بقيت بعد هذا الأمر لا تبرح الدار أسبوعا من الزمان. لكن تلك الأماكن لم تغب عن خاطرها بل كانت تحس دائما كأن دافعا يدفعها نحوها، أو كأن هاته الجمادات تناديها بأعلى صوتها تريد منها أن تشاركها في إقامة ذكر صاحبها. وكم جاهدت أم جازية لتسري عن خاطرها كل هم، ولتجعلها تضحك، فذهب جهادها هباء، واضطرت أن تلجأ إلى السكوت حين رأت أن الابتسامة التي تسمح زينب بها لنفسها أحيانا تزيد منظرها حزنا، وكأن القضاء المخيم عليها والذي يلعب بروحها يوحي لها أن هاته الأشياء المحيطة بها ستنفصل عنها قريبا.
نفد صبرها آخر هذا الأسبوع، فبعد أن تناولت طعام الغذاء مع حماتها وأخوات حسن خرجت من غير أن تخبر أحدا إلى أين تذهب. خرجت من بين جدران القرية، فانبسطت أمامها المزارع الواسعة يفرشها النبات الأخضر من برسيم وغلة وفول يزينها زهره الجميل وما ينط فوقها من القبرات والعصافير وأبي فصادة. وبعيدا تقوم الأشجار وعليها شيء من الحزن الذي يعلو الطبيعة في فصل الشتاء. واتخذت طريقها المعتاد إلى الموردة، وهناك وجدت الترعة ناشفا قاعها وطمي النيلية يكاد يملؤه، وعن يسارها قريبا الشجرة وتحتها المدود ينط على حافته ثلاث فصادات وعصفور. وقريب من المدود التابوت قد غطيت علبته بعيدان القنيش وأميل كبيره ليستريح راحته الطويلة، وحول ذلك كله تمتد الغيطان الواسعة.
وقفت وحدقت بالشجرة فوجدتها سوداء حزينة أشد اكتئابا من غيرها، وحولها صمت مهيب كأنه صمت الموت. وكل الأشياء كاسفة حزينة.
ولم تطق الوقوف طويلا، بل اعتراها التعب وخانتها رجلاها، فراحت إلى مكانها وارتمت فيه هامدة، وجلست تستنطق هذه الأشياء عما بقي عندها من الذكر لإبراهيم. وفيما هي نائمة في أحلامها نط العصفور حذرا يقترب منها رويدا حتى إذا كان إلى جانبها نقر في الأرض والتقط بمنقاره دودة وطار فوقع حيث كان. ولما أكلها واستقرت في جوفه نط من جديد حتى وصل عندها ثم رف جناحه رفة كان بها فوق ركبتها. وحين رآها لا تسأله زايلة ذلك الخوف الذي يعتاد كل هذه الأحياء الصغيرة حذر أن يفتك بها من تقع تحت يده، وجعل يرفع رأسه ويحدق بعينيه الصغيرتين لها. وبعد لحظة أخرى طار إلى كتفها، ومن فوقه انتقل إلى يدها، فلما أحست به لم ترتع له بل أدنته منها، وبنظرات مراض كلها العطف والرحمة رمقت هذا الذي جاء إليها يسألها عن حزنها وضناها. أدنته من فمها تريد أن تقبل جبينه. لكن العصفور طار إلى المدود من جديد وقد تركته الفصادات له.
حجبت السحب الشمس في السماء، وانقطعت حركة الهواء، وداخل الجو من الظلمة ما جعله أشد مهابة وأكثر عبوسا، واعترى النباتات الخضراء من أثر ذلك أن قتم لونها وسكنت حركتها وأصبحت جامدة في مكانها كأنما تنتظر أمرا. ووافق ذلك كله ما في نفس زينب من الحزن، ووجدت فيه عزاء ومسرحا لأفكارها.
ترى متى يعود إبراهيم؟ ومتى يتلاقيان؟ ويوم يرجع ويصل في قطار قبيل الغروب، ثم يدخل البلد محاطا بإخوانه، يجاهد للتخلص منهم ثم يجيء إليها ويرتمي بين أحضانها، ما أسعد تلك الساعة! وما أشدهما فيها هناء! ثم يأتيان إلى هذه الشجرة من جديد، ويجلسان، فيقص عليها حديث أيام العسكرية ورحلة سواكن، ويحكي لها عن أم درمان وما فيها.. وهنا تخيلت المكان الذي يقيم فيه الآن محبوبها، وما يحيط به من الناس والأشياء، وتصورته في ردائه العسكرى واقفا مع صديق من بلدياته يحدثه، ثم يجيء نحوهما آخر، ويتذاكرون من تركوا وراءهم، فتكون هي ذكر إبراهيم والإنسان الذي لا ينسى.
من بضعة أشهر كانا معا تحت هذه الشجرة ينظران معا لهاته الأشياء التي حولها، وهى الآن تنظر إليها وحدها فتجدها عابسة حزينة. وبدل ما كان يقوم فوق الأرض من الذرة والقطن أصبحت تكسوها النباتات الصغيرة، نباتات الشتاء، والأشجار التي كانت مكللة بالورق أصبحت قطوبا جرداء.
وفيما هي في أفكارها اكفهر الجو، وتراكم الغمام، وكاد النهار يظلم، ثم ابتدأ يتساقط الرذاذ خفيفا، والهواء الساكن قد ابتدأ يغادره سكونه، فاهتزت تحته عيدان النباتات التي استقبلت المطر وكلها الشوق له.. ثم تزايد الريح والمطر، وصار يقع فوق هاته اللا نهايات الخضراء من الأرض، وقد نام نبتها بعضه فوق بعض، والسماء تسح من غير انقطاع، والجو دائم الاكفهرار، والغمام متراكم لا يتحول من مكانه، وزينب قد جاءت وراء الشجرة تتقي بها بعض هذا الماء الهتون. لكن الريح التي كانت تتقلب من ناحية ومن أخرى لم تدع لها من الحظ أن تبقى من غير أن ينالها نصيبها من المطر، وبقيت كذلك ربع ساعة، ثم ابتدأ الجو تنفرج غمته والسحب تتبدد، والنهار يأخذ حكمه. ومن بين كسف السحاب المتسابقة في السماء كانت الشمس تنتهز كل فرصة فتبعث بشعاعها على الأرض، وينساب من نورها على المزارع والطرق لجة تكسوها حياة وجمالا. لكنها لا تلبث أن تحتجب ثانية ويرجع كل شيء مستسلما إلى ما كان فيه من الحزن، وتبقى وقد زادها المطر سوادا كأنها لابسة ثوب حزن وألم. •••
وأخيرا رجع كل شيء إلى ما كان عليه من قبل، وصفت السماء فصارت صحيفة زرقاء، ولمعت الشمس فوق المزارع، وعاد الكون إلى حالته الطبيعية، فأخذت زينب طريقها إلى الدار من جديد وثيابها مبلولة، وهي أشد حزنا وسكونا من ذي قبل. وفيما هي سائرة ثارت إحدى ثوائر الريح فارتعدت هي أمامها وراجعها سعالها، ثم وصلت إلى الدار وأسرعت إلى القاعة لتبدل ما عليها.
دخلت فإذا حسن جالس ينظر من الباب المفتوح أمامه وهو مبهوت لمرأى زوجته وما هي عليه من سوء الحال. ولم يمهلها حين دخلت أن سألها أين كانت؟ فأجابته أنها كانت «برا». ورغما عن إلحاحه في المسألة ليعلم منها المكان الذي كانت فيه، أو ما عساها كانت تعمل هناك، فقد ذهب تعبه هباء، فهز كتفه علامة العجز، وهز رأسه علامة الاستغراب، ثم سكت. أما هي فعراها انقباض شديد أمام هذه الأسئلة اهتز لها كل جسمها حتى لم تتمالك أن تقاوم السعال الذي جاءها. وجاءتها نوبة استمرت زمنا احمر فيه صدغها وعيناها، وكانت في كل هزة من هزات جسمها مثار الألم لمن يراها. ثم لما انتهت من هذا أعقبه أن بصقت دما. فنظر إليها حسن بعين ترقرقت فيها الدمعة أو كادت، وثغر يطوقه ألم ظاهر، ووجه جمع في شبابه بين الحزن والحنان وقال: انت مش شايفه يازينب البرد عامل وياك إيه. يعني إذا كنت يا أختي تسمعي الكلام وتفضلي في الدار اليومين اللي انت عيانه فيهم مش أحسن. والا يعني انت عايزاني أحبسك. لأ.. أنا عارف انك ما تحبيش كده، وعارف إن الحبس والتستيت والكلام الفارغ ده مايجيش من وراه حاجة طيبة. لكن بس تقعدي على ما تفوقي من البرد والسعلة.
Bog aan la aqoon