وما دمت يا سيدي تعرف فلانا وفلانا وفلانا من أصحاب الجاه وأعضاء الجامعة فليس لك بد من أن تتحدث إليهم، ومن أن تتحدث إليهم اليوم، ومن أن تتحدث إليهم أمامي، لهذا كله تركت عملي، ولهذا كله استأجرت هذه العربة، ولهذا كله استعجلتك هذا الاستعجال. وما هي إلا أسابيع حتى تم لصاحبي ما كان يريد، وأصبح عضوا في بعثة الجامعة وأخذ يتهيأ للرحلة إلى باريس.
7
يونيو في ...
ليتني لم أسمع لك أيها الصديق، فقد كنت أوثر أن أرتحل إلى فرنسا دون أن أذهب إلى ريفنا الحزين لأرى أبوي وأسرتي ولأرى قريتنا، ولأملأ نفسي من هذه المشاهد الجميلة التي نشأت فيها، وكنت أرى أني سأجد في هذه الرحلة القصيرة إلى الريف آلاما يحسن أن أتجنبها وأن أستقبل الحياة الجديدة بنفس مشرقة وقلب لا يجد حزنا، ولا يحس لوعة، ولا يأسى على شيء، وأنا أكره الوداع وأرى في السفر كما يقول بعض الشعراء الفرنج نوعا من الموت، ولا أحب أن أتلقى الموت مهما يكن يسيرا، على علم به، وانتظارا له، وإشفاق منه. وإنما أوثر أن يفاجئني مفاجأة، وأن يختطفني اختطافا، وأن أخرج من الحياة جاهلا بخروجي منها كما أقبلت على الحياة جاهلا بإقبالي عليها .
لقد كنت شديد التردد في الذهاب إلى الريف، أحس من نفسي ضعفا شديدا على احتمال هذا الوداع المؤلم، وداع هذين الشيخين اللذين لم يكونا يحتملان إقامتي في القاهرة بعيدا عنهما إلا كارهين، فكيف بهما إذا علما أني لن أقيم في القاهرة، ولن تكون بينهما وبيني ساعات، ولكني سأعبر البحر الملح العريض إلى بلاد نائية لا تحسب المسافة بيننا وبينها بالساعات، وإنما تحسب بالأيام. لقد كانا يكرهان أشد الكره إقامتي في القاهرة، هذه المدينة التي لا يتكلم أهلها كما نتكلم، ولا يعيش أهلها كما نعيش، والتي يملؤها الفساد ويملؤها الصلاح في وقت واحد، والتي يجري في شوارعها الترام والتي يكثر بين أهلها المحتالون والسراق، والتي يخرج الرجل من بيته فيها فلعله لا يعود إليه. فكيف بهما حين يعلمان أني سأقيم في ذلك البلد البعيد الغريب الذي لا صلة بينه وبيننا في لون من ألوان حياتنا المعروفة، والذي لا يعلمان من أمره إلا أنه بلد الفتنة والعبث وموطن اللهو والمجون، أليس إليه يقصد السراة وكبار الأغنياء والمترفين من سادات الريف إذا اجتمعت لهم المقادير الضخمة من الذهب، فلا يكادون يقضون فيه الصيف حتى يعودوا وقد صفرت أيديهم من كل شيء، وهم يقصون من أنبائه وأحاديث العبث والفسوق فيه ما تشيب له الأطفال، وترتاع له نفوس الرجال. لقد كنت أقدر هذا كله حين كنت تجادلني في زيارة الريف قبل أن أبرح الأرض، ولكنك ما زلت تلح علي وتذكرني وتثير في نفسي العواطف والذكريات، حتى استحييت منك ومن أبوي ومن الناس ومن نفسي أيضا، ورأيت أني لا أستطيع أن أفارق مصر، دون أن أرى هذين الشيخين، فمن يدري؟! لعلي أذهب فلا أعود، ومن يدري؟! لعلي أعود فلا ألقاهما.
هنالك رحلت إلى الريف وليتني لم أفعل، فلم أكن أظن أني سألقى في هذا الريف ما لقيت في حزن لاذع وألم ممض ويأس لا صبر معه ولا احتمال له.
لا أصف لك جزع أمي ولا سخط أبي، فحسبك أن تعلم أن أمي لا تصيب من الطعام إلا ما يقيم الأود، وهي لا تصيبه إلا بعد إلحاح متصل، وأنها لا تذوق النوم إلا غرارا وأنها لا تمسك الدموع، وإنما ترسلها إرسالا حتى تنقطع، وأنها تعتقد اعتقاد يقين أنها قد فقدت ابنها الذي كانت تحبه وتؤثره وتدخره للحوادث والنائبات، وهي تمقت الجامعة وأيام الجامعة والذين فكروا في الجامعة، وهي تمقت العلم والذين يحبون العلم ويدعون إليه، وهي تلعن المدارس وهذا التمدن الذي علم مصر فتح المدارس، وهي تأسف أشد الأسف وتندم أقسى الندم كلما ذكرت ذلك اليوم الذي أراد فيه أبي أن يقلد أباك، فأخرجني من الكتاب كما أخرج أبوك من أخرج من إخوتك، وأرسلني معهم إلى المدرسة الابتدائية في عاصمة الإقليم، هنالك حيث طرحت زي الريف واتخذت هذا الزي الأوربي، ووضعت على رأسي هذا الغطاء البغيض.
ولست أخفي عليك أنها تنال أسرتك بكثير من لاذع القول، فهي التي ألقت في روعنا أن من الخير أن يتعلم الأطفال في هذه المدارس، وأن يلبسوا الطربوش، وأن يلووا ألسنتهم بالرطانة الأجنبية، وأن يصبحوا موظفين. وهي لا تفهم كيف استطعنا أن نعدل بما تعودت أسرتنا منذ الزمن البعيد من الاختلاف إلى الكتاب حتى نحفظ القرآن، ونحسن القراءة والكتابة، ومن الاختلاف إلى الأزهر حتى نحصل شيئا من علوم الدين، ثم نعود إلى القرية حيث الجد والعمل، وحيث الغنى والثروة، وحيث الجاه وبعد الصيت.
لا أطيل عليك فأمي ثائرة إذا أصبحت، ثائرة إذا أضحت، ثائرة إذا قبل المساء، ثائرة إذا جنها الليل، ثائرة حتى امتلأ البيت حزنا وسخطا وبكاء، فأما أبي فمتنكر متنمر، ينذر فيلح في النذير، ويتلطف فيلح في التلطف، فإذا أعياه النذير ولم يسعد الاستعطاف، خرج عن طوره فأسخط من حوله جميعا، وجعل حياتهم لا تطاق، وأقسم جهد أيمانه ليقطعن ما بينه وبيني من سبب وليعيشن منذ الآن كأني لم أكن له ابنا، ولو أني استمعت لنفسي أيها الصديق لما أقمت في هذا الجحيم إلا يوما أو يومين، ولأسرعت إلى القاهرة فانتظرت فيها معك ومع أصدقائنا هذا اليوم السعيد الذي تتملع فيه السفينة بنا إلى هذا العالم الجديد الذي ملك علي نفسي كلها وقلبي كله.
ولكن كيف أستطيع أن أدع هذين الشيخين فيما هما فيه، ولما أبذل ما أقدر عليه من الجهد لأهون عليهما الأمر بعض الشيء، ولأردهما إلى بعض الطمأنينة ولأرحل عنهما وهما راضيان غير ساخطين. وإني لأجد في ذلك ما وسعني الجد، وأحتال لذلك ما واتتني الحيلة، وأستعين على ذلك ببعض من له حظ من فهم، ونصيب من ذكاء وعلم بحياتنا وما تقتضيه من تطور، وبما بين حياتنا في هذا العصر وحياة آبائنا قبل أن نولد أو حين كنا أطفالا، وما أظن أني سأبلغ وحدي أو بمعونة هؤلاء الناس شيئا، فأمي مستيقنة بأني إذا سافرت فقد فقدتني، وأبي مقتنع بأني إن سافرت فقد قطعت بينه وبيني كل سبب.
Unknown page