وأخيرا جاء موعد العمل، وقام كل منتظما في صفه وبيده شرشرته، وتبعهم حامد خطوات، ثم وقف بعيدا عنهم، ورجع إلى نفسه يسائلها: أي جنون ذلك الذي أصابه؟!
وجاءت عليهم ساعة كانوا فيها جميعا أشد صمتا من العالم الأخرس الذي يحيط بهم. وتلك الفتاة خادرة خائرة مفككة الأجزاء غائبة الرشد، تائهة عما حولها، تعمل في الخف غير محسة بعملها ولا ترى شيئا من تلك النظرات، يوجهها لها المحيطون بها، مصحوبة بابتسامة حقد من البعض واستهزاء من الآخرين واتقدت غيرة في صدور الفتيات وتخفضت جفونهن.. والجميع سكوت في صمت.
أي شيء ذلك الذي عرى حامد؟ وأي جنة أصابته؟ هل هو ذلك الإنسان العاقل القوي الإرادة؟ ومهما يكن في تلك السذاجة الريفية التي تجعل الفلاحة في بساطتها ذات جمال أمام العين والحواس وتعطيها في حركاتها الوحشية ما يلفت النظر، مهما يكن فيها من الجذب فهل من مقامه أن ينزل إلى ما نزل إليه؟.. ما المرأة إلا شيطان رجيم وحبالة منصوبة يتهافت عليها الرجال المساكين وهم عنها عمون! هي الشر المحض، وكامن فيها السوء كمون الكهرباء في الأجسام متى لامسها الرجل أثارت حولهما هي وهو ما لا يعرف فرمت به الأرض وحطت من كبريائه وعظمته.
جاءت هاته الأفكار إلى نفس صاحبنا وهو في طريقه إلى البلد بعد أن قضى أسابيع تحت السماء الصافية، أو في عشه الصغير، وقد ترك الغيط بمن فيه بعد ساعة من انتهاء المقيل، وجاشت نفسه وهانت عليه دمعته يريد أن يكفر عن خطيئته. إنه عاش السنين وكل أحلامه طاهرة نقية. أفينقضها في لحظة ويأتي عليها من غير ما روية ولا تفكير؟ أينزل من تلك السماء العالية، سماء العفة حيث الملائكة الأبرار إلى مستوى الناس الذين لا يفكرون؟ وهل يكذب ما يعرف الناس جميعا عنه من الاستقامة والدين في ساعة من زمان ومن غير ما سبب؟ ثم كل ذلك مع من؟! مع فتاة عاملة بسيطة! ويل له من مجازف إلى حتفه رام بنفسه إلى التهلكة.. وويل للنساء جميعا يقذفن بنا من حالق عزتنا وعظمتنا ثم لا نكسب معهن إلا ضياع قوتنا وأنفتنا ومالنا! بل ويل للوجود الذي رتب العالم بهذا الترتيب المنكود!
فلما وصل إلى ترعة في طريقه رمى بملابسه إلى البر ونزل إليها يطهر من رجسه ويستغفر الله من زلته ويرمي عن نفسه ذلك الدنس الكبير.. وكلما رأى امرأة سائرة استعاذ بالله من شرها، واستنجد الملائكة الأبرار ضدها، وكلم السماء بصوت عال يصعد إليها وسط سكوت الهواء وسكونه.
وقضى بقية نهاره بين أهله المشتاقين إليه ينظرون إلى وجهه وعليه لون الشمس وإلى أذرعه سمراء مفتولة ويسألونه كيف طعم الفضاء فيجيبهم وباله مشتغل ونفسه قلقة لا يدري أية وسيلة يكفر بها عما عمل.
ثم أقبل الليل وراح إلى سريره فإذا أمامه ظلمة حالكة وهواء مختنق! إذا هو لا يجد ذلك الفضاء العظيم يسري فيه النسيم تنتعش له النفوس والأرواح، ولا تلك السماء ونجومها تتلألأ أمام عينه فيحدق إليها طويلا وكأنه يجد فيها وحيا ونجوى. ثم القمر لا يملك منه إلا شعاعا يسري له من النافذة وذلك الصب العاشق مختبئ وراء الحيطان لا يرنو له ولا يكلمه وكل المكان خبيث الطعم ثقيل على نفسه.
أين الترعة وماؤها الجاري؟ أين الآفاق البعيدة شبه المظلمة مع نور القمر؟.. غاب عنه كل ذلك وغاب ما فيه من جمال وسر.
ولم يستطع النوم فجعل يفكر في يومه المدبر آسفا. ثم انقضت بعد ذلك أيام وهو يذهب إلى المزرعة ساعة الأصيل ويرجع عند الغروب. فلما راجعه الهدوء والسكينة، وجادت عليه تلك الوحدة المطلقة والابتعاد عن عوالم الكون وعن كل الموجودات بما سمح له أن يكون بعيدا عن كل مؤثر قال في نفسه: ساعة رجعت من الغيط وقد أخذت غدائي هناك كان في البيت هنا فاكهة لذيذة وحلوى فجلست آكل وإن كنت شبعان، وما كان أحلى ذلك الطعام وألذه! ثم شربت من بعدها مرطبات عن غير عطش. وذهب لأقول لعماتي وخالاتي «عواف» بعد غيبتي الطويلة عنهن جميعا، وعزمن علي بحلو مما عندهن فأطعتهن ووجدته لذيذا. ولما سهرنا وكان معنا الشيخ سعد وغنى بصوته الحلو وسمعته وجدته لذيذا. قاتله الله ذلك الرجل! كم هو متقن! وكم ذكرني الشيخ سلامة حجازي حين كانت تتشنج أعصابي وأجلس ساكنا والناس كلهم مثلي حتى يفرغ الشيخ من دوره وقد عرت الأبدان قشعريرة الطرب مرات فلا يقدرون على أن يحبسوا أنفاسهم دون أن يصيحوا استحسانا.. كل ذلك كان لذيذا وحلوا ولكنه لم يكن بألذ من تلك السويعة التي قضيتها مستوحشا مع البنت تتعلق بعنقي وتضمني إليها وأضمها إلي أقبلها من خدودها المتوردة. كم كان لهاته الساعة من لذة لولا ما تلاها من الأسى! وأدفعها عني فتقبل علي وتلصق جسمها بجسمي وهي حلوة الروح، والرائحة، تكاد تأخذني إليها وتفنى في أو أفنى فيها. ثم نحن جميعا ثملان بسكرة لذيذة ما أحبها إلينا! وثدياها ناهدان كأن بهما نارا تتقد، ويرتعشان. وكل ما حولها تفوح منه تلك الرائحة المنعشة المخدرة. ثم ساعة تدني ثغرها إلي تدعي أنها تعضني وتقبلني قبلة لا صوت لها، وجسمها كله في تحلله كأنه يموج فيقلب معه عوالم خفية أحس بها كلي من أطراف قدمي إلى شعر رأسي وتسري لها في رعشة أكاد أتوه معها.. كل هذا كم كان لذيذا! هو ألذ من كل تلك الأشياء ثم هم علينا يحرمونه. إنني لم أوذ بذلك شخصا ولا اعتديت على أحد، وإنما تمتعت به متاعي بما سواه مما أبيح ولا حاجة لي به سوى التلذذ والتنعم.. حقا لقد كانت ساعة في العمر لا ينسيها إلا مثلها.. ثم يقال هي عليكم حرام!.. ... نعم يا ضلال الشيطان! في أى شر تريد أن توقعني وإلى أي وهدة تريد أن تقذف بي.. كل تلك لذائذ فانية لا طعم لها. نحن بنو آدم بين الملائكة والبهائم، فإما نزلنا لهذه وقنعنا من الوجود بمقنعها، وإما ارتفعنا لمقام تلك ورضينا أن نحرم من الصغائر. وما كنت، وقد بلغت إلى اليوم ما بلغت، لأنهار من أجل فتاة عاملة، مهما بلغ جمالها، أنحط إلى أسفل الدركات.
بعد ساعة قضاها بين أسى وألم راح في نومه هادئا لا يعي. وتوالت الأيام وهو يبيت في الدار محتملا ضيق تلك الظلمة الكالحة حيث لا ترى عينه نجما ولا قمرا. وكلما دخل إلى نفسه يحاسبها كان معها الشديد العنيد.
Bog aan la aqoon