القسم الأول
حلب قبل الإسلام
اسمها زمن إبراهيم الخليل
اسم حلب عربي لا شك فيه. وكان لقبًا لتل قلعتها. وإنما عرف بذلك لأن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، كان إذا اشتمل من الأرض المقدسة، ينتهي إلى هذا التل فيضع به أثقاله، ويبث رعاءه إلى نهر الفرات
وإلى الجبل الأسود. وكان مقامه بهذا التل يحبس به بعض الرعاء، ومعهم الأغنام، والمعز، والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا بمقدمه أتوه من كل وجه، من بلاد الشمال. فيجتمعون مع من اتبعه من الأرض المقدسة، لينالوا من بره، فكان يأمر الرعاء بحلب ما معهم طرفي النهار. ويأمر ولده وعبيده باتخاذ الطعام فإذا فرغ له من ذلك أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التل، فيتنادى الضعفاء: " إن إبراهيم حلب "، فيتبادرون إليه.
فنقلت هذه اللفظة كما نقل غيرها، فصارت اسمًا لتل القلعة. ولم يكن في ذلك الوقت مدينة مبنية.
قيل: إن " بيت لاها " كان يقيم به أيضًا إبراهيم صلى الله عليه ورعاؤه يختلف إليه. وكان يفعل فيه أيضًا، كما يفعل في تل القلعة. لكن الاسم غلب على تل القلعة دون غيره.
وقيل: إن إبراهيم صفى الله عليه لما قطع الفرات من حران أقام ينتظر ابن أخيه " لوطا "، في كثير ممن يتبعه في سنة شديدة المحل. وكان الكنعانيون يأتون
1 / 7
إبراهيم ﵇ بأبنائهم فيهبونهم منه، ويتصدق عليهم بأقواتهم من الطعام، والغنم. وصار إبراهيم ﵇ إلى أرض حلب فاتخذ الركايا، وكرا الأعين، ومنها: عين إبراهيم ﵇ وهي التي بنيت عليها مدينة حلب.
وكان للكنعانيين بتل القلعة في رأسه بيت للصنم، فصار إليه إبراهيم ﵇ فأخرج الصنم، وقال لمن حضره من الكنعانيين: أدعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم هذه الشدة. فقالوا: وهل هو إلا حجر. فقال لهم: فإن أنا كشفت عنكم هذه الشدة، ما يكون جزائي. قالوا له: نعبدك فقال لهم: بل تعبدون الذي أعبده فقالوا: فجمعهم في رأس التل، ودعا الله، فجاء الغيث. وضرب إبراهيم ﵇ برأس ظله حين أقلع الغيث. وتوافت إليه رعاؤه، فكان يأمر أصحابه بإصلاح الطعام، ويضعه بين أوعية اللبن، ويأمر بعضهم فينادي: " ألا إن إبراهيم قد حلب فهلموا "، فيأتون من كل وجه، فيطعمون، ويشربون، ويحملون ما بقي إلى بيوتهم. فكان الكنعانيون يخبرون عن مقام
إبراهيم بما كان يفعله. وصار قولهم " حلب " بطول هذا الاستعمال لقبًا لهذا التل، فلما عمرت المدينة تحته سميت باسمه.
وذكر بعضهم: أنها إنما سميت " حلب " باسم من بناها، وهو: حلب بن المهر ابن حيص بن عمليق من العمالقة. وكانوا إخوة ثلاثة: بردعه، وحمص، وحلب، أولاد المهر. فكل منهم بنى مدينة سميت باسمه.
عند اليونانيين
وكان اسم حلب باليونانية " باروا " وقيل بيرؤا. وذكر ارسطاطاليس في كتاب الكيان: أنه لما خرج الاسكندر لقصد دارا الملك، ومقاتلته، كان ارسطاطاليس في صحبته، فوصل إلى حلب وهي تعرف بلسان اليونانية " بيرؤا " فلما تحقق ارسطوطاليس حال تربتها، وصحة هوائها، استأذن الإسكندر في المقام بها، وقال له: إن بي مرضًا باطنًا، وهواء هذه البلدة موافق لشفائي. فأقام بها فزال مرضه.
بناؤها في قديم الزمان
وقيل: إن الذي بنى مدينة حلب أولًا ملك من ملوك الموصل يقال له:
1 / 8
بلوكوس الموصلي. ويسميه اليونانيون: " سردينبلوس ". وكان أول ملكه في سنة ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسع وثمانين سنة لآدم صلوات الله عليه. وملك خمسًا وأربعين سنة. وفي سنة تسع وعشرين من ملكه وهي سنة أربعة آلاف وثماني عشرة سنة لآدم، ملكت ابنته " أطوسا "، المسماة " سميرم " مع أبيها بلوكوس.
وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب القانون المسعودي، وقال: بنيت
حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى، وكان ملكه لمضي ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتين وستين سنة لآدم ﵇ ومدة مقامه في الملك ثلاثون سنة.
وشاهدت على ظهر كتاب عتيق من كتب الحلبيين بخط بعضهم: رأيت في القنطرة التي على باب أنطاكية، من مدينة حلب، في سنة عشرين وأربعمائة للهجرة كتابة باليونانية، فسألت عنها، فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الحراني أيده الله، أن أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له: أن أباه حدثه: أنه حضر مع أبي الصقر القبيصي، ومعهما رجل يقرأ باليونانية، فنسخوا هذه الكتابة وأنفذ إلي نسختها في رقعة وهي: " بنيت هذه المدينة، بناها صاحب الموصل، والطالع العقرب والمشتري فيه، وعطارد يليه، ولله الحمد كثيرا ".
وهذا يدل على ما ذكرناه، وهو أن بلوكوس الموصلي هو الذي عمرها. وكان قبل الاسكندر.
وذكر يحيى بن جرير التكريتي في كتاب له ضمنه أوقات بناء المدن،
ما يدل على أن حلب بعد بناء بلوكوس خربت، وجدد عمارتها غيره، بعد موت الاسكندر فإنه قال بعد ذكر دولة الاسكندر وموته باثنتي عشرة سنة بنى سلوقوس اللاذقية، وسلوقية وأفامية، وبارؤا وهي حلب، واداسا وهي الرها، وكمل بناء أنطاكية وزخرفها وسماها على اسم ولده انطيوخوس وهي أنطاكية وكان شرع في بنائها قبله أنطيغنوس في السنة السادسة من موت الاسكندر. وذكر أنه بناها على نهر أورنطس وسماها: انطوغينا.
وقال: كان الملك الأول على سوريا، وبابل، " سلوقوس نيقطور " وهو
1 / 9
سرياني، وملك في السنة الثالثة عشرة لبطلميوس بن لاغوس، بعد موت الاسكندر، وألزم اليهود أن يقيموا في المدن التي بناها وقرر عليهم الجزية.
وسوريا هي الشام الأولى وهي: حلب وما حولها من البلاد على
ما ذكره بعض الرواة وفي طرف بلد حلب، بناحية الأحص، مدينة عظيمة داثرة، وبها آثار قديمة، يقال لها سورية وإليها ينسب القلى السورياني، فلعل الناحية كلها ينسب إليها، ويطلق عليها اسمها، كما أطلق بعد ذلك على جميع الكورة اسم قنسرين.
وقال بعض المؤرخين من المسيحية: الذي ملك بعد الاسكندر بطلميوس الأريب وهو الذي بنى مدينة حلب، وسماها " أشمونيت ". وذلك
أنه اختار بناء المدينة في موضع، وأراد أن يكون بها الماء، فخرج ودار حولها، حتى رأى الأعين التي " بحيلان "، فأمر المهندس أن يبني عليهن بناء، ويحكمه، وأن يجريهن إلى المكان الذي هو مرسوم بمنزلة الملك. وجمع الناس للعمل في عمارة المدينة، فاحتفر في وسط المدينة حفيرة بثقها إلى النهر الذي أجراه، وأمر بالقساطل أن تعمل فاختفت، فاتخذت من الحجارة، فتم ما أراد وبنى له بناء في موضع الريحانيين يومنا هذا، واتخذ عليه قصرًا، وبنى المدينة. وآخر ما بناه " باب أنطاكية " ورتب فيها ابنته " أشمونيت "، وسمى المدينة باسمها وأضاف لها جندًا وزوجها " بإيلياوس "، أحد أبناء ملوكهم، وكان قائد جيش الأريب، وصار إلى أنطاكية، وليست من بناء اليونان فإن رسمها قديم، فتمم بناءها، وأضافها إلى إيلياوس زوج أشمونيت.
حكامها
من اليونان
وملك الأريب تسعًا وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس، ولفب
1 / 10
باليونانية: " محب أخيه "، وكانت أخته أشمونيت نائبة عنه، فبقي في
الملك ستًا وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس الاورجاتس ولقب باليونانية بالفاعل فبقي في الملك أربعًا وعشرين سنة. وملك بعده بطلميوس فليفاطر ولقب باليونانية محب أبيه، وأشمونيت وزوجها وولدها يتولون حلب. وملك بعده " بطلميوس محب أمه " وهو ابن أشمونيت وكان ينزل حلب، وعمر على صخرتها قلعة، وحضنها، فخرج عليه في آخر أيامه " أنطياخوس " ملك الروم، واستنجد عليه فلم يكن لمحب أمه به طاقه، فخرج عنها مع أمه، فأسرهما أنطياخوس، وعذبهما، واستصفى أموالهما، وشرع في هدم ما جددت أشمونيت من بناء حلب. فقيل له إن الذي يفعله ليس من عادة الملوك، فكف عن هدمها، وتوعد من يسكن بحلب، فصار الناس إلى غيرها. وعاد إلى أنطاكية فاستحدث بها أبنية لنفسه. فلذلك يزعم قوم أن أنطاكية من بنائه، وليس الأمر كذلك، وإنما له فيها مثل ما لبطلميوس الأريب من التتميم.
ويقال: إن أشمونيت وهي حلب تجاوزت عمارتها ما رسمه الأريب، حتى صارت العمارة إلى جميع الجوانب. وقيل: إن أشمونيت نصبت حواليها مائة آلف نصبة من الزيتون، ومن التين مائة آلف نصبة وغير ذلك من الأشجار الجبلية الشامية. ولم يبق بحلب موضع يتسب إلى أشمونيت غير العين المعروفة بأشمونيت. وماتت أشمونيت وولدها في أسر أنطياخوس تحت العقاب.
وقيل هو الذي بنى
قنسرين، وأجرى الماء إليها في قناة من عين المباركة.
وقيل: بناها غيره. وعرف أنطياخوس ببطلميوس الرابع.
وقيل: إن أشمونيت حال محاربتها أنطياخوس أتتها نجدة من مصر، فهزمته فصار إلى الشرق فمات.
ثم ملك حلب بعد أشمونيت أبطلميوس ابيفانيس " وهو قائد العسكر، وفي زمانه اشترت اليهود منه موضع القلعة المعروفة اليوم بقلعة الشريف فتحصنوا بها، وكانوا يعينون الملك في القتال ويحملون له الأموال.
ثم ملك بعده بطلميوس فيلوبطر، وهلك انطياخوس في أيامه.
1 / 11
من الرومان
ثم ملك بعده جماعة من ملوك اليونان، إلى أن صار الملك إلى القياصرة ملوك الروم فملك منهم عدة ملوك إلى أن ملك أوغسطس قيصر بن مويوخس، فاستولى على الدنيا، وقهر الملوك، وقصد مضر ليستولي عليها، فلما بلغ حلب وكان أمره قد عظم، قال: إن بطلميوس الأريب لم يرض أن ينزل منزلًا لغيره. فسار إلى موضع مدينة قنسرين فأمر القواد أن يأمروا من قبلهم بتحويط منازلهم، وأخذ كل واحد ببناء ما حوطه، فبنى قنسرين وسماهما " مدينة العسكر ". ونقل الأسواق من حلب إليها، ولم يبق بحلب إلا من لا
حاجة للعسكر به. وكانت هذه أعظم من فعل انطياخوس. وقيل: إنه أمر أن ينفق على القناة إليها فأنفق نائبه مالًا على القناة، وأجرى الماء فيها من عين المباركة، وساقها إلى القناطر إلى قنسرين، وبنى بها ثلاثة برك على شكل المثلث، وفايضها ينحدر إلى الأرضين التي تحتها.
وصار الملك بعده إلى جماعة من القياصرة ملوك الروم. وصارت أنطاكية دار الملك، وبها مقام ملوك الروم، وكانوا يدعونها مدينة الله، ومدينة الملك، وأم المدن، لأنها أول بلد ظهر فيه دين النصرانية. ومعظم سور مدينة حلب من بناء الروم. وملك منهم ملك يقال له: فوقاس فسفك الدماء، وتتبع حاشية كسرى، فقتلهم، فتوجه كسرى أنوشروان إلى الشام فافتتح حلب، وأنطاكية، ومنبج، ورم ما استهدم من سور مدينة حلب بالقرميد الكبار، وهو ظاهر في سور المدينة الكبير، فيما بين بابي اليهود والجنان. وجدد كسرى بناء منبج وسماها منبه، وهو بالفارسية: أنا أجود، فعربت فقيل منبج. واستحسن أنطاكية فلما عاد إلى العراق بنى مدينة على صورتها، وسماها ردحسره، وهي التي تسمى رومية، وأدخل إليها سبي أنطاكية. فقيل إنهم
لم ينكروا من منازلهم شيئًا فانطلقوا إليها إلا رجل اسكاف، كان على باب داره بأنطاكية شجرة فرصاد، فلم يرها على بابه ذلك، فتحير ساعة،؟ ثم دخل الدار، فوجدها مثل داره. ولما عاد كسرى عن الشام، قام هرقل بن فوق بن مروقس وجمع بطارقة
1 / 12
الروم، وأولي المراتب، وذكر لهم سوء آثار فوقاس ملك الروم " وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره، وإقدامه على الدماء، ودعاهم إلى قتله فقتلوه، ووقع اختيارهم على هرقل فملكوه.
وفي أول سنة من ملكه كانت هجرة نبينا محمد ﷺ من مكة إلى المدينة، واستولى على حلب، وعلى جميع البلاد، التي استولى عليها أنو شروان وكان جل مقامه بأنطاكية.
1 / 13
القسم الثاني
حلب في صدر الإسلام
قنسرين
فلما افتتح المسلمون أجناد الشمام، وكانت وقعة اليرموك، وقتل
المسلمون فيها معظم الروم، وأمير المسلمين عليهم أبو عبيدة بن الجراح ﵁ انتقل هرقل من أنطاكية، وعبر الفرات إلى الرها، وجعل بقنسرين ميناس الملك، وكان أكبر ملوك الروم بعد هرقل.
فسار أبو عبيدة بعد فراغه من اليرموك إلى حمص ففتحها، ثم بعث خالد بن الوليد على مقدمته إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف لهم الروم،
وثار أهل الحاضر بخالد بن الوليد، وعليهم " ميناس " وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل فالتقوا بالحاضرة فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم يقتلوا مثلهما. ومات الروم على دمه حتى لم يبق منهم أحد.
وأما أهل الحاضر فكانوا من تنوخ، منذ أول ما تنخوا بالشام، ونزلوه وهم
1 / 15
في بيوت الشعر، ثم ابتنوا المنازل، فأرسلوا إلى خالد: أنهم عرب، وأنهم لم يكن من رأيهم حربه، فقتل منهم، وترك الباقين.
فدعاهم أبو عييدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على النصرانية، فصالحهم على الجزية. وكان أكثر من أقام على النصرانية بنو سليح بن حلوان بن عمران ين الحاف بن قضاعة.
ويقال: إن جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة المهدي، فكتب على أيديهم بالخضرة: قنسرين.
ثم إن خالدًا سار فنزل على قنسرين، فقاتله أهل قنسرين، ثم لجؤوا إلى حصنهم، فتحصنوا فيه، فقال: " إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله عليكم أو لأنزلكم إلينا " ثم إنهم نظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص فطلبوا منه الصلح، فصالحوه على حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها.
وكان صلح حمص على دينار وطعام على كل جريب أيسروا أو أعسروا. وغلب المسلمون على جميع أرضها وقراها، وذلك في سنة ست عشرة للهجرة.
حلب
ثم إن خالدًا ﵁ سار إلى حلب، فتحصن منه أهل حلب. وجاء أبو عبيدة ﵁ حتى نزل عليهم، فطلبوا إلى المسلمين الصلح والأمان، فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم، وكتب لهم أمانًا.
ودخل المسلمون حلب من " باب أنطاكية وحفوا حولهم بالتراس داخل الباب، فبني ذلك المكان مسجدًا، وهو المسجد المعروف بالغضائري، داخل باب أنطاكية، ويعرف الآن بمسجد شعيب.
ولما توجه أبو عبيدة إلى حلب بلغه أن أهل قتسرين قد نقضوا فرد
إليهم السمط بن الأسود الكندي، فحصرهم ثم فتحها، فوجد فيها بقرًا وغنمًا، فقسم بعضها فيمن حضر، وجعل الباقي في المغنم.
1 / 16
وكان حاضر قنسرين قديمًا نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزل الجبلين من تزل منهم، فلما ورد أبو عبيدة عليهم أسلم بعضهم، وصولح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلامن شذ منهم.
وكان بقرب مدينة حلب حاضر حلب يجمع أصنافًا من العرب من تنوخ وغيرهم، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية، ثم إنهم أسلموا بعد ذلك، وجرت بينهم وبين أهل حلب حرب أجلاهم فيها أهل حلب، فانتقلوا إلى قنسرين.
وكانت قتسرين وحلب إذ ذاك مضافتين إلى حمص فأفردهما يزيد بن معاوية في أيامه. وقيل: أفردهما معاوية أبوه.
خالد بن الوليد
ولما بلغ عمر بن الخطاب ﵁ ما فعل خالد في فتح قنسرين وحلب، قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني. يعني أن خالدًا كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر ﵁ على الشام، فلما ولي عمر عزله وولى أبا عبيدة.
ثم ولاه عمر ﵁ على قنسرين فأدرب خالد وعياض بن غنم أول مدربة كانت في الإسلام، سنة ست عشرة.
إمارة خالد
ورجع خالد، فأتته الامارة من عمر ﵁ على قنسرين، فأقام خالد أمير، تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحرة وخرج على أبي عبيدة في عساكر الروم، وأبو عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح حلب. فاستمد أبو عبيدة خالدًا فأمده بمن معه، ولم يخلف أحدًا، فكفر أهل قنسرين بعده، وبايعوا هرقل وكان أكفر من هناك تنوخ.
واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر ﵁ بذلك. وأشار خالد بالمناجزة فخالفوه، وخندقوا. وكتبوا إلى عمر ﵁ واستصرخوه.
1 / 17
وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين، وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفًا، سوى أمداد قنسرين، من تنوخ وغيرهم، فنالوا من المسلمين كل منال. وكتب عمر ﵁ إلى سعد بن أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبث المسلمين في الجزيرة، ليشغلهم عن أهل حمص. وأمده عمر
﵁ بالقعقاع ابن عمرو، فتوغلوا في الجزيرة، فبلغ الروم، فتقوضوا عن حمص إلى مدائنهم.
وندم أهل قنسرين وراسلوا خالدًا، فأرسل إليهم: " لو أن الأمر إلي ما باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكني في سلطان غيري، فإن كنتم صادقين، فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة ". فساموا سائر تنوخ ذلك، فأجابوا، وأرسلوا إلى خالد: " إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم ". فقال: " بل أقيموا، فإذا خرجنا، فانهزموا بهم ".
فما علم أبو عبيدة، والمسلمون بذلك قالوا: " اخرج بنا " وخالد ساكت، فقال أبو عبيدة: " مالك يا خالد، لا تتكلم " فقال: " قد عرفت الذي عليه رأي، فلم تسمع من كلامي ". قال: لا فتكلم فإني أسمع منك، وأطيع. فأشار بلقائهم.
فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين، والروم معهم. فاحتوى المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحد.
وما زال خالد على إمارة قنسرين حتى أعرب خالد وعياض، سنة سبع عشرة، بعد رجوعهما من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، فأصابا أموالًا عظيمة.
وقفل خالد سالمًا، غانمًا، وبلغ الناس ما أصابوا تلك الصائفة، وقسم خالد فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق، وكان الأشعث بن قيس من انتجع خالدًا بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهم.
عمر وخالد بن الوليد
وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه من العراف بخروج من خرج منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها. فدعا البريد، وكتب معه إلى أبي عبيدة: أن
1 / 18
يقيم خالدًا، ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته. حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله، أم من إصابة أصابها. فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله، فقد أسرف. واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله.
فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه، ثم جمع الناس، وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: " يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة "؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئًا. فقام بلال إليه فقال: " إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ". ثم تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعًا وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول، أمن مالك أم من إصابة ". قال: " لا بل من مالي " فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده. ثم قال: " نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونحترم موالينا ".
وأقام خالد متحيرًا، لا يدري أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيمًا ولا يخبره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظن الذي قد كان. فكتب إليه بالوصول.
فأتى خالد أبا عبيدة فقال: " رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت، كتمتني سرًا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم لما. فقال أبو عبيدة: " إني والله ما كنت لأروعك ما وجدت من ذلك بدًا، وقد علمت أن ذلك يروعك ".
قال: فرجع خالد إلى قنسرين، فخطب أهل عمله، وودعهم. وقال خالد: " إن عمر ولاني الشام حتى إذا ألقى بوانيه وصار بثنية وعسلًا عزلني، واستعمل غيري ".
وتحمل وأقبل إلى حمص فخطبهم، وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر فشكاه، وقال: " لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر ". فقال عمر: " من أين هذا الثراء. فقال: " من الأنفال والسهمان ". فقال: " ما زاد على الستين ألفًا فلك ". فشاطره على ما في يده وقوم عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفًا، فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد، والله إنك لعلي
1 / 19
الكريم، وإنك إلي الحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. ثم إنه عوضه بعد ذلك عما أخذه منه.
ولاية حبيب بن مسلمة
واستعمل أبو عبيدة على قنسرين حبيب بن مسلمة بن مالك.
وأما هرقل فإنه تأخر من الرها إلى سميساط، وفصل عنها إلى القسطنطينية، فلما فصل علا على شرف، والتفت، ونظر نحو سورية، وقال: " عليك السلام يا سورية سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدًا إلا خائفًا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله وأمر عاقبته على الروم ".
وطعن أبو عبيدة ﵁ سنة ثماني عشرة، فاستخلف على عمله عياض بن غنم، وهو ابن عمه وخاله، وكان جوادًا مشهورًا بالجودة فقال عمر: " إني لم أكن مغيرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة ".
ومات عياض سنة عشرين، فأمر عمر ﵁ على حمص وقنسرين سعيد بن عامر حذيم الجمحي ومات سنة عشرين. فأمر عمر مكانه عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري، على حمص وقنسرين.
ومات عمر ﵁ مقتولًا في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وعمير بن سعد على حمص وقنسرين، ومعاوية على دمشق والسواحل وأنطاكية. فمرض عمير في إمارة عثمان مرضًا طال به، فاستعفى عثمان، واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له.
1 / 20
وضم حمص وقنسرين إلى معاوية سنة ست وعشرين، فاجتمع ولاية الشام جميعه على معاوية لسنتين من خلافة عثمان، فولى معاوية حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري على قنسرين وكان يسمى حبيب الروم لكثرة غزوه لهم.
ومات عثمان ﵁ مقتولًا في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، والشام مع معاوية، وحبيب على قنسرين، من تحت يده.
موقعة صفين
فجرى بين علي ﵇ وبين معاوية اختلاف إلى أن سار كل منهما إلى صاحبه، والتقيا بصفين، وذلك بعد سنة وشهر من خلافة علي، في سنة سبع وثلاثين.
وكان علي في تسعين ألفًا ومعاوية في مائة ألف وعشرين ألفا، وقتل بها من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفًا، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفًا. وكان مقامهما بصفين مائة يوم وعشرة أيام. وكانت الوقائع تسعين وقعة، ثم اتفقا على التحكيم، والتقى الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص بأذرح في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين.
1 / 21
القسم الثالث
حلب في العصر الأموي
خلافة معاوية بن أبي سفيان
ومات علي كرم الله وجهه مقتولًا بالكوفة، في سنة أربعين، ومعاوية متغلب على الشام جميعه، فصالح الحسن بن علي ﵉ وبويع بالخلافة، في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، فمصر معاوية قنسرين، وأفردها عن حمص. وقيل إنما فعل ذلك ابنه يزيد. وصار الذكر في ولاية قنسرين، ووظف معاوية الخراج على قنسرين أربعمائة آلف وخمسين آلف دينار، وحلب للخلفاء من بني أمية لمقامهم بالشام، وكون الولاة في أيامهم بمنزلة الشرط، لا يستقلون بالأمور والحروب، وولاة الصوائف ترد كل عام مع الجيوش الإسلامية إلى دابق. وقام جماعة متهم بنواحي حلب، فإن سليمان بن عبد الملك رابط بدابق إلى أن مات. وأقام عمر بن عبد العزيز بخناصرة إلى أن مات.
1 / 23
ولم يزل حبيب بن مسلمة مع معاوية في حروبه، وقد وجهه إلى أرمينية واليًا، ومات بها سنة اثنتين وأربعين. واستعمل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على غزو الروم، ولشدة بأسه خافه معاوية، وخشي منه، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله. وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها، فمات بحمص سنة ست وأربعين.
وقاد مالك بن عبد الله الخثعمي الصوائف أربعين سنة. وسير معاوية جيشًا كثيفًا إلى بلاد الروم، وجعل عليهم سفيان بن عوف، وأمر يزيد ابنه بالغزاة معهم، فتثاقل، واعتل، فأمسك عنه أبوه. فأصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض شديد، وذلك في سنة اثنتين وخمسين.
وشتا بأرض الروم بعده عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وغزا المسلمون الصائفة في سنة أربع وخمسين كذلك، وفتحوا قرب القسطنطينية.
خلافة يزيد بن معاوية
فلما مات معاوية سنة ستين، وولي ابنه يزيد أمرهم بالعود منها فعادوا.
ومات يزيد بن معاوية بحوارين من أرض الشام في سنة أربع
1 / 24
وستين. وبويع بعده معاوية ابنه بالخلافة في الشام ولكنه لم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك.
خلافة مروان بن الحكم
وبويع بعده مروان بن الحكم، وذلك في سنة أربع وستين.
وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل الضحاك، قتله دحية بن عبد الله، وقتل معه ثمانون رجلًا من أشراف أهل الشام. وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين.
ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا. واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها. ولما مات مروان سنة خمس وستين قام ابنه عبد الملك في اليوم الذي مات فيه.
خلافة عبد الملك في مروان
وأقام عبد الملك بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم، ثم سار يريد قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث الكلابي، ثم قفل إلى دمشق فدبر لعمرو بن سعيد فقتله. واستعمل عبد الملك أخاه محمدًا على الجزيرة وأرمينية فغزا منها، وأثخن العدو، وذلك في سنة ثلاث وسبعين.
1 / 25
وأعاد الكرة في سنة خمس وسبعين حين خرجت الروم من قبل مرعش.
وبعد سنتين غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك، وظل على الولاية إلى أن مات عبد الملك في شوال سنة ست وثمانين.
خلافة الوليد بن عبد الملك
وولى ابنه الوليد بن عبد الملك ومحمد بن مروان على ولايته فما زال كذلك إلى أن عزله الوليد بن عبد الملك في سنة تسعين. وولى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك. فدخل مسلمة حران وكان محمد بن مروان يتعمم للخطبة، فأتاه آت فقال: هذا مسلمة على المنبر يخطب! فقال محمد: هكذا تكون الساعة بغتة! وارتعدت يده، فسقطت المرآة من يده، فقام ابنه إلى السيف فقال: مه يا بني، ولآني أخي وولاه أخوه.
وكان أكثر مقام مسلمة بالناعورة، وبنى فيها قصرًا بالحجر الأسود الصلد، وحصنًا بقي منه برج إلى زماننا هذا.
وكان عبد الملك بن مروان يقول للوليد: كأنني لو قدمت بك قد عزلت أخي وليت أخاك.
ومات الوليد بن عبد الملك في سنة ست وتسعين.
خلافة سليمان
وولي سليمان بن عبد الملك فسير أخاه مسلمة غازيًا إلى القسطنطينية واستخلف مسلمة على عمله خليفة، ورابط فيها سليمان بمرج دابق إلى أن مات به سنة تسع وتسعين.
1 / 26
خلافة عمر بن عبد العزيز
وولي عمر بن عبد العزيز بن مروان، فكان أكثر مقامه بخناصرة الأحص. وولى من قبله على قنسرين هلال بن عبد الأعلى. ثم ولى أيضًا عليها الوليد بن هشام المعيطي على الجند، والفرات بن مسلم على خراجها،
وتوفي عمر بدير سمعان من أرض معرة النعمان، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
خلافة يزيد بن عبد الملك
وولي يزيد بن عبد الملك، والوليد على قنسرين، وكان مرائيًا، سأل عمر أن ينقص رزقه تقربًا إليه، فعلم أنه إنما أراد أن يتزين عنده بذلك، فحط رزقه. وكتب إلى يزيد، وهو ولي عهده: " إن الوليد بن هشام كتب إلي كتابًا أكثر ظني أنه تزين بما ليس هو عليه فأنا أقسم عليك إن حدث وأفضى هذا الأمر إليك فسألك أن ترد رزقه، وذكر أني نقصته فلا يظفز منك بهذا.
فلما استخلف يزيد كتب الوليد إليه: " إن عمر نقصني وظلمني فغضب يزيد، وعزله، وأغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر ويزيد كلها، فلم يل له عملًا حتى هلك.
ومات يزيد بن عبد الملك بالبلقاء في شعبان سنة خمس ومائة.
خلافة هشام
فاستخلف هشام بن عبد الملك.
1 / 27
وولى على قنسرين وعملها خال أخيه سليمان وهو الوليد بن القعقاع بن خليد العبسي وقيل: إنه ولى عبد الملك بن القعقاع على قنسرين، وإليهم ينسب حيار بني عبس، وإلى أبيهم ينسب القعقاعية قرية من بلد الفايا.
وتوفي هشام سنة خمس وعشرين ومائة.
خلافة الوليد بن يزيد
وولي الوليد بن يزيد عبد الملك، وكانت بينه وبين بني القعقاع وحشة، فهرب الوليد بن القعقاع وغيره من بني أبيه من الوليد، فعاذت بقبر يزيد بن عبد الملك. فولى الوليد على قنسرين يزيد بن عمر بن هبيرة، وبعث إلى الوليد بن القعقاع، فأخذه من جوار قبر أبيه، ودفعه إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، وهو على قنسرين، فعذبه وأهله. فمات الوليد بن القعقاع في العذاب.
خلافة يزيد بن الوليد
وخرج يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد، فقتله في البخراء في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. ووثب على عامله بدمشق فأخذه، وسير أخاه مسرور بن الوليد، وولاها قنسرين، وقيل بل ولي قنسرين أخوه بشر بن الوليد، وبويع يزيد، ومات في ذي الحجة من هذه السنة.
خلافة إبراهيم بن الوليد ومروان بن محمد
وبويع إبراهيم بن الوليد، وخلع في شهر ربيع الأول، سنة سبع وعشرين ومائة.
1 / 28