فصاح فيهم: «إذا لم تسرعوا بي إليه فإنكم نادمون.»
فقالوا: «إذا كنت رسولا فأين الكتاب الذي أنت ذاهب به؟ وإلا فأنت عدونا.»
فطال الجدال بينه وبينهم، وهو لا يجسر على أن يخبرهم بالكتاب الذي يحمله، فأطاعهم خوفا على حياته، وهو يهددهم بما سيلاقونه من غضب أبي مسلم إذا لم يطلقوا سراحه، فأجابه الفارس الملثم قائلا: «سأرسل فارسا يخبر الأمير بأمرك، فإذا أمر بإطلاق سراحك أطلقناك.»
فرضي الضحاك بذلك وأذعن لهم، فساقوه إلى خيمة على أكمة تشرف على معسكر أبي مسلم، فوقفوا به هناك حينا وهو يتوقع رجوع الرسول حالا، فشاعت عيناه وهو ينظر إلى المعسكر وقد توارى الرسول عن بصره وراء التلال والخيام، وإذا هو يرى حركة في معسكر الخراسانيين، ثم سمع قرع الطبول ونفخ الأبواق، فتطلع فرأى الخراسانيين على خيولهم وقد شرعوا الأسنة وساروا، والأعلام السود تتقدمهم يعلوها لواء الإمام ورايته (وكانا بارزين صعدا بضعة أذرع فوق سائر الأعلام) فأيقن أن الخراسانيين سائرون لمهاجمة مرو، ثم وقفوا تجاه المدينة فاستغرب وقوفهم وأرسل بصره حول مرو، فرأى أعلام ابن الكرماني تخفق بين يدي الفرسان اليمنية، وقد ركب رجال الكرماني وقرعوا طبولهم، وشرعوا أسنتهم، وأقبلوا على مرو من جانب آخر، فظن لأول وهلة أن رجال الكرماني قادمون لصد الخراسانيين، ثم ما لبث أن رآهم يسيرون نحو المدينة بعزم ثابت والسهام تتطاير فوق رءوسهم. ولم تمض ساعة حتى دخلوها من أحد جوانبها، وإذا بأبي مسلم ورجاله قد دخلوها من الجانب الآخر، فاستغرب الضحاك ذلك، وزاد استغرابه لما رأى اللواء والراية قد غرسا بباب قصر الإمارة في وسط مرو، فعلم أن أبا مسلم قد دخلها، ثم رأى حامية المدينة يخرجون منها خروج الفارين، وقد عرف من أعلامهم البيض أنهم جند بني أمية، ورأى في جملة الهاربين جماعة من الفرسان عرف من قيافتهم أنهم من كبار القوم، وإذا بأحد الفرسان الواقفين بجانبه يهتف قائلا: «هذا نصر بن سيار قد خرج هاربا.»
فالتفت الضحاك فرأى شيخا جليلا، عليه عمامة بيضاء كبيرة، وقد انبسطت لحيته البيضاء على صدره، وهو يهمز جواده طلبا للفرار، وحوله بضعة من فرسانه، فتذكر أنه يعرفه، ثم تحقق أنه نصر بن سيار ومعه أولاده وأهله - ولم يفر نصر إلا وهو لا يرى حيلة في استبقاء المدينة - فلما رأى الضحاك ذلك كله دهش ونسي أسره، وأعمل فكرته فيما كان يتوقعه من اتحاد اليمنية والخوارج على أبي مسلم، واستغرب عجلة أبي مسلم في الفتح على حين أنهما كانا على موعد من مقتل ابن الكرماني قبل الفتح، فظل الضحاك واقفا وهو مشرف على مرو كأنها بين يديه يراعي حركات الجند، فما لبث أن رأى رجال الكرماني يخرجون من مرو إلى معسكرهم ومعهم ابن الكرماني نفسه، عرفه من رايته، فاستغرب رجوعه بعد تمام الفتح، وتذكر جلنار للحال، وعلم أنها في خوف ليس على حياتها، ولكنها تخاف أن يفي ابن الكرماني بوعده ألا يتزوجها إلا بعد فتح مرو، وقد فتحت ودخلها ابن الكرماني وهان الأمر، ثم تذكر ما تواطأ هو وأبو مسلم عليه من مقتل ابن الكرماني، وضم رجاله إلى رجال شيبان، وتبادر إلى ذهنه سوء الظن في أبي مسلم، وخاف أن يكون قد خدعه بذلك الوعد، على أنه لم ير مسوغا لسوء الظن.
وهم في ذلك إذ رأوا فارسا مقبلا على عجل من جهة مرو، فعرف الضحاك أنه الرسول الذي كان قد أرسله لمخابرة أبي مسلم بشأنه عند القبض عليه، وحال وصوله ترجل عن فرسه وتقدم نحو الضحاك مهرولا وهو يقول: «لقد أخطأنا إليك وإلى الأمير.» وأخذ في حل وثاقه وهو يخاطب رفاقه الفرسان قائلا: «إن الأمير لما علم بالقبض على هذا العربي غضب غضبا شديدا؛ لأنه كان قد أنفذه في مهمة ذات بال، وهو يقول لكم أكرموه وسيروا به إليه الآن في قصر الإمارة.»
الفصل الثاني والأربعون
قصر الإمارة والبيعة
فاطمأن الضحاك وعلم أنهم قبضوا عليه خطأ، فأركبوه فرسا وساروا به إلى مرو، فدخلوها من باب بالين، فشاهدوا الناس في حركة وأكثرهم فرحون بذلك الفتح؛ لأن جمهور أهلها من الفرس وكانوا يقاسون العذاب في سلطة العرب المضرية. وكان نصر قد أراد إصلاح ما أفسده أسلافه فلم يستطع، وذهب سعيه عبثا، وخرجت مرو من يده رغم إرادته. وكان الخراسانيون قد ملوا حكومة العرب منذ تولاهم بنو أمية؛ لأنهم كانوا يسومونهم سوء العذاب؛ يولون عليهم العمال ويوصونهم بجمع المال بأي وسيلة كانت. وكان أهل مرو قبل الإسلام مجوسا وعليهم الجزية، فرغبوا في الإسلام غير مرة، وأسلم كثيرون منهم، فكان بعض العمال يعدون إسلامهم حيلة للتخلص من الجزية، فلا يرفعونها عنهم، فيطالبونهم بالجزية وهم مسلمون، فيرجعون عن الإسلام. وقد فعلوا ذلك غير مرة حتى تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز - وكان مسلما حقا - فبعث إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم. ومن أقواله من كتاب كتبه إلى الجراح؛ عامله على خراسان، وقد شكوه أنه يأخذ الجزية ممن أسلم: «انظر من صلى قبلك فضع عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام فقلت الجزية، فكتب الجراح إلى عمر بذلك، فأجابه: «إن الله بعث نبيه محمدا داعيا ولم يرسله جابيا.»
على أن هذه النعمة لم تدم على أهل خراسان؛ لقصر خلافة عمر، فلما قتلوه وولوا من خلفه عادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وأهل خراسان، وخصوصا مرو، يودون التخلص من حكومتهم؛ ولذلك كان فرحهم بأبي مسلم عظيما، وتهافتوا إليه يهنئونه ويبايعونه.
Unknown page