Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
الفصل الأول
الأعداد منسوجة في حاضرنا
كم عمرك؟ منذ سن مبكرة، وإجابة هذا السؤال طوع بنانك بالمعنى الحرفي، والأرجح أنه لم يستغرق من تفكيرك سوى قدر ضئيل من الثانية لكي تتوصل إلى الإجابة. أيمكن فعلا أن يوجد سؤال أسهل من هذا؟ إن العديد من أوجه حياتك يتحدد بناء على عدد سنواتك؛ أيمكن لك قيادة سيارة بنفسك؟ حسنا، يتوقف ذلك على عدد السنوات التي عشتها. هل أنت راض عما تراه في المرآة؟ إن ذلك يتأثر على الأرجح بعمرك، بدرجة ما على الأقل، وبما تتوقع أن تراه في المرآة. أيجب عليك أن تعمل في وظيفة أكثر إشباعا لذاتك؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال دون معرفة عمرك. إن الإجابة عن هذه الأسئلة والعديد غيرها، والتي تمس صميم هويتك وخبراتك اليومية، لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة إجابة ذلك السؤال الأول البسيط. وهو سؤال عظيم الأهمية، ولا شك، بالنسبة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى مصفوفتنا الثقافية.
بالرغم من ذلك، فنحن الذين نعزو أهمية كبيرة إلى أعمارنا، نجد أنه من الغريب أن يكون ذلك السؤال نفسه لا يعني أي شيء لأفراد بعض الثقافات الأخرى. وليس ذلك لأن أفراد هذه الثقافات يعجزون عن متابعة دوران الأرض حول الشمس، بل لأنهم لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من تحديد كميات هذه الدورات بدقة. على سبيل المثال، لا تمتلك قبيلة موندوروكو من سكان الأمازون الأصليين أي كلمات محددة للأعداد فيما بعد العدد «اثنين». وفي حالة نظرائهم من قبيلة بيراها الأمازونية، فليس لديهم أي كلمات على الإطلاق للتعبير عن الأعداد، ولا حتى عن العدد «واحد»، فكيف يمكن إذن لمتحدثي هذه اللغات الإجابة عن سؤال «كم عمرك؟» وماذا أيضا عن غيره من الأسئلة القائمة على الأعداد، والتي تتناول جوانب أساسية للحياة بالنسبة إلى معظم سكان العالم؟ فلنتأمل بعض الأمثلة الأخرى: ما راتبك؟ وكم طولك؟ وكم وزنك؟ في عالم بلا أعداد، تصبح هذه الأسئلة عديمة الجدوى؛ إذ لا يمكن سؤالها ولا الإجابة عنها. لا يمكن صياغة هذه الأسئلة ولا إجاباتها المحتملة في الثقافات اللاعددية، ليس بالدرجة الأدنى من الدقة على الأقل. وعلى مدار الجزء الأكبر من تاريخ نوعنا البشري، كانت جميع الثقافات البشرية ثقافات لا عددية. إن الأعداد: التمثيل اللفظي والرمزي للكميات، قد غيرت أحوال البشر تغييرا جذريا. وفي هذا الكتاب، سوف أستكشف مدى هذا التحول، والذي لم يحدث إلا مؤخرا، وهو أمر لافت للنظر. سوف أركز كذلك على قدرة الأعداد المنطوقة على إحداث التغيير، لكنني سأتناول أيضا دور الأعداد المكتوبة. ومن أجل وضوح المصطلحات، فإنني أشير إلى الأعداد المنطوقة باسم «الأعداد،» وأشير إلى الأعداد المكتوبة باسم «الأرقام». وعند الإشارة إلى الكميات المجردة التي تصفها الأعداد، فإنني أستخدم الرموز مثل 1 و2 و3 و4 وما إلى ذلك.
خلال العقد الأخير، أجرى علماء الآثار وعلماء اللغة وعلماء النفس وغيرهم من العلماء، قدرا هائلا من الأبحاث عن الأعداد والأرقام، ومن تلك الأبحاث تبدأ كتابة قصة جديدة للأعداد، وهي القصة التي نرويها في هذا الكتاب. وباختصار، تسير القصة على هذا النحو: بالرغم مما كنا نعتقد من قبل، فإن الأعداد ليست مجرد مفاهيم تتولد لدى الأفراد بصورة تلقائية وفطرية. وبالرغم من أن الكميات ومجموعات العناصر يمكن أن توجد مستقلة، بعيدا عن خبرتنا العقلية، فالأعداد ابتكار من العقل البشري، واختراع معرفي قد غير كيفية إدراكنا للكميات وتمييزها إلى الأبد. وربما يكون هذا المفهوم مناقضا للبديهة بالنسبة إلى العديد منا، نحن الذين قد عشنا حيواتنا بأكملها في وجود الأعداد، وقد اقتنعت بها خبرتنا العقلية منذ الطفولة. بالرغم من ذلك، فالأعداد تشبه اختراعا رمزيا آخر مهما لنوعنا البشري ومرتبطا به، وهو اللغة، في أنها ابتكار يختلف باختلاف الثقافة. غير أن الأعداد تختلف عن اللغة في أنها لا توجد لدى بعض الجماعات السكانية في العالم؛ إنها ابتكار يترك أثرا لا يمحى بشأن الطريقة التي يفسر بها معظم الأفراد، وليس جميعهم، خبراتهم اليومية. وهذا التأثير الذي لا يمحى، يكمن في صميم القصة التي يرويها هذا الكتاب؛ فسوف نستكشف فيه كيف كانت الأعداد، وهي أحد الابتكارات الأساسية على مدار تاريخ نوعنا البشري، بمثابة حجر صوان قد أضاء التاريخ البشري.
تتضمن القصة العديد من الأجزاء، وفي جزء لاحق من هذا الفصل، سأوضح الطريقة التي يحاول بها الكتاب أن يخطو من جزء إلى آخر، على طريق متماسك يؤدي إلى استنتاج لم يتشكل إلا حديثا. وقبل أن نتحدث عن تلك الأجزاء، يجب أن أوضح ما أعنيه حين أقول إن الأعداد قد غيرت الخبرة البشرية. ربما تكون الطريقة الأفضل لفعل ذلك هي التعمق في دراسة كيفية إدراكنا لمرور الوقت. لقد أشرت إلى أنك لا تستطيع بالطبع، بدون الأعداد، أن تسمي عدد رحلات الأرض حول الشمس منذ مولدك، لكنك قد تعارض قائلا: إنه ربما لا يزال بإمكانك أن تكون فكرة عن عدد سنوات عمرك؛ فيمكن أن تعرف مثلا أنك قد ولدت قبل أختك وبعد أخيك؛ ومن ثم تستطيع أن تعرف أنك أكبر من الأولى وأصغر من الأخير، ويمكن أن تدرك تغير الفصول، وتدرك أنك قد عشت في دورات فصول سابقة؛ ومن ثم يمكنك أن تعرف على الأقل أنك تبلغ من العمر العديد من السنوات، وربما تعرف أنك قد عشت عددا أكبر من السنوات أو أصغر، مقارنة بمعاصريك. بالرغم من ذلك، فسوف نرى في تناولنا للشعوب اللاعددية في الفصل الخامس، أن الوعي بالعمر بهذه الطريقة يكون مبهما إذا لم يستعن المرء بالأعداد. ويتضح دور الأعداد بصورة أكبر في إدراكنا للزمن، لكن ذلك يتضح بصورة أكبر حين نفكر في مرور الوقت عند أكثر مستوى أساسي له، بخلاف طريقتنا في عد السنوات .
يتطلب هذا التفكير استطرادا موجزا عن كيفية فهمنا العام للوقت. ومفهوم الوقت من المفاهيم التي يصعب فهمها إلى حد ما؛ إذ إنه مفهوم مجرد تماما. ما معنى إدراك الوقت أو الشعور به؟ حسنا، يتبين أن ذلك يتوقف على الأشخاص الذين تسألهم والثقافة التي ينتمون إليها، أو اللغة التي يتحدثون بها. لقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن إدراك الوقت يتباين بطرق عدة لدى بعض الشعوب. وفيما يلي، سأتناول قدرا من هذا التباين الثقافي، وسأقترح بعدها أن الأعداد قد أدت دورا عظيما للغاية في تشكيل خبرتنا عن الوقت، التي تختلف باختلاف الثقافة.
نتحدث كثيرا عن «مرور الوقت» أو «المرور بالوقت»، لقد تحدثت عن ذلك بالفعل في الفقرات السابقة، وأشك في أنك قد وجدت أن مثل هذه الصياغة غريبة. ونحن نتحدث أيضا عن مرور الوقت «ببطء» أو «بسرعة»، غير أن كل هذه التعبيرات مجازية بالطبع؛ فالوقت لا يتحرك فعلا، ولا نحن نمر به. لقد أثبت علماء الإدراك منذ فترة طويلة، أن البشر يتسمون بنزعتهم الطاغية لاستخدام الأشياء المادية، كالأغراض التي تتحرك في المكان لوصف الجوانب المجردة من حياتنا، مثل الوقت، وصفا مجازيا. ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن «حركة» الوقت، أو نتحدث على العكس من ذلك، عن «المرور» بوقت صعب أو «رؤية» وقت صعب «أمامنا» أو عن عدم قدرتنا على الرجوع إلى «الوراء» للماضي، أو عن اختيار «المسار» المهني المناسب، أو عن مواجهة خيار صعب في «طريق» حياتنا وما إلى ذلك. إن متحدثي اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات، يستخدمون عددا هائلا من التعبيرات التي تدل على التأويلات المكانية للزمان، وتجسدها. وأبرز هذه التعبيرات التوجيهية المجازية، هو ذلك الذي يسود الأمثلة التي ذكرناها للتو، والذي يتمثل فيه المستقبل أمامنا، بينما يمر بنا الوقت. بالرغم من ذلك، يتضح لنا أن بعضا من متحدثي اللغات الأخرى لا يرون الوقت بهذه الطريقة؛ فبالنسبة إلى متحدثي اللغة الأيمرية والعديد غيرها من اللغات الأخرى، لا يكمن المستقبل أمام المتحدث، بل خلفه، أما الماضي فهو يقع مجازيا أمام المتحدث. ويتجلى هذا الاتجاه في العديد من التعبيرات المختلفة عن الوقت، وكذلك في إشارات اليد التي يستخدمها الفصحاء في اللغة الأيمرية، حين يتحدثون عن أحداث الماضي والمستقبل. (ويمكننا القول بأن مثل هذه الاستعارة الاتجاهية، ترتبط بالخبرة البشرية بصورة أكثر مباشرة؛ إذ إننا نستطيع بالفعل أن «نرى» ما حدث في ماضينا.) ولهذا، فإن بعض البشر يرون «حركة» الوقت بطريقة تبدو متناقضة تماما مع الطريقة التي نصفه بها ونراه.
1
Unknown page