لم يئوني البيت منذ فارقتك ظهر أمس يا حميدتي العزيزة، ومع ذلك فقد قضيت فيه وقتي كله منذ انصرف بك القطار عن القاهرة إلى هذا الوقت الذي أكتب إليك فيه وقد كاد يرتفع الضحى، ذلك أن في نفسي صورة لا تريد ولا أريد أنا أن تفارقني، وهي صورتك قبل الرحيل وقد انتحيت ناحية من غرفتنا ووقفت واجمة لا تنطقين، ثم لم أكد أقبل عليك وأدعو باسمك حتى رفعت إلي عينا مثقلة لا تريد أن ترتفع، ثم انهمرت دموعك انهمارا صامتا لا يتبعه ما يتبع دموع النساء عادة من زفير وشهيق. وقد نظرت إليك وأنت في هذه الحال ساعة لم أقل لك شيئا ولم أقل لنفسي شيئا، وإنما وجمت كما كنت واجمة، ثم انهمرت دموعي كما انهمرت دموعك، ثم قام كل منا في مكانه لحظات لا أدري أكانت طوالا أم قصارا، ولكنها كانت لحظات صمت عميق يغمره دمع غزير. ثم سعيت إليك في رفق فضممتك إلي وطوقتك بذراعي، فلم تقولي شيئا وإنما أسندت رأسك إلى كتفي وظل دمعك ينهمر سخينا غزيرا ثم أخذت رأسك بين يدي، ولثمت عينيك كأنما أريد أن أشرب دمعك شربا، ثم قبلت جبهتك وخديك، ثم ضممتك إلي مرة أخرى فقبلتني ثم افترقنا ومضى كل منا في الاستعداد للرحيل.
لم تفارقني هذه الصورة أو هذه الصور ولا أريد أن تفارقني، فما زلت منذ أمس أنظر إليك واجمة وأرى دموعك تنهمر ثم أراك بين ذراعي تذرفين دموعك على كتفي، ثم أراني أقبلك وأراك تقبلينني، ثم أراك تسعين في الغرفة ذاهبة جائية تهيئين متاعك في صمت متصل لا يقطعه شيء حتى ولا زفرة من الزفرات، ولقد اضطربت في المدينة بقية النهار وشطرا من الليل ولقيت كثيرا من الناس فتحدثت إليهم وسمعت منهم، وخيل إلي أنهم يفهمونني وخيل إلي أني أفهمهم، وخيل إليهم في أكبر الظن أني كنت كما تعودوا أن يروني دائما ثرثارا ساخرا متصل العبث والمزاح ولكن الله يشهد ما خلصت لواحد منهم ولا خلص لي واحد منهم، وإنما كنت أمنحهم بعض نفسي أو كنت أمنحهم أيسر ما يستطيع الرجل أن يمنح من نفسه. وكنت أرى أن هذا يكفي لأفهم عنهم وليفهموا عني، وكانت خلاصة نفسي مملوءة بك منصرفة إليك تملؤها هذه الصورة وتمتزج بها امتزاجا حتى لكأنها هي، ولست أدري: أتعرفين أني كثير التفكير والتحليل، وأني لا أحس شيئا ولا أجده إلا فكرت فيه وحاولت تحليله وتعليله! ولكن كيف تعرفين ذلك أو تقدرينه ولم يكن بينك وبيني إلا أيسر ما يكون من الصلات بين الأزواج، فأنت لا تعرفين من أمري إلا أقله وأيسره، وأنا لا يفوتني من أمرك إلا أقله وأيسره، لست أدري أتعرفين أني كثير التفكير والتحليل؟! ولكن حين رأيت إلحاح هذه الصورة علي ولزومها لنفسي وامتلاكها لقلبي وامتلاء خواطري بها وأحسست ما كان بينها وبين نفسي من الامتزاج، أخذت أفكر فيم يقوله بعض الناس من أصحاب التصوف حين يتحدثون عن امتزاج الظرف بالمظروف والعقل بالمعقول والفكر بموضوع التفكير، ولكن فيما أتحدث إليك يا حميدة البائسة؟ إني لأقص عليك سخفا لا يغني ولا يستطيع أن يبلغ سمعك ولا أن يستقر فيه ولا أن يتجاوزه إلى قلبك الحزين، وما أنت وما هذا الكلام؟ وما أنا والتحدث به إليك؟ وإنما أريد أن أرسل إليك كتابا كله حب وكله بر وكله حنان. فأين هذا مما أخذت أهذي به وأخوض فيه؟! أفكتب علينا ألا تلتقي نفسانا فيطول بينهما اللقاء؟ أفكتب علينا ألا يكون بيننا الامتزاج الحلو الذي لا يخفى معه من أحدنا شيء على صاحبه، لا من حسه حين يحس، ولا من شعوره حين يشعر، ولا من تفكيره حين يفكر؟! أفكتب علينا أن تلتقي أجسامنا وألا تلتقي نفوسنا إلا لحظات قصارا في نظرات قصار سراع كأنما نختلسها اختلاسا؟ ولكن أتفهمين عني ما أقول؟ أتحسين ما أحس؟ أتجدين ما أجد؟ إني لم أتعود أن أتحدث إليك مثل هذا الحديث وإنما تعودت ألا أتحدث إليك إلا قليلا، ولا أتحدث إليك إلا في أيسر الأشياء وأدناها إلى السخف وأشدها اتصالا بشئون حياتنا المادية مما يمس شئون البيت، ما أذكر أني تحدثت إليك في الحب، وما أعلم أنك تحدثت إلي فيه. كنت أرى أنك لن تفهمي عني إذا تحدثت إليك بما أجد، وكان الحياء يمنعك من أن تتحدثي إلي ببعض ما تجدين، وكنا نكتفي بالنظرات الحلوة القصيرة يملؤها الحنان، وكنا نكتفي بحلاوة الصوت ولين الألفاظ وعذوبة النبرات حين نتحدث في أي شأن من الشئون ليشعر كل منا بما يجب من الحب والعطف ومن الحنو والإخلاص وكانت حياتنا على هذا النحو صريحة واضحة في شئونها المادية، وكانت رمزا أو شيئا أشد غموضا من الرمز فيما يمس شئون القلب والنفس والضمير؛ ولعلنا لم نشعر قط بأن لنا شيئا من حياة القلب والنفس والضمير، فلم نفكر قط في تحليل ما بيننا من صلة أو في تأويله وتعليله. ومتى كنا نستطيع أن نفكر في ذلك وقد كنت مشغولا عنك بالعمل والكتاب، وكنت مشغولة عني بالبيت، وكنا لا نلتقي إلا لنتحدث فيما يتحدث فيه الأزواج من الأمور غير ذات الخطر التي لا تمس قلبا ولا نفسا ولا ضميرا، ماذا أقول! وإلى من أكتب؟ وإلى من أسوق هذا الحديث؟ أترين أنك تفهمين عني هذا الكلام؟ وما أظن! فكيف تفهمينه وأنت تسمعينه لأول مرة؟ ومع ذلك فإني شديد الحاجة إلى أن أتحدث إليك كما تعودت أن أتحدث إلى نفسي بهذا الأسلوب العسير الدقيق، وعلى هذا النحو الذي لا ينقصه العوج ولا الالتواء.
ومع ذلك فقد كان يسيرا كل اليسر هذا المعنى الذي أردت أن أتحدث به إليك حين بدأت هذا الكتاب، فقد كنت أريد أن أنبئك بأني لم أستطع أن أستقر في بيتنا بعد فراقك؛ لأني وجدت فيه وحشة نفتني عنه وجعلت مقامي فيه مستحيلا، فهمت في المدينة وتلمست السلوة عند الأصدقاء بقية النهار وطول الليل. ولم أستطع مع هذا أن أنسى البيت أو أنسى غرفتنا فيه أو أنسى صورتك في هذه الغرفة طول هذا الوقت برغم الاضطراب في الأرض والاختلاف إلى الأندية والاتصال بالأصدقاء.
هذا ما كنت أريد أن أتحدث به إليك حين أخذت أسطر هذا الكتاب؛ فهو يسير سهل كما ترين، ولكني مع ذلك لم أكن آخذ فيه حتى تعقد والتوى بي أو التوى علي، ودفعني إلى أنحاء من التفكير ومذاهب من القول بعدت بي عن الغاية ولم أخلص منها، ولم أعد إلى ما كنت أريد إلا بعد مشقة وعناء. وكذلك أنا في حياتي الشاعرة مضطرب ملتو كثير الاستطراد، لا أفكر في شيء إلا أثار لي أشياء، ولا آخذ في مذهب إلا التوى بي إلى مذاهب تشق شقا من نواحيه، فأنا أيامن مرة وأياسر أخرى، وربما نسيت الطريق التي أخذت فيها أول الأمر، ومضيت في الاستطراد إلى غير أمد.
وكذلك أنا في حياتي العملية لا آتي أمرا إلا أثار لي أمورا وفتح لي أبوابا من النشاط مختلفة الجهات بابا بابا. ولعلي ألج واحدا منها فلا أخرج منه، وإنما تفتح لي أبواب أخرى، فأنا مضطرب حين أفكر، وأنا مضطرب حين أعمل، وأنا مضطرب حين أقول. والغريب أني أستطيع مع هذا الاضطراب كله أن أعرف لحياتي وحدة وأن أتبين لها طريقا متشابهة تنتهي أو تريد أن تنتهي إلى غاية مقاربة. ماذا أقول؟ هأنذا قد بعدت عنك وعما أكتب إليك من أجله، وفرغت لنفسي أو شغلت بها، فأنا أدرسها وأسرف في درسها وتحليلها، وإن كنت أعلم أن لدي من الوقت ما يكفي للنظر في المرآة ولأرى هذه النفس التي أحب وأكره أن أراها، وليس لدي من الوقت ما يسمح لي بالتحدث إليك فيما أريد إلا القليل. ومن يدري! لعل نفسي غير الشاعرة التي تجور بي عن القصد وتنحرف بي عن الطريق المستقيمة لأنها تشفق من المضي إلى الغاية التي من أجلها أكتب، تشفق عليك وتشفق علي أيضا. فإن الأمر الذي أريد أن أتحدث إليك فيه ثقيل خطير، ما أحسب أنك تقوين على استماع حديثي فيه، وما أشك في أني محتاج إلى شيء كثير جدا من الشجاعة والجلد لأمضي في هذا الحديث. وكذلك ترفق نفسي غير الشاعرة بنفسي الشاعرة، وتحميها من بعض ما تكره، وتريد أن تؤخر عنها العذاب. فما أشد سلطان الأثرة علينا! وما أشد استئثار الضعف بنفوسنا! وما أشد امتلاك الخوف لقلوبنا ولا سيما حين نزعم أننا أقوياء وحين نريد أن نظهر الناس على أننا أقوياء! ولولا ذلك لما تكلفت هذا الكلام الطويل، ولما دفعت إلى هذا القول الملتوي حين أحاول أن أنبئك بنبأ مهما يكن ثقيلا خطيرا فهو واضح لا غموض فيه، ولكن أستحي منك وأستحي من نفسي وأشفق من الصراحة فأتقيها بالفلسفة والتواء الكلام، فلأتشجع إذا ولتتشجعي أنت أيضا، ولأقل إذا ولتسمعي أنت ما أريد أن أقول! إن القلم ليضطرب في يدي، وإن يدي لتجمد فلا تكاد تتحرك، وإني لمحتاج إلى أن أكف عن الكتابة حينا لأسترد القوة والجرأة والنشاط. وهأنذا أستأنف الكتابة وأدافع عن نفسي دفاعا شديدا لأحول بينها وبين الاستطراد، ولأكرهها على المضي فيما تلتمس الفراغ منه، ولأحملها على أن تقسو عليك وعلي فنلقي إليك بهذا النبأ وهو أننا لن نلتقي بعد اليوم.
أف! لقد ألقيت العبء وتخففت من الثقل، واستطعت أن أتنفس في غير حرج ولا ضيق، وأحسست كأني أصبحت طليقا حرا وقد كنت مقيدا مغلولا؛ لا لشيء إلا لأني ألقيتك إليك هذا النبأ بعد أن كنت أتحرج من إلقائه، وأصبحت ملزما أن أعلله لك وأن أفسره وأن أرد عن نفسي ما سيثور في قلبك من الشبهات. وأنا أعلم أنك لن تصدقيني ولن تؤمني لي ولن تقبلي شيئا مما أقول، ولكن أقسم مع ذلك ما طلقتك عن قلى ولا فارقتك عن زهد فيه أو رغبة عنك أو نفور منك. وإني أقسم ما أحببتك قط كما أحبك الآن، وما آثرتك قط كما أوثرك الآن، وما عرفت سلطانك علي ويدك عندي كما عرفتهما الآن. بل أقسم إني لأحس كأنما أشطر قلبي شطرين، فأحفظ شطره في صدري وأرسل شطره الآخر إلى مكان بعيد في أعماق الريف حيث لا يتاح لي أن ألقاه، بل أقسم ما طلقتك إلا حبا فيك وإيثارا لك وضنا بك على ما أكره. ولأكن صادقا كل الصدق؛ فإن الضعف والعجز والخور، كل هذه العيوب هي التي تدفعني إلى أن أفارقك أشد ما أكون لك حبا وأعظم ما أكون لك حبا وأعظم ما أكون عليك حرصا. لم أستطع أن أوثرك على أوربا فأبقى معك، ولم أستطع أن أطمئن إلى أني سأكون وفيا إذا عبرت البحر فأحتفظ بما بيننا من صلة الزواج. ولست أريد هذا الوفاء الخلقي الذي يتصل بالنفس، فأنا واثق بأني قادر عليه، بل أنا واثق بأنه سيعذبني وسيكلفني آلاما وأسقاما، إنما أريد الوفاء الكامل الشامل الذي يملك النفس كلها والقلب كله والضمير كله والجسم أيضا، أريد هذا الوفاء الذي لا يبيح شركة ولا توهمه للشركة ولا تفكيرا فيها، وأنا آسف أشد الأسف محزون أشد الحزن؛ لأني أعلم أني سأتعرض للفتنة إذا عبرت البحر، وأن بعض اللحظ سيمس قلبي، وأن بعض الجمال سيستهويني، وأن بعض الشر سيدفعني إلى شيء من الغي. وما أحب أن أعرض حبك، أستغفر الله، بل ما أحب أن أعرض زواجنا للإثم والفساد، لا أستطيع أن أخفي عليك ما قد أقترف من إثم؛ لأني لم أعودك ولم أعود نفسي الكذب، ولا أستطيع أن أعترف لك بما قد أقترف من إثم؛ لأني إن فعلت آذيتك في غير حق وفي غير جدوى، وعرضت ما بيننا للفساد. وأنا إن كذبت عليك أهنت نفسي بالكذب، وإن اعترفت لك أهنت نفسي بالاعتراف، وإذا فما لي لا أستقبل الحياة شجاعا جريئا مستمتعا بلذاتها محتملا لتبعاتها! كم كنت أريد أن أكون قويا قادرا على أن أقاوم الشر وأعاف الإثم، وأحتفظ بقلبي طاهرا نقيا، وبجسمي عفيفا نظيفا، وأردهما إليك بعد العودة كما ارتحلت بهما عنك أول الرحيل، ولكني عاجز عن ذلك، أو عاجز عن الاطمئنان إلى ذلك. والغريب أن من الممكن أن أعبر بحر الغواية ولا أغوى، وأن أقضي أعوام الغواية نقيا طاهر القلب، وأن أكون قد شققت على نفسي بهذا الحرج وحملتها ما كنت أستطيع ألا أحملها، هذا ممكن ولعله أن يكون، ولكني لا أكتفي بالممكن ولا أطمئن إلى الظن، إنما أريد الثقة ولا سبيل إليها، وأطمع في اليقين ولا أمل فيه، ولهذا أتكلف ما أتكلف وأقدم على هذا الأمر العظيم.
أترين أنك فهمت عني؟ ما أظن! ومتى فهم العقلاء عن المجانين؟ أترين أنك صدقتني؟ وما أظن! ومتى صدق الناس مثل هذا الهذيان؟ يا للحزن ويا للأسى! لمن أكتب هذا الكتاب وإلى من أسوق هذا الحديث، إنك إن قرأته فلن تفهميه، وإن فهمته فلن تقبليه، فكيف وأنت لن تقرئيه؟! إني لغافل ذاهل، إني لمدله مجنون. لقد أنسيت أنك لا تقرئين ولا تكتبين فمن الذي سيقرأ عليك هذا الكتاب ويفسره لك من أهل الريف؟ كلا لن أتمه ولن أرسله إليك، ولن تعلمي من أمري إلا أني رجل قاس غليظ مسرف في كفر النعمة وجحود الجميل! متتبع للأهواء والشهوات، لا أتحرج من شيء ولا أعرف لجموح نفسي غاية تنتهي إليها أو حدا تقف عنده. سيسقط النبأ في أسرتنا كما تسقط الصاعقة، وسيلقونه إليك في عنف أو في لين، وستجزعين وتظهرين التجلد، وسيبكي قلبك وتتكلف عيناك الجمود. ثم ستمر الأيام، وستحرصين على أن يصل إليك بعض أنبائي دون أن يعرف منك هذا الحرص، ثم سيأتي الخاطبون، كلا! لا أريد أن أمضي إلى أبعد من هذا الحد في التفكير، فما أرى أني أقوى على المضي، لقد أبطأ علي صاحبي وكلفني انتظارا طويلا، ليته يقبل فيخرجني من هذا العناء ...
قرأ غلامي الأسود الصغير هذا الكتاب بعد أن انصرف عني صاحبي فلم أكد أفرغ من قراءته حتى رثيت له، وسألت نفسي كيف يكون موقع هذا الكتاب من حميدة البائسة لو أنها استطاعت أن تقرأه وتظهر على ما فيه!
12
يوليو في ...
Unknown page