طال به السكون، فابتدأ يفكر فيما حوله: كم وراء الأفق من عجائب يحار دونها الذهن! كم هناك من حيوانات وأشياء لا عدد لها هو على قربه منها جاهل أمرها كل الجهل! والتوابيت البعيدة لا يكاد يتميز صوتها لبعدها. ماذا يعمل الناس عندها؟ أهم سكوت ذاهبون في أحلامهم؟ أم يعملون مجدين لإحياء زرعهم؟ لا بد أن يكون في يد كل منهم طنبور صغير يديره فيساعد به صديقه الحيوان ويضاعف العمل ويربح الوقت، والوقت من ذهب..
وهناك قريبا منه أشياء لا يعرفها، موجودات تتمتع بالنسيم والماء وبهدأة الليل وستاره مثلما يتمتع. ثم عوالم السماء!.. ما أغرب هاته النجوم اللامعة تبسم لنا عن نفس طيبة؟ هل هاته الأشياء الصغيرة شهدت مبدأ الخلق وتبقى إلى آباد لا نهاية لها، في حين نمر نحن في فترة من الزمن قصير أجلها؟ ومع هذا العمر الطويل هي متواضعة لطيفة، وكأنما علمها تعاقب الأيام أن من الحمق تعاظم من يسير تحت سلطان كل ما حوله من صغيرة وكبيرة!.. أليس عجبا أن تمسك نفسها هكذا في الفضاء وهي ثابتة غير ذات حركة، أم تتهادى مبطئة مبطئة؟!
ثم ماذا تحت الأرضين؟ من يدري؟ تحتها أجداث الأموات وحفر الأحياء تحتها جذور الشجر وأصول النبات! تحتها سكون الموت وضجة البراكين! تحتها ما لا نعلم.
والقمر ما أشد نحوله! لا بد أن يكون صحيحا أنه مسكون بأحياء، وأن يكون هؤلاء كلهم عشاقا مغرمين، وأن يكونوا من الهيام بمن يحبون بحيث يصبحون أشباحا فانية ويبعثون على كوكبهم ذلك النحول الذي يعلوه.
وبقي بعد ذلك محدقا بعيون ثابتة إلى الكوكب المضيء يناجيه ويسائله، وهذا الأخير يتخطى في السماء خطاه البطيئة الهادئة.
ثم «بهتت» السماء مرة أخرى وكادت تغيب النجوم، فعلم حامد أن الصبح صار قريبا، فقام يسير وسط المزرعة يرى مقدار ما سقاه الماء منها. ووصل إلى حد الشارب من الأرز، فوقف ونظر إلى ما أمامه وإلى ما خلفه ثم إلى السماء فإذا هي تظلم من جديد. تظلم تلك الظلمة التي تجيء لحظة ما بين الفجرين. ثم انجلت فرجع هو إلى عشه ونادى بالعامل معه أن يوقد نارا يسخنون عليها بعض ما عندهما من العيش ليتناولا لقمة الصباح.
وهناك بعيدا عند الأفق ابتدأت الشمس تبعث برسلها. وهما قد انتقلا للمصلى وجلسا فيه ساكتين لا يتكلمان. وحامد محدق لذلك الشرق البديع تسيل سماؤه ذهبا ويعانق بكله النباتات التي عنده. ثم ظهر القرص كبيرا يتهادى بين الأرض والسماء كأنه في مهده تهزه الملائكة ولا يزال عليه غطاؤه المتورد. وجعل ينكشف رويدا رويدا، ويعتلي الطبقات مسرعا أولا ثم على مهل، ويرسل حوله من ناره ونوره ما يذيب كل ما يحيط به، ويبدلها بدفقات من النور تبيض لها زرقة السماء.
وهكذا جاء النهار بضجته وصياحه وتقدم حتى إذا أذن وقت الزوال انزوى حامد في عشه وأخذ راحته، ولم يستيقظ إلا عند المغيب.
مرت ليلته كما مرت الأولى، وكل الفرق بينها أن القمر تأخر نصف ساعة عن مشرقه بالأمس.
وليال وأيام تمر وحامد كلما اختلى بالليل وضمه لصدره نسيمه العذب بخيالاته وأحلامه إلى أشياء عدة: فمرة للسماوات والأرضين وأخرى للناس البعيدين عنه وراء، الأفق، وثالثة للعجماوات الخرساء وما تكنه في صمتها وسكوتها من السر العجيب. وقد اعتاد زن التابوت أن يحيي بعض الشيء الموت المحيط به، يرن في جوف الليل القاتم، فيؤنس الجالسين حوله، كما ألف الوحدة والبعد عن الناس.
Bog aan la aqoon