وأدرك أبو مسلم مما بينه وبين الضحاك في شأن جلنار أنه لم يأت إليه إلا لغرض، فمشى وتبعه الضحاك، وظل خالد في مكانه، فلما انفردا قال الضحاك: «إن هذه المسكينة مزفوفة إلى ابن الكرماني رغم إرادتها، وقد أوصتني أن أحتال لها في الدنو من معسكرك لكي تراك؛ لأن قلبها.» وتنحنح ثم قال: «وإذا أرسلت نظرك إلى القبة رأيتها تنظر إليك من خلال الستائر خلسة؛ فانظر إليها من باب العلم بالشيء.» وضحك.
فرفع أبو مسلم نظره إلى القبة، وكانت قد صارت على نحو خمسين خطوة منه، فرأى وجها مطلا من خلال الستائر، إذا شبهناه بالقمر ظلمناه؛ لأن القمر صحيفة لا ماء فيها ولا حياة. ولو كان لأبي مسلم قلب يهوى ما استخف بعواطف تلك الفتاة المستهامة، ولكنه خلق من عقل ودهاء وطمع وكبرياء، وابتعد قلبه عن محبة النساء. ولا نظن أن قلبه قد عرف نوعا من أنواع المحبة، وإنما هو قلب يهوى العلى، ويهون سفك الدماء، ولا يتحكم في نفسه إلا عقله من حيث الدهاء؛ التماسا لما يتوقعه من الظفر القريب.
أما تلك الفتاة المفتونة فقد خلقت بقلب كبير، ولم تتحرك عواطفها قبل أن تعرف أبا مسلم. والحب كله رجاء، والمحب واسع الأمل. وقد زادها الضحاك أملا بما نقله إليها من حب أبي مسلم، فاستسهلت كل صعب في سبيل مرضاته، فقبلت أمر أبيها ورضيت بالزفاف إلى ابن الكرماني تقربا من معسكر حبيبها، وعملا بإرادته، وأوصت الضحاك أن يحتال في الوقوف هناك ليعلم أبو مسلم أنها جاءت إلى الكرماني صورة، وأن قلبها مع أبي مسلم. فلما رأته ينظر إلى قبتها اختلج قلبها في صدرها، وتوهمت أنها رأت أبا مسلم يبتسم لها ويحييها، فدمعت عيناها وأرخت الستائر وتحولت إلى الداخل، وريحانة معها ولم يخف عليها شيء من أمرها.
أما الضحاك فإنه أحنى رأسه بين يدي أبي مسلم وقال: «ثق بعبدك، وكن على يقين بأني سأخدمك بما يسرك.»
الفصل السابع والعشرون
سياسة التقسيم
ثم حياه وتحول وهو يقول بصوت عال: «فنحن إذن قد أخطأنا الطريق إلى معسكر الكرماني. هلم بنا يا قوم إلى تلك الأعلام اليمنية؛ فإن الكرماني هناك.»
ولما وصل إلى الفيل تناول المقود وأشار إلى أحد العبيد فانطلق مسرعا يعدو نحو معسكر الكرماني؛ كي يخبرهم بقدوم العروس ليستقبلوها. وكان الكرماني قد كتب الكتاب في منزل الدهقان قبل ذلك اليوم ودفع المهر وأبرم الاتفاق.
أما خالد فإنه ترك أبا مسلم يخاطب الضحاك وانصرف نحو المعسكر، فرأى رجلا مسرعا نحوه وهو يقول: «أين الأمير؟»
فقال: «وما الخبر؟»
Unknown page