في تلك الليلة الأخيرة يملأ الفرح صدورهم ولا يعرفون أطال الليل أم قصر. ومن بينهم صغير يحلم بمرأى أخيه الأصغر منه فارقه من عام بعد أن عاش معه كل أيام حياته، كما يتشوق أن يجلس إلى جانب أمه بعد غيبة ما كان أطولها عليه! فيحدق إليها ليرى في ذلك الوجه الذي ينم عن الحنان والعطف ما عهده من قبل أن يقضى عليه بفراقها، وكبير اعتاد الغربة وضربت بينه وبين أهله السنون الطوال حجابا من النسيان يندفع السرور إلى نفسه، فلا يعرف له سببا، ويحس معه بشيء من الوحشة لمغادرة البلد الذي قضى فيه أكثر أيام حياته. لا يرد على باله خيال أمه ولا ذكرى عائلته، وإن كان لأخيه الصغير الذي لا تزال تحفه عناية الطفولة الدائمة في النفس ما قد يفسر له معنى السرور الذي أحس به. •••
جلس حامد بعد أن تفرق إخوته إلى مضاجعهم وكلهم ينتظر الصباح. جلس لينظر إلى غرفته نظرة وداع قبل أن يقوم إلى مرقده، فأحاطت عينه بكل ما فيها، واتكأ بيده على مكتبه وسط ذلك الصمت، ورنا نحو مكتبته وما تحويه من بديع الكتب. ثم جاء إلى خياله صورة الليلة القادمة وهو جالس إلى جنب دولاب قل ما يحويه، وأمامه مكتب أجرد لا ورقة عليه. أو يأتي إلى سريره بعد قضاء سهرته مع أهل البلد يقرأون الجرائد التي لا تجيء عمرها بجديد، بل تكرر اليوم ما قالته بالأمس أو منذ شهر أو سنة من الزمان، وستكرره غدا وإلى ما لا نهاية، ويصفقون استحسانا للكاتب البارع الذي يعرف كيف يغير كل يوم مواضع ألفاظه، وليست وظيفته إلا أن يزجي إلى العقول ما في رأسه من أربع كلمات أو خمس يذيلها بتافه الحوادث التي ينفخ فيها ليظهرها عظيمة حتى يصل يوما ما إلى تعميم ما يعتقد من واجبه أنه يعممه.
ذكر حامد ذلك في غرفته في تلك الساعة الهادئة من الليل، فكاد يأسى على فراق مصر. ولكن هون عليه أن ذكر إلى جانب ذلك هذه المزارع الواسعة على خطوتين من البلد يسرح فيها ببصره، ويذهب بخياله إلى غايات لا يحيط بها في غرفته هذه، والليالي الساهرة يقضيها في الغيطان، يرقب البدر في سماء الصيف الصافية وتألق النجوم إلى جانبه، في تلك اللجة تضيع أمام العين ولا أفق لها، وسكون الليل يقطعه نقيق الضفدع وصفير الصرصور أو زن التابوت يسكت كل تلك العجماوات الناطقة، وتسعده سلامية الفلاح الساهر في عمله ترن في الوجود، ويحملها هواء الليل يهيج لها الكون طربا. وذكر ذلك كله فتعزى عن غرفته ومكتبه.
لكنه ما لبث أن سمع في نفسه صوتا يناجيه: ... صحيح. كل ذلك جميل وفيه عزاء. ولكن أليس هناك عزاء أكبر في مرأى أمي وأبي والجلوس إليهما والحديث معهما؟ فهل يبلغ بي العقوق أن أنساهما حين أذكر الليل وروعته والفلاح وقيثارته؟ هل تدفعني الأنانية أن أسمع صفير أصوات الظلمة قبل أن أسمع صوت أمي في تحية استقبالي؟ يارب غفرانك وعفوك.. ألا يعدو وجودي معهم كتبي ومكتبتي؟ أولا أجد عزاء فيهم لأفر إلى الطبيعة وسلوانها؟ ما الطبيعة وجمالها؟ وما الكون وحركته إذا خلا ذلك من قلب يحب الإنسان ويحس معه؟! فإن وجد هذا القلب أفلا يكون هو صاحب الذكرى الدائمة، والصورة المطبوعة في الصدر؟
اللهم تعلم ما عن قصد أجرمت! أنت تعلم مقدار حبي لأمي وأبي، فاعف اللهم عن زلتي! ألا هل يبلغ النأي أن ينسينا من نحب؟ وهل تقضي الأيام على عواطفنا حتى لا نكاد نحس بها؟ نعم هي تلك السنين الطوال التي قضيت بعيدا عنهم أدخلت إلى نفسي الأثرة والأنانية.
والواقع أن الغربة والبعد عنهم هو الذي جعله ينسى الدار وما فيها. وما شأنك بإنسان صرف الشطر الأكبر من حياته بين خلان المدرسة، ويرجع أيام الصيف فلا يجد في البلد إلا جمودا وسكونا؟.. أقوام لا تبين عليهم علامات الارتباط، ولا يظهر من شكلهم أنهم يعيشون معا، بل كل في ناحية يفكر وحده ويجلس منفردا إلا إذا ساقته الضرورة ساعات الطعام للوجود مع أهله، وهنالك يعلو الجميع سكوت كأنهم في مأتم بين أهل الميت ومحبيه. حينذاك يحس أن بينه وبين رفقة المدرسة من الود وعدم التكلف ما ليس بينه وبين أهله. وليس عجبا أن ينتج التفريق ما أنتج في نفس حامد، ويدع القلب أشد شوقا للطبيعة وذكرا لآثارها التي تصحبه حيث حل وأينما كان منه لجماعة كل صلة بينه وبينهم في تلك الأيام التي يبدأ القلب فيها يتفتح ليعرف الوجود أنهم يقدمون له ماديات العيش، وبشكل لا يظهر له فيه منهم أثر ...
وأصبحوا جميعا في بلدهم الصغير المحبوب يحيط بهم أفقه، ويمرحون أحرارا تحت شمسه الشديدة وسمائه الصافية. والمزارع يقوم عليها القطن قد ظهر وسواسه يبسم بشيرا بما يكن من اللوز ويغطي اللا نهايات الواسعة تنطبق الأرض والسماء دونها، أو هي حصيد لم يبق عليها إلا بقايا ناشفة من جذور الغلال تلوحها الشمس طول النهار فتساعد بشقوقها الواسعة تقدح حرورا كأنها عين الشيطان، حر الصيف الشديد، وإن لم يكن لها على لياليه الساهرة الرائعة من سلطان.
فلما تنسم حامد ريح القرية، وقد انتقل فجأة من ضجة العاصمة إلى هدأة الريف وسكونه، ومن العمل المستمر بين الأوراق والكراسات والكتب إلى الفراغ يشغله ما بين نوم وحديث مع بعض إخوانه في ذكرى المدرسة، شعر بما في هاته الحياة الجديدة المتشابهة - ينطبق كل يوم فيها على ما بعده وعلى ما قبله - من المضايقة، إلا أن يخلق الإنسان لنفسه شيئا من لا شيء، وواجبات يؤديها لتنويع طعم العيش.
غير أن كل شيء يكسب بالزمان حقا في الوجود، والعادة تذهب عن النفس الاشمئزاز مما يدعو إلى اشمئزازها لأول ما تلقاه، والفراغ على ثقله لمن لم يعوده يصبح لذيذا في أيام معدودة، ويسمح للإنسان بالراحة والتمتع بإرسال خيالاته وأحلامه إلى ما لا حدود له. هنالك يختص بعالم عظيم لا يزحمه فيه أحد، ولا يجد فيه منافسا، بل يسرح ويمرح كما يحلو له، وكما يصور له هواه، فلا يجد إلا هواء معطرا أو سماء صافية وأماني تتحقق أيا ما تكن. وهيهات لمن دخل هذا العالم الجميل أن يلاقيه إلا السعادات والمسرات.
ذلك كان شأن حامد: خرج من تلك الأيام التي كان يجد نفسه فيها مسوقا إلى خلق عمل يعمله تجنبا للملال، ودخل جنة الخيال والحلم. يقضي نهاره على أي شكل يكون، فإذا تطوحت الشمس نحو مغربها ترك البلد إلى المزارع، وبعث حوله إلى الأفق أحلى الأماني. يسير الهوينا غير قاصد مكانا، ويتخذ من الطرق ما يقابله، فينساب بتلك الخطوة الثقيلة الهادئة بين الغيطان، لا يعرف موضع قدمه ولا يئوب إلى نفسه إلا حين يزعجه بعض المارة بتحيات متكررة.
Bog aan la aqoon