إن الناس في العصور الوسطى لم يكونوا ذوي عقول إحصائية. ونحن نبالغ في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة - في تقدير الرجل في العصور الوسطى - هي في عموميتها كالحالة المعتادة. ولكنا لا نبالغ كثيرا في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة - في تقدير الرجل في العصور الوسطى - هي بالتعبير الإنساني، حالة «نمطية» تدل الإنسان - أو تفوق في دلالتها له - على الكيفية التي يسير عليها الكون، أكثر مما تدل على ذلك الحالة المعتادة. إن الرجل في العصور الوسطى لم يكن يجفل من الحالة المتطرفة، بل كان يتوقعها، ويبحث عنها، ويضعها في فنه صورة ملموسة، وعالم خيال (ولا نحسب أنه كان يقر بأن هذا العالم مجرد عالم من الخيال) كان يموج بالأهوال والعجائب، وبالأبطال، والأشرار، وغرائب المخلوقات، والقديسين، الذين بلغوا حد الكمال. ولسبب ما ترسبت في عقولنا اليوم صور غرائب المخلوقات أكثر مما ترسبت صور القديسين. وعندنا أن جحيم دانتي أشد إقناعا من فردوسه. ولو أن أولئك الذين تأثروا منا بتاريخ ثقافة العصور الوسطى استحضروا إلى أذهانهم عفوا نوعا من التماثيل المحسوسة من العصور الوسطى، لربما كان أقربها إلى الذهن الصنبور الذي نحت على شكل رأس إنسان مفكر الذي تراه في نوتردام في باريس، والذي صور على آلاف بطاقات البريد.
وهذا الاندفاع في العصور الوسطى نحو التطرف، نحو الغريب أو نحو السامي، كثيرا ما يوصف بأنه سعي نحو اللانهائي، واللاغائي، وهو عزوف عن قبول الحدود الظاهرة لعالم الخبرة الحسية المادي. ويحب مؤرخو الثقافة المتفلسفون - ويصلح شبنجلر هنا مرة أخرى أن يكون لهم مثالا محسوسا - أن يبينوا وجه التباين بين المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية. المعبد الإغريقي مربع الشكل يقوم على أرض صلبة، يقبل أبعاد الإنسان المألوفة، وشكله الأساسي لا يزيد في إشارته إلى البطولة وإلى التطلع إلى السماء عن الصندوق. في حين أن الكاتدرائية الغوطية تحلق إلى أعلى، وهي تتجاوز - بالمبتكرات الجريئة كالقبو المدبب والدعامات الطائرة - الحدود الرأسية التي نلمسها في المباني القديمة. وهي تحاول أن تنقل إلى الحجر تشوق النفوس في العصور الوسطى إلى اللانهائي. المعبد الإغريقي كعلم الهندسة، والكاتدرائية الغوطية كعلم الجبر. المعبد الإغريقي قابل للواقع، والكاتدرائية الغوطية تتطلع إلى البعيد. المعبد الإغريقي يبدو كأنه من صنع الإنسان، أما الكاتدرائية الغوطية فتبدو من نمو الغابات.
هذه المباينات صحيحة في أساسها؛ ذلك أن المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية شيئان مختلفان جد الاختلاف. والخلاف تعبير - إلى حد ما - عن نظرتين إنسانيتين مختلفتين إلى الجمال والخير. وقد تزعم أن هناك أسبابا مادية وفنية جعلت المهندسين المعماريين في العصور الوسطى يبنون على طريقة، والإغريق على طريقة أخرى - لاختلاف الحفلات الدينية التي تتطلب بناء معينا، واختلاف الوسائل الهندسية الفنية التي تخلق مشكلات مختلفة. ولا ينفي ذلك أن الناس في العصور الوسطى كانوا يتطلبون شيئا لم يتطلبه الإغريق. كانوا يتطلبون الارتفاع. وقد ألح هذا الطلب على بناة كاتدرائية بوفيه في فرنسا حتى اضطروا إلى إقامة القبة المستحيلة نصف الدائرية ذات الأضلع الكثيرة الباقية حتى اليوم، وحاولوا أن ينشئوا برجا أشد استحالة، ولكنه لسوء الحظ قد انهار، وكان انهياره أمرا طبيعيا.
وتشبيه الغابة المشهورة - الذي ذكرناه - لا يخلو من التلميح إلى إحدى الحقائق. ولكنا نتجاوز التلميح إلى الإغراق في الخيال إذا قلنا إن أهل العصور الوسطى شيدوا ممرات كنائسهم شبيهة بممرات الغابات لأن أسلافهم من الجرمان والكلت نشئوا في غابة بدائية في المناخ الشمالي، في حين أن الإغريق لم يكن لديهم في بيئة البحر المتوسط هذا النمط. ولكن الكنيسة الغوطية في صورتها النهائية بالتأكيد، لا من حيث خطوط بنائها فحسب، ولكن من حيث تفصيلاتها الزخرفية كذلك - من أوراق الشجر في رءوسها، إلى الرسوم في قبابها، إلى التماثيل التي تبدو كأنها نابتة من البناء كله - أقول إن الكنيسة الغوطية على هذه الصورة تبدو أبسط في تخطيطها، وأكثر تلقائية، من بناء إغريقي، أو بناء من العصر الحديث.
ويقوي هذا الانطباع أنه قل من الكاتدرائية الغوطية ما أنشئ دفعة واحدة. إنما امتدت فترة تشييدها أجيالا عدة، كلما توافر المال. وكان البناة في كل مرحلة يشيدون طبقا للنموذج الغوطي الشائع في عهدهم (ونلاحظ هنا أن انتقاء نمط معين من جعبة التاريخ، كالدوري، والغوطي، والاستعماري، والتبشيري، وما إلى ذلك، إنما ينحصر انحصارا تاما في الأزمنة الحديثة. وحتى هذه الأزمنة كان الناس دائما يبنون على نمطهم المعاصر، كما يلبسون ممثليهم دائما على طراز زمانهم. ولذلك فإن الكنيسة الغوطية التي يغرم بها هواتها، مثل كاتدرائية شارتر في فرنسا لا تزال تحتفظ في سراديبها بالأقبية المستديرة التي أقيمت على الطراز الرومانسي السابق للطراز الغوطي، تجد في جبهتها الغربية برجا جنوبيا على الطراز الغوطي القديم البسيط الذي لا تتناوله الزخرفة إلا قليلا، وبرجا شماليا غنيا بزخرفته على طراز أحدث، وتجد في أمكنة أخرى تماثيل وأسقفا للأبواب ، ونوافذ وردية، صنعتها أيد مختلفة كثيرة في عدة قرون، ومع ذلك فالبناء كل رائع، وليس صورة شائهة، وليست كذلك الغابة بطبيعة الحال).
وهذه النغمة الثانية من نغمات الثقافة الوسيطة - سمها إن شئت التلقائية، أو الخيال الخصب، أو البحث عن الشاذ، والغريب، والرومانس، أو السعي نحو اللانهائي، سمها هذا أو ذلك، فليست هناك عبارة واحدة يمكن أن تحيط بالحقيقة - هذه النغمة تلمسها في كل شيء وسيط. وقد اخترنا فن العمارة مثالا لها، ولكنها توجد واضحة أيضا في أدب العصور الوسطى الخصب. كان عقل دانتي بالنسبة إلى العصور الوسطى عقلا منظما، وليس في أسلوبه شيء من التفكك والغرابة، والخصب التي نلمسها في قصص الفرسان الخيالية. ولكن أثر ملحمته في جملتها، إذا قورن بأثر ملحمة أستاذه فرجيل أشبه بأثر الكاتدرائية الغوطية إذا قورن بالمعبد الإغريقي، وحتى كتابه العظيم في السياسة، «الملكية» الذي ألفه باللاتينية، خليط من التعليل المنطقي والخيال إذا قورن بالدقة المنطقية فيما كتب أرسطو.
وهناك نغمة ثالثة ترن في ثقافة العصور الوسطى لا تبعث مثل هذا السرور في المعجبين من المحدثين بمثل هذه الثقافة، وتلك هي كثرة حدوث العنف. فلم يكن القتل والموت المفاجئ أمرا غير عادي للرجل في العصور الوسطى كما هما للرجل في العصر الحديث، ويجب أن نحذر هنا كما نحذر دائما في الأحكام العامة الكبرى - إن عاشق العصور الوسطى قد يرد علينا بأن الحرب الحديثة تفتك فتكا ذريعا لم تعرفه العصور الوسطى، وأن تاريخ العصور الوسطى لا يروي شيئا أسوأ مما حدث في معسكرات الأسر في الحرب الماضية. وهو مصيب بالطبع، ولكنه يجب أن يذكر إلى جانب ذلك نجاحنا الحديث في الطب وفي تموين أعداد ضخمة من السكان. وبرغم كل حروبنا المفزعة استطعنا أن نبقي حتى اللحظة الراهنة على عدد من السكان في الغرب أكبر منه في أي عهد سبق. بيد أن النقطة الأساسية التي نود أن نذكرها هي اختفاء الشعور بدوام الحياة البشرية دواما نسبيا في العصور الوسطى، بالرغم من الديانة المسيحية؛ فالناس في تلك العصور لم يتوقعوا أن تسير الحياة بغير مخاطرة، بل إنهم كانوا يرون يد الله عندما يصدرون قرارا عنيفا. ومن النظم الوسيطة المشهورة الحكم بالمبارزة، وهي طريقة كانت تقتصر على المنازعات التي تنشب بين طبقة الفرسان. كان النزاع في نهاية الأمر يفض بالمبارزة بين المتنازعين أو بين بطليهما. وكانت النتيجة تعد تدخلا مباشرا من الله الذي يكتب الظفر للحق. وقد حلت النظم القضائية تدريجا خلال العصور الوسطى محل هذه الطريقة، وأمست هذه النظم أساسا لنظامنا الحاضر.
ولسنا بحاجة إلى الإفاضة في هذه النقطة؛ فإن الطبقات العليا، وريثة المقاتلين الخشنين في العصور المظلمة، حافظوا محافظة جيدة في ثقافة العصور الوسطى الأكثر تقدما على تقاليد العنف التي نشأ عليها آباؤهم. وقد رأينا كيف أن هذه التقاليد قد صيغت تدريجا في الصورة الهزلية للعنف الذي اتصفت به الفروسية أخيرا. وقد اشتركت الكنيسة مع الدول الدنيوية النامية في استبدال الإجراءات القانونية النظامية بالالتجاء إلى القوة، تدريجا. كما أدى نمو التبادل التجاري إلى مزيد من حماية التجارة والصناعة، حتى أمكن ترويض البارون قاطع الطريق. وحتى عندئذ جلبت المنازعات الاجتماعية الخطيرة في أواخر العصور الوسطى نوعا جديدا من العنف، وذلك بالإضافة إلى ما فرضته الأوبئة المريعة، كالموت الأسود في القرن الرابع عشر. وانشغل الأدب والفن فيما بعد - كما وصفهما وصفا رائعا هويزنجا في كتابه «زوال العصور الوسطى» - بظاهرة الموت.
وإذا نحن ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض كان لنا كل لا يتفق تمام الاتفاق مع بعض ما ذكرناه آنفا عن العصور الوسطى. إن النغمات التي بيناها يمكن أن تتلخص في أنها كانت إحساسا شاملا بما في الحياة من قلق وخلل، أو أنها «استنبات» لهاتين الصفتين. عندنا ثقافة لا تكاد تميز بين ما ليس بالطبيعي والطبيعي، ثقافة سذاجة في التصديق واعتقاد في الخرافة، ثقافة تصوف غير دنيوي وبدائية - وعنف دنيوي، ثقافة المتطرفات والمتناقضات، ثقافة تتذبذب دائما بين البحث عن الكأس المقدسة والبحث عن وجبة الطعام المقبلة. وما الرأي إذن في «الاعتدال» أو في «تجديد» أكويناس؟ أين صفة النضج التي جعلتنا نضع القرن الثالث عشر من بعض وجوهه مع القرن الخامس قبل الميلاد؟ يبدو أن ثقافة العصور الوسطى هذه كانت نوعا من الطفولة، أو الشباب الصاخب، الذي يرمز له رمزا ملائما تمثال الصنبور الذي نحت على شكل رأس إنسان مفكر.
ولا بد لنا من الإبقاء على كثير من متناقضات العصور الوسطى، بل هي أبرز في وجودها منها في أية ثقافة أخرى؛ لأن الثقافات الإنسانية كلها تنطوي على عناصر متناقضة، عناصر لا تقوم على منطق واحد، ولكن العصور الوسطى تظهر في تاريخ الغرب كعصر من المتباينات شديدة الوضوح. ومن أقوى الصفات في ثقافة العصور الوسطى صفة التباين والتناقض التي بلغت أعلى درجة من الوضوح في التناقض بين المثل المسيحية العليا في ثقافتها الرسمية، والمدرسية والفروسية، و«الواقع الملطخ». ولما كانت العصور الوسطى في أوجها قد أخذت أسلوب الحياة المسيحية مأخذ الجد، بل أخذته مأخذا حرفيا، فإن الخشونة، والعنف، والشذوذ، وكذلك «الرتابة» والركود في كثير من نواحي حياتهم اليومية، ترغمنا على التنبيه إليها.
Unknown page