والرواية السابقة هي من غير شك تبسيط للطريقة السقراطية، ولكنها ترينا ما كان يعارض فيه الأثينيون عند سقراط؛ فقد أزعجهم، وشك في الآلهة القدامى، وبدا للأثينيين المحافظين على القديم كأنه اخترع من عنده آلهة أخرى، ولكنهم احتملوه طويلا. ولما بلغ الشيخوخة كانت أثينا في بؤرة التدهور الذي أعقب هزيمتها أمام إسبرطة، وبدسيسة سياسة لا نعرف تفصيلها، وقع سقراط فريسة للاتهام، وحوكم، لما بدا حقا لخصومه أنه إلحاد، وحرية في الكلام تنطوي على الخيانة، وإفساد الشباب. وأدانه القضاة الذين حاكموه بأغلبية يسيرة في الأصوات، وآثر أن يموت على أن ينفى من البلاد. ويعد بحق شهيدا لقضية حرية الكلام، ومن ثم فقد استشهد في سبيل الديمقراطية والتقدم. ولكن قبل أن نحكم على أولئك الذين حكموا عليه، يجب أن نسأل أنفسنا أولا: هل نحب الذباب الذي يلدغ؟
وقد طور فلاسفة الإغريق فيما بعد كل ما تعرض له من سبقوهم، وهذبوا آراءهم، وكونوا المدارس التي تشمل كل ألوان الفلسفة بتفصيلها. غير أن الخطوط العريضة قد اتضحت حتى في تلك الأيام الأولى من القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
وقد فصل الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس ذات مرة فصلا اشتهر ببساطته وقوته بين الفلاسفة أصحاب «العقول المرنة» والفلاسفة أصحاب «العقول الجامدة». وربما كان من الأوضح للقارئ أن يميز بين فلاسفة «العالم الآخر» وفلاسفة «هذا العالم». ونعني ب «هذا العالم» عالم الحواس والإدراك العام (وربما العلوم أيضا) وب «العالم الآخر» كل ما «لا» يتضح للحواس العارية والإدراك العام.
وهذا التقسيم إلى نوعين، إلى الضأن والماعز، كغيره من التقسيمات الساذجة لا تنفع في الواقع في البحث الدقيق، ولكنها تمدنا بشيء تقريبي سهل المنال. وقد أمدنا الإغريق الأوائل بمثال طيب من أمثلة الفلاسفة ذوي العقول المرنة، هو أفلاطون، كما سوف نرى. كما أمدونا بعدد آخر أقل شهرة ولكنهم أمثلة كافية للفيلسوف ذي العقل الجامد. كما أمدونا في أشهر فلاسفتهم أرسطو برجل حاول جاهدا أن يصول في المجالين، وأن يكون مرنا وجامدا في آن. ويجب أن نحلل - في إيجاز وبطريقة عامة غير فنية - الاتجاه الأساسي لكل نمط من هذه الأنماط الفلسفية الثلاثة. وأود أن أنبه القارئ مرة أخرى إلى أن كثيرين من الفلاسفة المحترفين - وربما كان أكثرهم - يشكون في صحة تقسيم جيمس الذي يميز به العقل المرن والعقل الجامد. والواقع أن المسطحات المتغيرة التي صيغ فيها مثل هذا التقسيم - كالاسمي والواقعي، أو الواقعي والمثالي (وقد تقلب معنى لفظ «الواقعي» فيما بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر)، والتجريبي والعقلي - تدل بتناوبها في التاريخ على أن الفلاسفة قد حاولوا أن يتحاشوا هذه المشكلة أو أن يتجاوزوا عنها. غير أن مشكلة التمييز بين النوعين لا تزال قائمة بالنسبة إلى الخارجين عن دائرة الفلسفة. وكثير من الأحكام على الفلاسفة المحترفين في هذا الكتاب هي من وجهة نظر الفيلسوف المحترف واقعة تحت عناوين خاطئة، كالأحكام التي سوف نصدرها - مثلا - على أفلاطون وأرسطو. والقارئ الذي يود أن يكون منصفا يجب أن يقسم بنفسه الفلاسفة. ويستطيع أن يبدأ بداية طيبة ب «جمهورية أفلاطون» و«الأخلاق عند نيقوماخوس» و«السياسة » لأرسطو.
ويمكن الحكم على أهمية أفلاطون في الفلسفة بما لاحظه ألفرد نورث هوايتهد من أن الفلسفة الغربية كلها منذ أفلاطون ليست إلا سلسلة من التعليقات على ما كتب أفلاطون، ولا تتفق هذه التعليقات بأية حال، حتى فيما قصد إليه أفلاطون. ويزداد الأمر اضطرابا لأن أفلاطون كتب محاورات يتقدم فيها المتحدثون بوجهات نظرهم، ويتفقون، ويختلفون، ويواصلون البحث عن الحقيقة طبقا للطريقة التي عرفت منذ ذلك الحين ب «الجدلية» ولا يظهر أفلاطون نفسه كمتحدث، وإن كنا قد ألفنا أن نفترض - وبخاصة في «الجمهورية» ومحاورات أفلاطون الأخرى أيام نضجه - أنه يتحدث على لسان سقراط، وحتى أولئك الذين يسلمون بأن أفلاطون لم يكن مجرد رواية، وإنما كان مفكرا أصيلا، يختلفون كثيرا في تفسيرهم؛ بعضهم يجعله جامد العقل إلى حد بعيد، وبعضهم يجعله مرن العقل تماما.
ويكفينا للوفاء بأغراضنا كمؤرخين للفكر أن نلاحظ أن مؤلفات أفلاطون كنز ثمين لا يزال الناس يغترفون منه، وأن تأثيره كان خلال العصور بوجه عام دفع الفكر الغربي نحو قطب «العالم الآخر». ولا نستطيع أن نعرض صورة مفصلة لميتافيزيقا أفلاطون؛ أي لأكثر أفكاره العامة المجردة. ولكنه يعرف في الميتافيزيقا بمذهب هام جدا، هو مذهب «الأفكار». وربما كان هذا المذهب محاولة من أفلاطون أن يتجاوز التباين الشديد بين مذهب هرقليطس في التغير ومذهب بارمنيدس في الدوام، وهي محاولة منه لأن يوفق بين «الواحد» و«المتعدد» و«الكينونة» و«الصيرورة». وهو مذهب يشق تلخيصه في لغة غير فنية. لكنك إن وجدت العرض الآتي غير مفهوم «بكليته»، فقد عرفت شيئا له قيمته، وهو أنك لم تعد لدراسة الفلسفة (وكم من رجل ذكي أو امرأة ذكية ليس عنده هذا الاستعداد). أما إن وجدت العرض «كله» غير مقبول، فقد عرفت كذلك شيئا له قيمته، وهو أنك لست مرن العقل، لست من المنتمين إلى «العالم الآخر».
يعتقد أفلاطون أن كل الأشياء التي نعرفها بخبرة الحواس، والتي نسميها، ليست سوى أشكال تقريبية ناقصة، من هذا العالم، للأشياء (أفكارا كانت أو أشكالا) المثالية، من العالم الآخر؛ أي إن جميع الخيول المعينة التي نراها صور ناقصة للحصان المثالي السماوي. ولا يمكن - بطبيعة الحال - أن يكون هناك سوى حصان واحد كامل، أبدي لا يتغير، ولا يرى أو يحس بطريقة أخرى، كما ترى أو تحس الخيول الناقصة فوق هذه الأرض. «غير أن هناك علاقة بين الحصان الناقص، أو الواقعي، والحصان الكامل، أو المثالي.» ولن يكون لدينا شيء يشبه المعرفة إلا لأن الواقعي يعكس في صورة معتمة، وفي محاولة التشبه، الشيء المثالي. ولاحظ أننا نقول: «الواقعي»، ولا نقول: «الحقيقي»؛ لأن المثاليين يرون أن «المثالي هو الحقيقي».
وترى بعض العقول أن هذه المثالية نظرة ثاقبة عميقة إلى شيء أبعد في الحقيقة من «حقيقة» اللمس، أو النظر، أو الحس السهلة، بل أبعد من «حقيقة» التفكير العلمي المنظم وهي أشق. وترى عقول أخرى أن هذه المثالية هراء لا معنى له - هراء محير. وقد بذل أفلاطون جهدا جبارا لكي يوضح مذهبه في الأفكار للمثقفين العاديين في مقالة من أشهر ما كتب الناس جميعا، وذلك في تشبيهه في «الجمهورية» بالمسجونين في الكهف.
يقول أفلاطون: تصور مجموعة من المسجونين مكبلين في الأغلال في أحد الكهوف بحيث لا يستطيعون الحركة، ظهورهم نحو الضوء الذي يتسلل خلال باب الكهف، وهم لا يرون مصدر الضوء، ولا يرون ما يجري في العالم الخارجي، وكل ما يرونه هو الانعكاس على الحائط الذي يجابهونه. ماذا يعرفون حقيقة عن ضوء الشمس والعالم الخارجي؟ لا شيء سوى الانعكاسات المعتمة الناقصة! وما يعتقد المسجونون - وهم قوم عاديون مثلي ومثلك - أنه العالم الحقيقي؛ العالم الذي نأكل فيه، ونشرب، وننام، ونجاهد، ونحب، ونعيش، ليس في الواقع إلا ظلا. ولو أن أحد المسجونين استطاع مصادفة أن يهرب ويرى العالم على حقيقته - عالم ضوء الشمس الإلهي - ثم عاد وحاول أن يقص على زملائه المسجونين شيئا مما رأى، للاقى مشقة كبرى في أن يحمل زملاءه المسجونين (الذين لا يستطيع فك أغلالهم) على أن يفقهوا ما يقول. سيكون في الواقع مثل أفلاطون رجلا يحاول أن يشرح لمواطنيه مذهبه في الأفكار.
وقد كان أفلاطون نفسه على دراية تامة بإحدى المشكلات التي عانى منها فلاسفة العالم الآخر، كان لا بد له أن يستخدم «الألفاظ»، مضافا بعضها إلى بعض في صيغة نحوية لغوية، لكي يحاول أن ينقل إلى زملائه هذه المعرفة بالحقيقة الصادقة، أو وصفها؛ لأنه كان يرى أن هذا العالم الآخر هو وحده العالم الحقيقي. ولكن الألفاظ ليست إلا ضوضاء تصدر عن حلوق بشرية، والنمو ليس إلا ترتيبا يتم في الأجهزة العصبية المركزية البشرية. واللفظ والنمو كلاهما ملوث تلويثا كاملا بما في هذه الدنيا من أصوات وأضواء وروائح. ومن المستحيل أن نستعمل لفظ «الحصان» بغير هذا التلويث. وحتى «فكرة» المخترع عن مخترعه ليست عند صاحب العقل الجامد إلا «مزيجا» من الخبرات المتقطعة عن موضوع معين من هذه الدنيا المحسوسة فعلا.
Unknown page