ولكن عبد الرحمن وأحمد لم يكونا يوليان المال اهتماما كبيرا، بل كانا على استعداد للقيام بهذا العمل من دون مقابل. •••
وبعد أربع وثلاثين سنة، وعلى مبعدة آلاف الأميال غربا، كان عبد الرحمن زيتون في فراشه صباح يوم جمعة، وقد أخذ يفيق ببطء من حلم أتاه قرب الصباح يحمل شتات ذكرى تلك الليلة غير المقمرة في جبلة. إنه الآن في نيو أورلينز يسمع صوت أنفاس زوجته كاثي الراقدة إلى جواره، ولم تكن زفراتها تختلف عن هسهسة الماء على جوانب القارب الخشبي، وفيما عدا ذلك كان الصمت يسود المنزل، كان يعرف أن الساعة تقترب من السادسة، وأن الهدوء لن يستمر؛ إذ كان ضوء الصباح عادة ما يوقظ الأطفال عندما يصل إلى نوافذهم في الطابق الثاني، كان أحد الأربعة يفتح عينيه، فتبدأ الحركة السريعة، وسرعان ما تعلو الأصوات في المنزل، فما إن يستيقظ أحدهم حتى يستحيل إبقاء الثلاثة الآخرين في الفراش.
وصحت كاثي على صوت رطمة مكتومة في الطابق العلوي، وكان مصدرها غرفة من غرف الأطفال، فأصاخت السمع وهي تدعو الله في نفسها أن يعود الهدوء. كان كل صباح يتسم بفترة دقيقة، ما بين السادسة والسادسة والنصف، تلوح فيها الفرصة، وإن كانت بعيدة الاحتمال، لاستراق بعض النوم ولو عشر دقائق أو خمس عشرة، ولكن صوت الرطمة تلاه صوت رطمة أخرى، ونبحت الكلبة، وتلا ذلك رطمة أخرى. ماذا كان يحدث في هذا المنزل؟ وتطلعت كاثي إلى زوجها فوجدته يحدق في السقف. كان هدير الحياة قد عاد إلى المنزل.
وبدأ رنين التليفون قبل أن يضعا أقدامهما على أرضية الغرفة، وهو ما يحدث في كل يوم، كان زيتون وكاثي يديران شركة للمقاولات المعمارية والطلاء، وكان معظم الناس ينادونه باسم الأسرة «زيتون» لأنهم لا يستطيعون نطق اسمه الأول، وفي كل يوم كان العاملون في الشركة وعملاؤها وجميع من لديهم تليفون ورقم تليفونهما، يتصورون، فيما يبدو، أنه من المناسب أن يتصلوا بهما بمجرد أن تحين السادسة والنصف صباحا، وكانوا يتصلون، وعادة ما كانت المكالمات تكثر في السادسة والنصف تماما إلى الحد الذي يجعل نصفها يتحول إلى جهاز التسجيل الصوتي.
وتولت كاثي الرد على المكالمة الأولى من عميل يقيم في الجانب الآخر من المدينة، بينما انطلق زيتون ليغتسل في الحمام، كان يوم الجمعة دائما يوم ازدحام العمل، ولكن هذا اليوم كان ينذر بالجنون خصوصا بسبب سوء الأحوال الجوية المتوقع؛ إذ كانت الأحاديث المقلقة تتردد طوال الأسبوع عن العاصفة المدارية التي تعبر جزائر فلوريدا الغربية واحتمال اتجاهها شمالا، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال كان يتكرر في شهر أغسطس من كل عام ولم يكن يثير دهشة معظم الناس، فإن عملاء كاثي وزيتون وأصدقاءهما كانوا الأشد حرصا؛ كثيرا ما يتخذون أهبتهم له، وكان المتصلون بالتليفون على امتداد الصباح كله يريدون أن يعرفوا إن كان زيتون سوف يسد الشبابيك والأبواب بألواح خشبية، وإن كان سوف ينتهي من العمل في مبانيهم قبل هبوب الرياح العاصفة، وكان العمال يريدون أن يعرفوا إن كان عليهم القدوم للعمل في ذلك اليوم أو في اليوم التالي.
وأجابت كاثي عن إحدى المكالمات، فبدأت بذكر اسم الشركة «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء» - محاولة أن تبدو يقظة منتبهة. كانت المتحدثة عجوزا تقيم وحدها في منزل فاخر في حي الحدائق، وكانت تسأل إن كان عمال زيتون سوف يأتون لسد نوافذها بألواح خشبية.
وأجابت كاثي: «قطعا، طبعا.» وقدماها تقعان بقوة على أرضية الغرفة، كانت قد استيقظت تماما، كانت كاثي تتولى مهام السكرتارية في الشركة، وإمساك الدفاتر، والمحاسبة، وإدارة العلاقات العامة، باختصار جميع المهام في المكتب، ويتولى زوجها مهام البناء والطلاء، كان التوازن بينهما كاملا، فلما كانت إجادة زيتون للإنجليزية محدودة، وكان لا بد من التفاوض عند عقد الصفقات، كان العملاء يطمئنون عندما يستمعون إلى نبرات كاثي ذات الحروف الممطوطة التي يتميز بها سكان ولاية لويزيانا.
كان ذلك يمثل جانبا من جوانب عمل الشركة، أي مساعدة العملاء على إعداد منازلهم لاتقاء العواصف المتوقعة. ولم تكن كاثي قد شغلت بالها بالعاصفة التي كانت تلك العميلة تتحدث عنها، ولم يكن سقوط بضع الأشجار في جنوب فلوريدا كافيا لشد انتباهها.
وقالت كاثي للمرأة: «سنرسل إليكم بعض العمال عصر اليوم.» •••
كان قد مضى على زواج كاثي وزيتون أحد عشر عاما، وكان زيتون قد أتى إلى المدينة قبل سبعة عشر عاما في عام 1994م، من مدينة هيوستن، ثم باتون روج، وبضع مدن أمريكية أخرى كان قد استطلعها في شبابه، وكانت كاثي قد نشأت وترعرعت في باتون روج وغدت تألف السلوك المعتاد في مواجهة العاصفة؛ تكرر الاستعدادات والانتظار والترقب، وحالات انقطاع الكهرباء، والشموع وكشافات الجيب، والدلاء التي تتجمع فيها مياه الأمطار، وكان للعواصف التي تهب في أغسطس عشرة أسماء أخرى أو أكثر، ونادرا ما كانت أيها جديرة بكل هذه الاستعدادات، وقالت كاثي في نفسها: إن هذه العاصفة التي تسمى «كاترينا» لن تكون مختلفة.
Bog aan la aqoon