا، بطبيعة الحال.

وأخيرا، وأهم مما سبق وإن يكن أشق ما يكون علينا إدراكه، أقول إن الاطمئنان في حياة العصور الوسطى كان أمرا يختلف جد الاختلاف عما نفهمه من الاطمئنان في منتصف القرن العشرين؛ فقد كان الفرد في العصور الوسطى لا يطمئن إلى نوع من الحياة فوق الأرض كذلك الذي نعده منحة أعطيت لنا. لم يكن يتوقع ما عندنا من أسباب الراحة المادية أو أسباب الترف، ولم يتوقع أن يتجنب الجدري بالتطعيم، ولم يكن يتوقع الطرق الجيدة، ولم يكن يتوقع - بإيجاز - ألوفا من الأشياء التي نسلم بها. كان يألف حياة شاقة (كما نظنها)، وكان يألف العنف والقلق. ولم يؤد به شيء في فلسفته - وأنا أستخدم الفلسفة هنا بمعنى الاسترشاد، حتى بالنسبة إلى الرجل العادي - إلى أن يتوقع إمكان أن تكون حياته على الأرض مختلفة فعلا عما كانت عليه دائما. ولا تعني أمثال هذه العقائد أن الإنسان الوسيط لم يتوقع شيئا ما، وأنه لم يكن قط ساخطا؛ فإن عشرة الزوجة المتمردة كانت لا تسر في القرن الثالث عشر كما لا تسر في القرن العشرين.

ولكن الزوج في القرن الثالث عشر من أي طبقة من المجتمع كان لم يكن يحلم بمحاولة طلاق زوجته بسبب «القسوة المعنوية»، أو في الواقع لأي سبب آخر - وهذا هو لب الموضوع. كان الزواج عنده يبرم في السماء، حتى إن كان إبرامه ناقصا. وقد جعل الله الزواج أمرا لا ينحل. وكذلك كانت الحال في أوجه كثيرة أخرى من الحياة الإنسانية، مما نميل إلى أن نعده من النظم التي يستطيع الإنسان أن يعقدها أو يحلها بإرادته الخاصة، وتحت مسئوليته الخاصة. كانت حياة الفرد في العصور الوسطى في كثير من جوانبها تخرج من يديه، وهي بين يدي الله الذي ينفذ إرادته عن طريق المجتمع. ونعود إلى تلك الحقيقة التي ليس منها مفر، وهي تغلغل النظرة المسيحية في الحياة في العصور الوسطى. ولم تكن النظرة المسيحية عندما بلغت كمالها بالجهاد الروحاني - وذلك بالرغم من أن العصور الوسطى قد أفسحت كذلك مجالا طبيعيا لا نفسحه له اليوم - ولكنها النظرة المسيحية التي تتمثل في قبولها العالم باعتباره مكانا للامتحان، وللعمل الشاق والأحزان للنفس الإنسانية. ولم ترد العبارة الآتية المشهورة على لسان دانتي عرضا: «في إرادته سلامنا. وهذه الإرادة هي المحيط الذي يتجه نحو كل شيء مما تخلقه أو مما تصنعه الطبيعة.»

Unknown page