Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
يتضح هذا الأساس المكاني المرن للأفكار المتعلقة بالوقت بصورة أكبر حين نفكر في طريقة أخرى يمكننا تصوير الوقت مجازيا من خلالها، وهي تصويره متحركا من اليسار إلى اليمين على خط يمكن قياسه. في ثقافتنا وغيرها من الثقافات، يوجد عدد هائل من الطرق التي يصور بها الوقت على مثل هذا النحو، ومنها التقويمات وشريط التقدم على «نتفليكس» و«يوتيوب»، والخطوط الزمنية في كتب التاريخ، وما إلى ذلك. وتقترح بعض الأدلة التجريبية القوية، أن مثل هذه الممارسات الرمزية الافتراضية، تؤثر على كيفية إدراكنا للوقت؛ فعلى سبيل المثال، حين تقدم إلى بعض الأمريكيين، مجموعة من الصور تصور أحداثا في مراحل مختلفة (صور لثمرة موز تقشر وتؤكل مثلا)، ثم يطلب منهم أن يقوموا بترتيب الصور في الاتجاه المناسب من البداية إلى النهاية، فإنهم يرتبونها عادة من اليسار إلى اليمين، حيث تكون الصور التي تمثل المراحل المبكرة أقرب إلى الجانب الأيسر من أجسادهم. أما حين يطلب من أفراد ينتمون إلى ثقافات أخرى أداء المهمة نفسها، يتغير الترتيب. في وقت قريب، اكتشفت عالمة اللغويات أليس جابي وعالمة النفس ليرا بوروديتسكي في ثقافة الثايور، التي تقع في شبه جزيرة كيب يورك، أن الأفراد لا يرتبون الصور من اليسار إلى اليمين، ولا من اليمين إلى اليسار (وهو نمط يظهر في بعض الثقافات). بدلا من ذلك، يرتبونها وفقا لمسار الشمس، حيث توضع الصور التي تدل على المراحل المبكرة باتجاه الشرق، والمتأخرة باتجاه الغرب، بصرف النظر عن الاتجاه الذي يقابله الشخص الذي يرتب الصور.
2
إن مثل هذه الاكتشافات تعكس أمرا مهما؛ وهو أن كيفية تفكيرنا في الوقت تعود بصورة كبيرة إلى الممارسة اللغوية والثقافية. وهنا تظهر الأعداد في القصة التي تروي الطريقة التي نفهم بها مثل هذا الجانب الأساسي من حياتنا؛ فمن الواضح أن الأعداد تمس طريقة تفكيرنا بشأن حركة «الوقت»، وسواء أكنا نرى أن الوقت يمر بنا، أم كنا نرى أنه يتحرك على خط زمني أمامنا، فإن هذه «الحركة» يمكن تقسيمها وعدها. فلتفكر مرة أخرى في أشرطة التقدم التي نراها في مقاطع الفيديو المتوفرة على الإنترنت، وكيف أن الأعداد (التي تدل على الدقائق والثواني) تتتبع الأيقونة التي تمثل اللحظة التي تعرض في مقطع الفيديو. والواقع أن الأعداد متغلغلة في التمثيلات المكانية الرمزية للوقت، مثل التقويمات التي تسير من اليسار إلى اليمين والخطوط الزمنية. ويمكننا القول بأن هذا التصور العقلي للوقت، بهذه الطريقة المرتكزة على الأعداد، يحكم حياتنا.
ما الوقت الآن؟ بالنسبة إلي فالوقت الآن، بينما أكتب هذه الكلمات على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، هو 10:46 صباحا. ولأننا في ذلك الوقت من اليوم، فأنا في غرفة مكتبي أجلس عليه، ولست في المنزل أو أي مكان آخر. لكن ما الذي يعنيه ذلك الوقت فعلا؟ حسنا، إنه يعني أنه قد مرت عشر ساعات وست وأربعون دقيقة منذ منتصف الليل، لكن ذلك مجرد إعادة صياغة مطنبة لا حاجة لها؛ ما الساعات؟ وما الدقائق؟ الواقع أنها لا توجد بمعزل عن خبرتنا العقلية والعددية؛ إنها ببساطة وسيلة عشوائية لوصف وجودنا بصورة كمية، ووسيلة لتقسيم هذ المرور المجازي للوقت إلى وحدات منفصلة. إنها تدل على أن البشر قد اختاروا في مرحلة ما أن يحددوا كميات الوقت، وأن يعدوا لحظات التجربة. ربما يكون الوقت واقعا يوجد بمعزل عن خبرتنا، لكن الساعات والدقائق والثواني لا توجد إلا في عقولنا، بصفتها وسيلة للانخراط في العالم. ووسيلة الانخراط هذه قد تولدت هي نفسها عن تقاليد ثقافية ولغوية محددة؛ إن وحدات الوقت من الساعات والدقائق والثواني هي نفسها بقايا نظام عددي قديم، وما هذه الوحدات حقا إلا آثار لغوية من حضارات منقرضة.
فلنتأمل في تقسيم كل دورة من دورات الأرض كل يوم إلى 24 ساعة. لم يقسم كل يوم بهذه الطريقة؟ ما من سبب فلكي لهذا التقسيم، فعلى أي حال، يمكننا نظريا أن نقسم اليوم إلى أي عدد نشاء من الساعات. غير أن النظام الذي نستخدمه لضبط الوقت، يدين بوجوده بصورة كبيرة إلى تقليد قد بدأه قدماء المصريين، الذين اخترعوا الساعات الشمسية قبل أكثر من 3000 عام. لقد صممت هذه الساعات الشمسية لتقسيم ضوء النهار إلى اثني عشر جزءا متساويا. وقد جاء نظام التقسيم إلى اثني عشر جزءا نتيجة لاختيار اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار وفقا لطريقة تلائم ثقافتهم، وذلك من خلال قياس الظل على الساعات الشمسية. أتاح هذا الاختيار وجود عشر وحدات يمكن تقسيمها بدءا من شروق الشمس حتى غروبها، وهو اختيار طبيعي إذ كان قدماء المصريين يستخدمون نظاما عشريا للأعداد كالذي نستخدمه الآن. غير أن مبتكري الساعات الشمسية قد أضافوا وحدتين: إحداهما للفجر والأخرى للغسق، وهما الفترتان اللتان لا تكونان مظلمتين، لكن الشمس لا تظهر فيهما في الأفق. وذلك القرار البسيط الذي اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار بهذه الطريقة، قد أنتج وحدات الوقت التي تستند إلى العدد 12، فأصبح للأيام طابع اثنا عشري. وكما سنرى في الفصل الثالث، توجد العديد من الأساسات المختلفة في الأنظمة العددية المنطوقة في العالم، لكن النظام الاثني عشري غير منتشر على الإطلاق (وهو مربك بعض الشيء للعديد من الأفراد الذين يستخدمون الأنظمة العشرية على سبيل المثال). بالرغم من ذلك، فبسبب الاختيار الذي اتخذه القائمون على ضبط الوقت من قدماء المصريين، فإن لغتنا وتفكيرنا عن الوقت، يستندان بدرجة كبيرة إلى نظام هو أشبه ما يكون بالنظام الاثني عشري. وقد أصبح هذا النظام مترسخا في حياتنا بشدة في الوقت الحالي، وهو يفرض منظورا محددا على أيامنا. ويعود السبب في تقسيم الليلة إلى اثنتي عشرة ساعة إلى قدماء المصريين أيضا، وكذلك يعود إليهم السبب في تقسيم دورة الليل والنهار التي تتكون من 24 ساعة، والتي نعرفها جميعا الآن، وإن كان ذلك بصورة أقل مباشرة. كان علماء الفلك من الإغريق في العصر الهلنستي، هم الذين قننوا النظام الأخير بصورة أكثر نظامية، بالرغم من ذلك، لم يحظ تقسيم الساعات بدقة إلى وحدات متساوية المدة بالتقدير والاستحسان، إلى أن تم اختراع آلات دقيقة لضبط الوقت. (لم تخترع ساعة البندول، وهي اختراع أساسي لضبط الوقت، حتى منتصف القرن السابع عشر.) ومن ثم، فإن وجود الساعات هو حادثة تاريخية في نهاية المطاف؛ فلو كانت الساعات الشمسية التي ابتكرها قدماء المصريين قد قسمت ضوء النهار إلى عشر وحدات بدلا من اثنتي عشرة وحدة، لأصبح لدينا الآن عشر وحدات في اليوم والليلة على التوالي، بدلا من اثنتي عشرة وحدة، ولأصبحت دورة الأرض مقسمة إلى عشرين «ساعة».
3
وفي حقيقة الأمر، استخدم نظام ضبط الوقت العشري في فرنسا بعد الثورة مباشرة، غير أنه لم يصمد بسبب الترسخ الثقافي للساعات والدقائق. يبدو أن الإطاحة بالملكية وضرب عنق عدد كبير من المواطنين، أسهل على شعب من إعادة توجيه تفكيره وفقا لوحدات جديدة للوقت.
الدقائق والثواني هي أيضا نتيجة قرارات ثقافية ولغوية عارضة، قد اتخذت قبل وقت طويل. ويعزى وجود هذه الوحدات إلى النظام الستيني (على أساس العدد 60) الذي استخدمه البابليون والسومريون من قبلهم. ويبدو أن هاتين الثقافتين هما أول من استخدم هذا الأساس للحسابات الفلكية؛ وذلك لأسباب لا تزال غامضة. حيث يعتقد البعض أن النظام الستيني قد اكتسب شهرة في بلاد الرافدين؛ لأنه يقبل القسمة على الأعداد من 1 إلى 6، وكذلك على 10 و12 و15 و20 و30. ويعتقد آخرون أن مثل ذلك النظام الستيني قد ظهر على الأرجح لأن البشر لديهم خمس أصابع في اليد، ويمكنهم استخدامها في عد المفاصل الاثني عشر الموجودة في أصابع اليد الأخرى، فيما دون الإبهام (و5 × 12 = 60). وبصرف النظر عن هذا، فإن الأنظمة الستينية ليست منتشرة بالقدر الكبير؛ فهي لم تتطور سوى مرات قليلة على مدار تاريخ اللغات في العالم، لكن الطبيعة الستينية لنظام العد البابلي هي السبب في أن الدقائق والثواني تستغرق المدة التي تستغرقها؛ لأن تلك هي وحدات الوقت التي تتوصل إليها حين تقسم الساعات والدقائق من بعدها بهذا الترتيب على ستين. ويمكن للبشر الآن أن يعتمدوا على قياسات مستقلة لتعريف الثواني، مثل المدة التي يستغرقها عدد محدد سلفا من ترددات الطاقة في ذرة سيزيوم، وهذا التعريف هو المقياس في الساعة الذرية. غير أن الاختيار لم يقع على مثل هذا المقياس إلا لأن قيمته تساوي قيمة الثانية التقليدية تقريبا، وهي ليست سوى منتج لنظام عددي قديم، قد جاء بطريقة فعالة للدلالة على الوقت، لكنها قد تكون غير عملية.
خلاصة القول، أن فهمنا للوقت يتأثر بالربط المجازي بين الوقت والمكان. لكن الأهم أن منظور الوقت المستند إلى المكان، يقاس بطرق تعتمد كليا على وجود الأعداد. وعلى وجه أكثر تحديدا يعتمد هذا القياس الكمي على خصائص أنظمة عددية كانت تستخدم قبل ذلك في أماكن مثل بابل القديمة. إن طريقة تفكيرنا في الوقت: على هيئة وحدات منفصلة يمكن قياسها من الساعات والدقائق والثواني، تعود إلى سمات من اللغات والثقافات المندثرة، وهي سمات لا تزال آثارها حاضرة في حياتنا المعاصرة. وهذه الآثار توجهنا باستمرار بشأن كيفية تنظيم خبرتنا اليومية؛ ومن ثم فإن الأرقام القديمة ذات الخصائص الغريبة لا تزال تشكل الطريقة التي نختبر بها الوقت، ذلك الجانب المجرد والأساسي من الحياة. إن حياتنا، رغم كل شيء، تحكمها الساعات والدقائق والثواني، غير أن الوقت لا يحدث فعلا في هذه الوحدات المنفصلة، أو غيرها؛ فتجزئة الوقت إلى وحدات يمكن قياسها ما هي، في حقيقة الأمر، سوى اختراع من العقل البشري.
4
Unknown page