Saytuun iyo Sindiyana
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
Noocyada
وينظر الشاعر - الذي جاوز الستين من عمره - إلى الوراء بكل الحب والعرفان بفضل هذا المعهد عليه؛ ففيه تعرف على عدد كبير من أعز أصدقائه من الشعراء الأحرار رواد
5
ما سمي في أوائل الستينيات بالموجة السكسونية الجديدة، وفيه انهمر عليه الحنان والرعاية من شاعر اشتراكي كبير، كان يقوم بتدريس فن الشعر والإبداع الشعري لطلابه الذين أصبح عدد كبير منهم من الأعلام المرموقين في ساحة الشعر الألماني المعاصر، ذلك هو معلمه وراعيه الطيب الودود «جورج ماورر» الذي يستحق اللقاء القدري الفريد الذي جمعه بتلميذه العربي وقفة قصيرة نتحدث فيها عنه باختصار. (ز) شاءت الصدفة السعيدة، كما قلت، أن يلتقي شاعرنا بعد التحاقه بمعهد الأدب بشاعر كبير ومعلم عظيم يملك علم الأستاذ وحنو الأب وطيبة ونقاء قلب الطفل. كان ذلك المعلم والشاعر والأب الحنون «الفارع الطول ذو العينين العميقتي الزرقة، والجبهة العريضة» كان هو جورج ماورر (1907-1971م) أحد أعظم شعراء العصر، كما قال عنه الشاعر الفرنسي الكبير أراجون.
6
كان الرجل يقوم بتدريس «مادة» الشعر. وكان تلاميذه - كما سبق القول - مجموعة من الشعراء والكتاب الشبان الذين «يبحثون عن المعرفة وعن كيفية تملك ناصية الحرف، وذلك بفضل خبرة معلم يملك ناصية الحرف، ويحمل في جعبته ألف معرفة ومعرفة.»
7
راح المعلم والشاعر الاشتراكي الكبير يبحث مع تلاميذه عن أصواتهم الخاصة، ويهديهم في الوقت نفسه إليها، يكشف لهم عن الطاقات الكامنة فيهم من جهة، وفي الواقع من جهة أخرى. وكان منهجه في التعليم يتلخص في هذه العبارة الذهبية: «ليس هناك بلسم شاف وحيد، فلكل كائن طريقته الخاصة في الوصول للهدف، ولكل شاعر قصيدته الخاصة به دون سواه، ولكل قصيدة روحها وعالمها الإيقاعي والشعوري والفكري المستقل بها». وكان المعلم واقعيا بالمعنى الشعري الشامل لهذه الكلمة، ولذلك أخذ بأيديهم ليبحثوا ويتحركوا في اتجاه «مشتل الواقع» وانطلاقا منه، ويكتشفوا بأنفسهم الطاقات الكامنة في «واقعهم» الباطن، وفي الواقع التاريخي الراهن والماضي والمستقبل بكل ما يختزنه قلبه الجياش بالتجربة البشرية الشاملة من صور وصراعات وأساطير ورموز عند كل الشعوب، وفي كل الحضارات. وباختصار: علمهم من خلال دروسه المفعمة بالحب، ومن خلال أشعاره الغنية بالتعاطف والشجاعة والأمل، علمهم الرؤية الكلية للواقع الحسي والتواصل الودي بين البشر كافة.
والقارئ الذي يطلع على كتاب عادل قرشولي عن هذا الشاعر والمعلم الكبير، ويعايش القصائد البديعة التي ترجمها إلى العربية، سيدرك، في تقديري، مدى تأثيره المباشر وغير المباشر عليه في كثير من الدوائر التي يتحرك فيها شعره، والإشكاليات الفكرية والفلسفية والإنسانية التي تشغل عقله وقلبه: علاقة الأنا مع الآخر، وحدة الذات مع الكون، تواصل الإنسان مع الإنسان والطبيعة، وتراث الأجيال البشرية كلها بغير تفرقة بينها. وسوف يرى القارئ أيضا أن التلميذ السابق قد تأثر بأستاذه تأثرا ملحوظا في نظرته المتفائلة، بل الطوباوية، إلى الواقع والمستقبل، والثقة العميقة بالأدب والفن، وقدرتهما على تغيير العالم والعلاقات الإنسانية، من خلال التواصل الحي الفعال بين الذات والآخر (الذي يمكن أن يكون هو الإنسان أو الطبيعة، أو الحضارة البشرية، أو الماضي أو المستقبل ...) ومن خلال التوحد مع الآخرين، مع الأرض ومع الكون كله.
يقول شاعرنا في قصيدة طويلة وجميلة أهداها إلى ذكرى معلمه وراعيه، وجعل عنوانها: «خضرة النعناعة» (من ديوانه: لو لم تكن دمشق، 1999م، الطبعة الثالثة، ص13-14)، وذلك بعد أن يعرف ببلاد الخرافات والحكايات التي جاء منها «بلاد الألف شمس وشمس، والألف بؤس وبؤس» إلى المدن الكبرى المزدهرة التي دارت فيها عجلة التقدم وسبقت بلادنا التعيسة بمائة عام في أقل تقدير، وانتشرت عليها ظلال اللامبالاة والعقلانية الباردة التي لا قلب لها، بحيث تجمدت الفراشات الذهبية - التي كانت ترفرف في صدر الشاعر قبل مجيئه إليها - فوق غاباتها الثلجية، ونثرت الرياح الجليدية الشك في أغانيه، وبعثرت الألوان من ريشته، ومزقت أوراق عقد الياسمين الذي كان يطوق رقبته ... حتى جاء المعلم الحنون «فألقى بالأصداف النبوية على الثلج، ودل الشاعر الشاب على الطريق إلى قاع النبع، وإلى الكنز الكامن في الغابات الثلجية الأخرى»، أعطاه الكلمة «الخاصة بنا» (إشارة إلى القصيدة المطولة التي ترجمها الشاعر إلى العربية، وجعلها عنوانا لكتابه السابق الذكر عنه)؛ لكي نتحكم في السحاب، ونحتفل بعرس الطبيعة، ونخزن الماء وراء السد، ونواجه خط الموت الفاصل بلا خوف؛ لأن الأولى بالخوف هو قناع الأحياء الجامد. وتستمر القصيدة، في القسم الرابع منها بوجه خاص، في تضمين سطور دالة من قصائد ماورر، هذا الشاعر الذي رصد حركات التقدم في الواقع الاشتراكي الذي عاصره على مهاد رحب من معرفته الواسعة بنضال الإنسان وتضحيات الأجيال، عبر ألوف السنين من تاريخ البشرية.
نعم لقد أعطاه سر الكلمة الشعرية، وأعاد إلى قلمه «خضرة النعناع»، وأكد له صدق البيتين الشهيرين اللذين كتبهما أمير الشعر الألماني «جوته» في ديوانه الشرقي الشهير:
Bog aan la aqoon