فتوسم الضحاك من وراء هذا السر خيرا كبيرا لمشروعه الأصلي، فأقبل نحو أبي مسلم بكليته، وهش له وقال: «إني أستغرب تهديدك إياي، وسوء ظنك بي، وقد أوتيت فراسة تخترق بها الصدور، وتكشف أسرار القلوب، فإذا كنت ترتاب في صدق نيتي فاقتلني حالا!»
فابتسم أبو مسلم وقال: «قد علمت مكنونات قلبك، ولكنني أزداد اختبارا، فاعلم أننا لو فتحنا مرو في هذه الساعة، فإنما نهدف من فتحها إخراجها من سلطان بني أمية، ثم لا يهمنا من يتولاها بعدهم. وأعترف لك أني أخشى أولئك الخوارج واتحادهم مع رجال ابن الكرماني - بعد قتل الكرماني نفسه - فإذا كانوا ضدنا أتعبونا، لا سيما إذا حالفوا نصرا؛ صاحب مرو، فهل من سبيل إلى أميرهم شيبان؟ هل تعرفه أو تعرف أحدا يستطيع التوسط بيننا وبينه؛ لنبرم اتفاقا يقينا شر ما نخافه؟»
فلما سمع الضحاك قوله استبشر بالفوز وأيقن بنجاح مسعاه على أهون سبيل، فقال: «أما الأمير شيبان فإني أعرفه، وهب أني لا أعرفه فلا أعدم وسيلة في الاتصال به.»
قال: «صدقت. إن من كان في مثل تعقلك ودهائك لا يعدم وسيلة لذلك؛ لكنني أستشيرك حين أخشى أن أكون واهما في تصوري، وقد استودعتك سري وجعلتك موضع ثقتي؛ فانصحني.»
قال الضحاك: «إذا جاز لمثلي أن يبدي رأيا لصاحب دعوة الإمام إبراهيم، فإني أهنئك على هذا الرأي السديد، وبخاصة بعد أن علمت الغرض الأصلي من القيام بهذه الدعوة؛ لأن هؤلاء الخوارج لا يطمعون في أكثر من الاستيلاء على مرو، وإذا كان استيلاؤهم عليها برضاك كانوا عونا كبيرا لك في سائر الفتوح. ولا يخفى عليك أنهم يكرهون المضرية أكثر من كرههم للفرس، فإذا حالفتهم خدموك ونصروك.»
فأظهر أبو مسلم الارتياح إلى نصيحة الضحاك وقال: «فعلينا إذن أن نتصل بالأمير شيبان، ولست أثق في أحد سواك؛ فهل أعهد بهذا الأمر إليك؟»
قال الضحاك: «إذا كنت تثق في قولي فإني أطوع لك من بنانك.»
قال: «لا أثق بسواك؛ فامكث عندنا الليلة فأزودك في غد برسالة تذهب بها إلى الأمير شيبان، وأترك إلى فطنتك أسلوب إبلاغها بحيث يكون النجاح مضمونا.»
فقال الضحاك: «كن مطمئنا من هذه الناحية.»
قال: «فاذهب الآن إلى مخدعك في هذه الغرفة (وأشار إلى غرفة بالقرب من المكان)، وفي صباح غد أعد لك الكتاب.»
Unknown page